يتردد كثيراً في أجهزة الإعلام هذه الأيام مصطلح ” الإبراهيمية ــ الديانة الإبراهيمية “، لفظة تتردد في الأجهزة الموالية للغرب والتي تتولى تسويق سياساته، وبعض الناس يحتارون في إدراك كنهة هذا المصطلح وأبعاده، ولكن وكالعادة هناك من رجال الدعاية (Propagande) ممن يعتبرون أنفسهم إعلاميين (وهناك فرق بين المهنتين)، من يعملون كمروجين ومسوقين بالأجرة، فيحاول,k أن يشرحوا هذا الدين السياسي الجديد، ويعرضوا متانته وقوته، والفوائد التي ستجنيها شعوب الشرق الأوسط …. وهم يدركون تمام الإدراك أنه يعرض سلعة مزورة … فشأنه شأن من يبيعون جوازات السفر المزورة في الأزقة المظلمة ..!
المصطلح الجديد يفتقر جداً ل (Argumentation)، ويفتقر أكثر للمحتوى لكي يمثل قوام “الأساس” (Fundament) .. فلنقل : الأساس النظري أو الروحي، وحتى كمبرر تلفيقي يمثل العنصر المساعد في تجرع هذه الفرية الكبيرة، التي حكمت على نفسها بالفشل لأنها فقيرة جداً ولا تمثل شيئاً يستحق الذكر.
يزعم مروجوا الدين الجديد أن إبراهيم بوصفه أب الأنبياء، فهو بهذا المعنى مثل نيكولاي غوغول الذي خرج الأدب الروسي من معطفه، فإن الأديان السماوية الثلاثة وهنا بيت القصيد : اليهودية والمسيحية والإسلام هي من أرومة واحدة ومن معطف إبراهيم … حسناً وماذا بعد … أن هذه الديانات هي واحدة … وهذا يتيح لي أن ألعب كما أشاء في هذه المنطقة ..!
بهذا المنطق المفلوج يسوقون السموم، منطق يصطدم فوراً ببديهيات واضحة كنور الشمس التي لا تغطيها عشرة غرابيل. إذا كان الأمر كذلك فلماذا لا تتحد أولاً الطوائف المسيحية الثلاثة: الأرثودوكسية والكاثوليكية والبروتستانتية، والطوائف اليهودية المختلفة : مثل الصدوقيين واليهودية الهلنستية خلال فترة الهيكل الثاني، والقرائيين والسبتانيين خلال الفترة المبكرة واللاحقة من العصور الوسطى، وبين شرائح الطوائف غير الأرثوذكسية الحديثة. والفروع الحديثة لليهودية مثل اليهودية الإنسانية، أكبر الحركات الدينية اليهودية هي اليهودية الأرثوذكسية (والتي تضم اليهودية الحريدية واليهودية الأرثوذكسية الحديثة) واليهودية المحافظة واليهودية الإصلاحية.
وسؤال بديهي آخر يطرح نفسه، إذا كانت هذه النظرية صحيحة، فهل هذا يعني أنها ستشمل العالم كله …؟ وماذا عن البوذيين وعن الديناات الأخرى وهم بالملايين كالسيخ والهندوس ..!
ولماذا كل هذه المشاق .. إن كان لطرف من الأطراف فكرة تحالف سياسي أو اقتصادي فليعرض الفكرة وفوائدها ومحاسنها … وكفى الله المؤمنين إبراهيميين أو غيرهم شر القتال ..!
وثمة وجهة نظر أخرى، إذا كان طرف، كان من يكون قد ضجر من انتماؤه الديني، فليعبر عن ذلك صراحة، ولماذا يطرحه ويسوقه للناس كمنهج جديد ..!
ولندخل لصلب الموضوع … إذا كان طرف من الأطراف يريد أن يلتحم مع دولة واحدة أو عدة دول فليفعل ذلك وهذه لا يحتاج لا لإبراهيمية ولا لديانة أخرى، المطلوب فقط أن تكون النوايا مخلصة ولا تنطوي على رغبات دفينة بالتوسع.
سأسهل الأمر على من يريد التوسع ويتخذ من الأديان لافتة مهترئة … هذه دروب مكشوفة، غير مخلصة، ومن يريد أن يطبل فليفعل بغير هذا الطبل … فهذه طبول ممزقة، وقد حاولت جهات التوسع حتى بأسم الإسلام وفشلت، وهناك من حاول التوسع بأسم الطائفية وفشل … وهناك قوى استعمارية عملاقة اقتصاديا وعسكرياً حاولت أن تتسع بواسطة التبشير وفشلت أيضاً، وسأقول أيضاً لم وضع هذه الفكرة برأسه أن القوى الاستعمارية القوية المتمكنة والتي غلفت التبشير بمغريات لا تقاوم، فأقامت المدارس، والكنائس، والمستشفيات، على شعوب فقيرة وبائسة، في أفريقيا وفشلت كذلك … ولم تنجح إلا بجهد جهيد بكسب أقلية ضئيلة جداً وحتى هذه الأقلية الضئيلة رفضت الأستعمار والدعايات الاستعمارية.
ولينظروا إلى الفرس، الذين حاولوا أن ينجحوا بأستخدام أساليب مشابهة وأجمل، فمنحوا المنح الدراسية لطلبة يدرسون في جامعاتهم، وربما بعضهم في مجال الدراسات الدينية، وأخذوهم زيارات إلى إيران ليقضوا أيام ” ممتعة ” ولم يقصروا بالانفاق عليهم، وما نجحوا إلا بشق الأنفس مع أعداد قليلة لا تستحق هذا العناء .
أقول لكل من يحاول تمرير أفكار ومشاريع سياسية أن يتذكر هذه الأمثلة الحقيقية وهي ليست قديمة بل معاصرة، وليتذكر أن الدين هو نظام اعتقادي يحدده الإنسان بنفسه، بعلاقته بالخالق، وبالتالي الأمر أبعد ما يكون عن طريق إصدار مراسيم، وتشكلات فنية. وفي العمل السياسي تتجه حتى الحركات الدينية صوب العلمانية، ومشكلات المجتمعات اليوم لا تحلها توجهات دينية، بقدر ما يحلها تعاون اقتصادي وسياسي.