لم يكن القلق الروسي مجرداً من دلالاته في تعليق الكرملين على حادثة إسقاط الطائرة الروسية من قبل الإرهابيين، وإن كان مقصوداً ومتعمداً في الحالة التعبيرية التي تعيد الكثير من الافتراضات إلى سياقها، باعتبار أن الرسالة المتضمنة تفيد بأن التصعيد الأميركي في السياسة يقابله تصعيد ميدانيً من قبل الإرهابيين،
ونقطة الالتقاء فيه أن لدى روسيا القناعة الكافية والقرائن الدامغة على أن حصول الإرهابيين على مضادات طيران لم يكن خارج المعرفة الأميركية في حدودها الدنيا، وربما كان بتنسيق وتوجيه ورعاية مباشرة.
لكن.. بغض النظر عمّا تؤول إليه التأويلات، فمن المؤكد أن التحذير الروسي من خطورة امتلاك الإرهابيين لهذا السلاح لم يأتِ من فراغ، ولا يعود إلى موقف سياسي، بقدر ما يعكس رؤية روسية مسؤولة عن مخاطر المشهد وما يحمله، والتي لا تتوقف على الحالة العسكرية بما فيها من تحديات، بل تتماشى إلى حد بعيد مع معرفة ويقين عن المحاولة القسرية التي تمارسها أميركا لتطويع المقاربة الجذرية والسقوف التي رسمتها للتعاطي مع الحالة الإرهابية القائمة ومرتسماتها على الأرض.
فمسألة العلاقة التي تربط أميركا بالتنظيمات الإرهابية ليست خارج سياق المعرفة والاستدلال على الحالة، ولكن دائماً كانت المعضلة بالسقوف التي ذهبت إليها أدواتها الداعمة لهذه التنظيمات، والتي اتخذت من الضوء الأخضر الأميركي برعاية ودعم تلك التنظيمات ممراً لتجاوز كل السقوف وكسر الخطوط الحمر التي ترتسم عادة في العلاقات الدولية.
من هنا.. كان التحذير الروسي أبعد عمقاً من تعابير القلق التي وسمت بيان الكرملين، حيث يكون من البديهي أن تبني السياسة الروسية على الأمر مقتضاه في ردود تقتضي التمعن في حدود ومساحة الحالة الوظيفية التي تؤديها الأدوات الأميركية، والتي باتت ذراعاً ممسوكاً من قبل التنظيمات الإرهابية تمارس من خلالها حماقة غير مسبوقة، باعتبار أن المشهد الإقليمي لا يحتمل مثل هذه الحماقات، إضافة إلى كونه ليس محصوراً ولا هو حكر في تداعياته على الإقليم وما يجاوره.
فإسقاط الطائرة الروسية يمثل حجر الزاوية التي حركت مياهاً ساكنة وقضايا وملابسات مسكوتاً عنها، والتي تتقاطع مع قربة الكيماوي وما ترسمه المحاولة الأميركية من تجيير مجلس الأمن كمنصة إضافية بالتوازي مع حالة التصعيد. وهي مأخوذة في شقها الأساسي من معادلات وتجاذبات تدفع الشعوب فاتورة باهظة جراءها عادة، والفارق فيها أن الدول والحكومات باتت أمام مساءلة فعلية لمعرفة هوية من سهّل ومن دعم، وهي بالإدراك الحسي البسيط ليست مجردة من أوراق خطرة قابلة للاستخدام المزدوج.
في التجربة العملية مع الأميركيين على مدى عقود خلت، وفي سنوات العقد الحالي، وتحديداً الأخيرة منها التي شهدت استعصاءات بالجملة من داخل المشروع الأميركي ومن خارجه، تتضح معالم السلوك الذي تشرعن فيه الإدارة الحالية كل مسوغات وذرائع وحجج الرعونة السياسية، وهي مدعومة باستراتيجية تعتبر فيها روسيا والصين دولاً متخلفة!! والبقية الباقية من دول العالم إما مارقة أو مجرد أدوات تابعة في سياق الهيمنة الأحادية وحنينها إلى الاستلاب الذي مارست من خلاله أقصى درجات الاستباحة لمقدرات الشعوب والدول سوية.
الفارق الأساسي أن الدبلوماسية الروسية لا تغيب عنها هذه الحقيقة وتلمّ بتفاصيلها الدقيقة، وأن الواقع العملي للعلاقات الدولية قد رسم خطوطاً متوازية تتقارب فيها محاكاة الواقع من منظور أن عصر التفرد والقطبية الأحادية إلى أفول، وإن لم تقرّ أو تعترف إدارة ترامب بذلك، وأن جديد العلاقات الدولية لا يسمح بمرور هذه المعادلات عفو الخاطر، أو من دون ترك مساحة للمساءلة السياسية وتحميل أميركا التبعات السياسية وغير السياسية.
حصول الإرهابيين على أنظمة دفاع جوي كان لعباً أميركياً بالنار الإرهابية، سواء أكان بمعرفتها ومباركتها أم حصل من دونها نتيجة الفوضى في سلوك دول وظيفية لم تصل في مرحلة من مراحل وجودها إلى سن النضج السياسي، وظلت تعاني من أمراض مراهقة سياسية خطرة على الشعوب والدول معاً، وهذا ما يمكن قراءته بوضوح في مشهد المقاربة الحالية وتزامنه مع صياغات وسياسات أميركية خلطت الحابل بالنابل.. وجمعت في سلتها أكاذيبها وفبركاتها لتحاجج بها العالم.