استجابة السيد رئيس مجلس الوزراء السريعة لمطالب المتظاهرين ( وان كانت على الورق لحدّ الآن ) أمرٌ جيد ويُحسبُ لهُ من باب الشعور بالمسؤولية ، وربّما من باب امتصاص غضب الشارع العراقي لكي لا يفلت زمام الأوضاع عن السيطرة ومن ثم تعمّ الفوضى ويحدث الهرج والمرج ( لا سامح الله ) . ولكنني أطرح بعض النقاط المهمة التي لابدّ من الاشارة اليها بحكم منطق العقل والقانون وكما يلي :
أولا : من الواضح أن مطالب المتظاهرين الغاضبين في جميع المحافظات متشابهة الى حدّ كبير باستثناء بعض المطالب الخاصة بكل محافظة . وكان الأجدرُ بالسيد رئيس مجلس الوزراء اقرار القرارات بشكل عام ولجميع المحافظات حتى التي لم يتظاهرُ مواطنوها لحدّ الآن باعتبارها محافظات عراقية متساوية بالحقوق والواجبات وفق الدستور والقوانين والمسؤولية الأخلاقية . أمّا أن يتم توجيه القرارات للمحافظات الغاضبة من أجل امتصاص غضبها فهذا الأمر سيؤدي الى نمو ثقافة جديدة تستندُ على مبدأ أخذ الحقوق بالقوة ، وسيشجع كل المدن العراقية على العمل بالمثل .
ثانيا : وعود السيد رئيس مجلس الوزراء بزيادة الحصص الكهربائية والمائية للمحافظات الغاضبة مثل البصرة وذي قار وميسان والمثنى والنجف يجعلنا نطرح السؤال التالي : من أين سيزيد تلك الحصص طالما أن كمياتها وحجومها معروفة ومحددة ؟ فهل سيتم ( مثلا ) زيادة الانتاج العام لها بهذه السرعة ( وهذا الأمر مستحيل وغير منطقي ) ؟ واذا كان الجواب أن زيادة الحصص سيتم اطلاقها من الخزين المتوفر ، فلماذا لم يتم اطلاقها منذ فترة بدلاً من ارغام المواطنين على اشعال فتيل المظاهرات ؟
ثالثا : اطلاق التعيينات وفرص العمل لمواطني المحافظات الثائرة يدعونا للتفكير أكثر من مرة حول هذه النقطة بالذات . لأننا التعيينات يتبعها تخصيصات مالية ، وهذا يعني أن الحكومة قادرة على توفير الأموال لاستيعاب العاطلين عن العمل . وليس من المعقول أن السيد رئيس مجلس الوزراء لديه كنزٌ مخفي يستطيع عن طريقه تمويل الرواتب المستقبلية للدرجات الوظيفية الجديدة . وهنا نقفُ عند احتمالين لا ثالث لهما : امّا أن يكون اطلاق التعيينات مجرّد ( حقنة تخدير ) آنية لمعالجة هيجان المتظاهرين ، أوْ وجود أموال لتغطية الرواتب الجديدة . وفي الحالتين يعرّض السيد رئيس مجلس الوزراء نفسه للنقد المنطقي الشديد لأن الواجب الملقى على عاتقه يدفعهٌ لإطلاق تلك التعيينات منذ زمن بعيد وليس بعدَ انتهاء ولايته الدستورية .
رابعا : السيد رئيس مجلس الوزراء شخص علمي حاصلٌ على شهادة الدكتوراه في الهندسة الكهربائية ، وليس رجلا عاديا ، وهو يدركُ جيداً أن تنشيط القطاع الخاص واعادة الروح اليه يفتحُ الآفاق الواسعة لاستيعاب الأيدي العاملة من الموظفين والعمال ، وهذا المبدأ معمولٌ بهِ في جميع البلدان المتقدمة . وكان الأجدرُ بهِ في بداية تسنمه منصبه التنفيذي الاهتمام بالقطاع الخاص اهتماما كبيرا بدلا من الاستمرار على شلّ نشاطه منذ عام 2014 ولحد الآن ، وخصوصا أن الأزمة المالية أخذت تتضاءل تدريجيا نتيجة ارتفاع اسعار النفط . كما أن معظم المشاريع الكبيرة والوسطى والصغيرة متوقفة بسبب عدم صرف استحقاقات الشركات والمقاولين منذ أكثر من أربع سنوات خلافا للقانون وللعدل . مع العلم أن بعض المشاريع بلغت نسب انجازها (90% ) وأكثر ، وكان الأجدرُ بالحكومة الاتحادية والحكومات المحلية توفير الأموال لإكمالها والاستفادة منها بدلا من تركها على قارعة الاهمال والنسيان . ولا يمكن القبول بأي تبرير من شأنهِ تحطيم القطاع الخاص لأنهُ وفق السياقات العلمية ركيزة مهمة من ركائز اقتصاد أيّ بلد يتطلعُ نحو المستقبل الزاهر .
خامسا : منذ تسنم الدكتور العبادي رئاسة مجلس الوزراء وحديثه لا يتوقف عن محاربة الفساد والتصدّي بكل جرأة وحزم للمفسدين . ومضت الأربع سنوات بكل حيثياتها وتفاصيلها وخطاباتها الرنانة ولم نشهد مفسدا واحداً على شاشات التلفاز ، ولم نسمع سوى أخبار ( لا نعلم ان كانت صادقة أمْ كاذبة ) عن القاء القبض على بعض المفسدين أو احباط عمليات فساد . أليس من حق العراقيين أن يعرفوا المفسدين حق المعرفة ثأراً لكرامتهم ؟ أليس من باب العدل والانصاف أن يطلع العراقيون على ملفات الفساد الكبيرة والصغيرة ؟ ولماذا هذا التستر على المفسدين ؟ يبرّرُ السيد العبادي هذا الأمر ويقول أن حكومته تعمل بهدوء دون أيّ ضجيج . وهذا ليس مقبولا على الاطلاق لأن عرض المفسدين على الرأي العام يحقق ثلاثة أمور ، الأمرُ الأول أن يكون المفسدُ عبرة لمن يعتبر ، والثاني من باب مكاشفة المواطنين بمنتهى الصدق والصراحة وتمييز الصالح من الطالح وعدم خلط الأوراق مع بعضها ، والثالث انصاف الشعب العراقي من جرائم المفسدين .
سادسا : أثناء وبعدَ كلّ أزمة تحصلُ في البلد يتم تشكيل لجنة تحقيقية من قبل السلطة التنفيذية لمعرفة الأسباب والنتائج ومن ثم اصدار التوصيات اللازمة . وللأسف الشديد أن جميع اللجان التي شكلت سرعان ما تضمحلَ وتصبح في خبر كان دون أن يعرف العراقيون شيئا عنها وعما توصلت اليه . وهذا بحدّ ذاته ضحكٌ على ذقون العراقيين واستهانة بهم وبمشاعرهم . أو بالأحرى أن اللجان التحقيقية ليست سوى وسائل لامتصاص نقمة وغضب المواطنين .
سابعا : لا يريدُ العراقيون من السيد العبادي أن يرسم لهم أحلاما وردية عن طريق الوعود التي ربّما لا يمكن تحقيق بعضها لأسباب كثيرة . لأن مثل هذا الأمر يفقد ثقة المواطنين بالسلطة التنفيذية ، وبالتالي تتحطم أواصر الشعب بحكومته . بل عليه مكاشفة العراقيين بمنتهى الصراحة بالحلول الممكنة وغير الممكنة آنيا أو مستقبليا مع بيان جميع المعوقات التي لا تسمح بتنفيذ جميع المطالب . وحين يفهم المواطنون الحقائق كما هي فلابدّ أن يهدأ غضبهم بعض الشيء ، لأن غضب المواطن نتيجة شعوره بالإهمال والتقصير وليس من أجل تحقيق المستحيل .
ثامنا : الشخص الذي يتسنم أعلى منصب تنفيذي ، عليه أن يكون شجاعاً وجريئاً بما فيه الكفاية لحمل الأمانة بكل اقتدار ، وأن يكون واضحاً وضوح الشمس دون أن يرضخَ للمساومات أو المجاملات السياسية التي من شأنها الحاق الفساد والضرر بعمل السلطة التنفيذية . وخلاف ذلك فعليه أن يتنحى عن هذا المنصب وفسح المجال لمن أكفأ منه . ولكن يبدو أن السيد العبادي من خلال أحاديثه وأفعاله يميلُ الى عدم فتح جبهات مع الأطراف السياسية التي مارست أو مارس بعض أعضائها عمليات فساد في مختلف المجالات وفق المثل العراقي الشهير ( الباب التجيك منها ريح سدها واستريح ) . ولا ندري الى متى يبقى السيد العبادي هكذا دون أن يفتح تلك الأبواب لوضع النقاط على الحروف بدلاً من الصمت الذي سيحرق الأخضر واليابس معا .