تخبرنا كتب التاريخ ان الصينيين هم أول من توصل الى صناعة الورق من النباتات، فبعد ان كانت الكتابة على جلود الحيوانات وألواح الطين عند البابليين والسومريين، اكتشف الصينيون طريقة أسهل وأكثر جودة، فقد استغلوا سيقان نبات الخيزران (البامبو) المجوفة اول مرة، وكان هذا في القرن الأول الميلادي. إلا أن لون الورق حينذاك كان غامقا وشديد السمرة، لكثرة الألياف غير المنقاة فيه. وبتطور الكتابة وتنوع أهدافها، ازدادت الحاجة الى مادة خام لصنع ورق أكثر نظافة ونقاء، ذلك ان الكتابة باتت أكثر فائدة بعد انتشار الديانة المسيحية، فاستخدموا لحاء الأشجار والقنب، فكانت نتيجته تفي بالغرض المنشود.
ما تقدم من سطور، ليس تحقيقا او تقريرا عن صناعة الورق، لكن بيتا من الشعر فيه استعارة مجازية تبين أهمية نوع الورق ونظافته ونصاعته، لإيضاح ما بقلب الشاعر او الكاتب او المرسل فيما يودون إيضاحه من كلمات، يقول بيت الشعر:
ماذا سأشكو على الأوراق من ألم
أقل شكواي لايقوى له الورق
فالورق إذن، هو الأرضية التي تحمل المشاعر والأحاسيس، من أفراح وأتراح، كما أنه ينقل على صفحاته الأفكار والمخططات التي يحملها العقل، وهو المرسال الذي يتكفل بإيصال الأوامر بين القائد وجنده، بين الملك وزبانيته، بين الحبيب وحبيبه، وعلى هذا وجب ان تكون هذه الأرضية نقية لاتشوبها شائبة.. وصافية لاتشوهها لوثة.. ونظيفة لايعتليها كدر.
في السنين الأربعة عشر الأخيرة، يعيش العراقيون في ظل حريات عدة، اولها وأهمها حرية انتخاب الرأس والحاكم والقائد، ولقد كان أساس الانتخاب هذا نظافة اليد والصفحة والماضي والنفس، وبهذا فان الطرفين مسؤولان أمام بعضهما، فالرأس مسؤول عن مرؤوسيه، والمرؤوسون مسؤولون أمام رئيسهم، ولكل منهم واجبات وحقوق. وما اختياري مفردة الورق إلا لكثرة تداولها بين الساسة وقادة الكتل والأحزاب، وكذلك تحت قبب مجالس البلد الثلاث. إذ ظهرت خلال العقد الأخير مسميات عديدة، لأوراق لم تكن متداولة في أوساطنا السياسية والاجتماعية، حيث صارت لدينا ورقة الإصلاح السياسي، وورقة الإصلاح الوطني، وورقة كشف الممتلكات والذمم، وورقة التهديد، وكذلك أوراق فساد، وأوراق انتخابات، وأوراق ضغط، وأوراق أخرى في زوايا مؤسساتنا، منها ماهو معلن أمام الملأ، ومنها مخفي وراء الكواليس او تحت الطاولات. فيما لم نكن نسمع في ماضي حياتنا غير ورقة الماء والكهرباء والتلفون والتموينية، وكذلك ورقة الإيجار وورقة الطلاگ وورقة (أم المية) دولار وورقة التوت. ومهما تنوعت وتعددت الأوراق فأول شرط لتداولها والعمل بها ورفع شأنها، هو ان تكون (نظيفة)..! ولاسيما ورقة الإصلاح التي أظنها ستصبح مجلدا من كثر المناداة بها، ومناشدات أهل العقد والحل بالتمسك بها ومراعاتها والالتزام بما تحتويه، والعمل بفحوى ماتتمخض عنه اللقاءات والاجتماعات التي تدور رحاها على قطب واحد هو الإصلاح.
أرى أن نصاعة نفوس رجالات البلد القائمين على حكمه والمؤثرين في صنع قراراته، تشبه الى حد كبير نصاعة الأوراق التي يدعون الى مناقشتها في كل محفل ومحضر ومقام ومقال، وأظن النية الحسنة والمصداقية والشفافية هي من أولويات الشروط الواجب توافرها في كل نفس كي تكون نظيفة ناصعة، وقد قال أحد الشعراء سابقا:
عليك بالنفس فاستكمل فضائلها
فأنت بالنفس لابالجسم إنسان
فياساستنا: “النظافة من الإيمان”.. ليكن هذا الحديث الذي لايحتاج توضيحا، شعاركم وهدفكم في كل أوراقكم، وقد عهدنا أغلبكم (صايمين مصلين) وأنا تسيرون تسير القبلة أمامكم..! فلتكن ورقتكم التي ينتظرها العراقيون نظيفة ناصعة قلبا وقالبا، ولتكن عراقية الصنع لاصينية المنشأ، وان تكون معمدة بماء الفراتين، يفوح منها عبق الروح الوطنية العراقية، كي تأتي أكلها يانعة، ولاتجعلوا ورقتكم كورقة التوت، فالخوف كل الخوف أن تتكشف عيوبكم من دونها، لاسيما أن جلكم -إن لم يكن كلكم- له من العورات ما لاتغطيه أشجار التوت جميعها، لاوريقاتها.