” الأسطورة أول مغامرة يقوم بها العقل البشري” أرنست كاسرر
هناك رأي شائع حول علاقة الأسطورة بالفلسفة يتحدث على ضرورة القطع بينهما باعتبار أن الفلسفة هي لوغوس ( قول برهاني يبحث عن الحقيقة ويعتمد العقل) والأسطورة هي خرافة تتحدث عن قصة خيالية.
غير أن هذا التصور خاطئ لأن القول الفلسفي انبجس منذ اللحظة الأولى من الأسطورة وتبلور عن طريق الشعر والتراجيديا كما أكد على ذلك فريديريك نيتشه في كتابيه مولد التراجيديا ومولد الفلسفة في العصر التراجيدي . كما تضمنت محاورات أفلاطون قصائد لهوميروس واقتباسات من ملحمة الإلياذة والأوديسة.
علاوة على أن أرسطو خفض من قيمة القول التخييلي الأسطوري في كتبه المنطقية وقربه من السفسطة والجدل ولكنه في كتاب فن الشعر رفع من دوره عند تطرقه إلى المحاكاة والحبكة والفعل وتمييزه بين الملحمي والمأساوي والكوميدي وتنصيصه على علاقة التشابك بين الفنان والطبيعة والصناعة والأخلاق.
بناء على ذلك تهتم الفلسفة بإنتاج الخطاب العقلاني وتستعمل لغة المفهوم وتتصيد طرق الكشف عن الحقائق وإيضاح المعاني وتشريع القيم وتأسيس المرجعيات ولكن أن تهتم بالأسطورة وما يرافق ذلك من تطرق إلى الخرافة والتفات إلى التقاليد والتاريخ الغابر واستنجاد بالخيال والذاكرة وتبرير حدوث الوهم والتلاعب بمقولات المنطق وإطاري الزمان والمكان يدعو الاستغراب ويحمل الدهشة ويمثل مفارقة من جهة السائد. فهل تنظر الفلسفة إلى الأسطورة مثلما تنظر إلى سائر المواضيع؟ وكيف يحدث اللّوغوس قطيعة مع الميتوس؟ لماذا تتضاد الأسطورة مع الفلسفة ؟ وهل يمكن أن تتحول الفلسفة إلى أسطورة؟
يحيل المعنى اللّغوي الإغريقي (Mûthos – ميتوس) إلى التعبير عن التفكير والقول الاستدلالي الذي يتحدث عن الماضي ولكن موقف أفلاطون صاغه وفق رؤية نقدية وبلوره في شكل حكاية تخبر عن أحداث الماضي بطريقة خيالية وتحمل رسالة تتناقلها الأجيال وتتضمن جملة من القصص والمغامرات.
من المعهود أن الشاعر يضطلع بدور حكائي ويقص الأساطير في شكل ملاحم وأناشيد ويتقن فن التأثير في الجمهور ويعمل على استمالة السامعين عن طريق التشبيه والتخييل وضرب الأمثال واستعمال المغالطات حينا وتقديم الحجج المنطقية والبراهين العلمية والقرائن الواقعية في سبيل الإقناع والإفحام.
في هذا الصدد طرحت الفلسفة مشكل تأويل الأساطير واشتغلت على اللغة الرمزية التي تشكلت منها وحاولت وضع جملة من الشروط والمعايير قصد الظفر بالدلالات والقبض على المعاني التي تزخر بها. غير أن المطلوب من مؤول الأساطير هو التحلي بالحكمة والحصول على خبرة السنوات والدراية بتقلبات الدهر والمعرفة الشاملة بشروط قيام الدول وانحطاط الحضارات وأمزجة الشعوب والتمثلات الثقافية. تتمثل المفارقة في توجيه الأساطير نحو الأطفال قصد توسيع ملكة الحلم لديهم وتشذيب القدرة على التجريد والاستطلاع والسفر بهم عبر عوالم الزمان والمكان وتمكينهم من زيارة العجائب والغرائب ولكن من جهة ثانية يطلب من المرء عند مرحلة النضج التخلص من الرؤية الأسطورية للعالم واعتماد الرؤية العلمية والتفسير العقلي وفي مستوى متأخر يختص الشيخ المسن بمهمة تأويل الأساطير وتبسيطها للعموم. فكيف تساعد الأسطورة الفكر العلمي على التقدم؟ وماهو دور التخييل والتوهم في بناء الأنساق الفلسفية؟ ألم تتحول الفلسفة الى أسطورة عقلية؟ أليست الأساطير هي الشذرات الأولى التي انبجس منها التفلسف؟