18 ديسمبر، 2024 7:18 م

ما جدوى الانتخابات؟

ما جدوى الانتخابات؟

الانتخابات ممارسة نقلها الانكليز للعراق ووجدوها حاجة ملحة كما بقية الحاجات التي يفتقر لها العراق مثل الأمن والتعليم والصحة والزراعة والصناعة والخدمات، لقد استطاع الإنكليز نقل العراق وفي زمن قياسي من مستنقع التخلف والمرض والجهل الى مجتمع يسعى للتقدم والرقي والبناء والحضارة .
ولكن اصطدم الإنكليز بواقع يشبه واقع اوربا قبل 500 عام حيث سيطرة النبلاء والذين يطلق عليهم في العراق (الاقطاع) مع الفارق المعرفي والاخلاقي بين الاثنيين وكذلك يوازي لطبقة رجال الدين في اوربا في ذلك العهد طبقة (وعاظ السلاطين) محلياً وهم طبقة منحطة من رجال الدين والتي تدافع عن الاقطاع وكل ذي سلطةوقوة غاشمة .
أجبرنا الانكليز على ممارسة تسمى الانتخابات وهي جزء من فايروس مميت في الشرق يسمى الديمقراطية، وفي واقع مغاير تماماً لواقعنا الذي يهتم بالطاعة والبيعة لشخص لا يعرفه وليس له منجز انساني او اجتماعي او اخلاقي سوى انه وريث عائلة تسيدت على مجموعة من البشر واصبحت الممثل الشرعي لهم في النزاعات والصراعات والعلاقات .
ولم يجد الانكليز واقعاً يشبه واقعهم، فلا يوجد فقراء بوصف الطبقات وانما بؤساء حفاة جوعى ومرضى، ويتسلط عليهم اقطاع فاسد مدعوم من رجال الدين .ووصف الاقطاع لاينطبق على البرجوازية في اوربا كما وصف البرجوازية، لا ينطبق على الاقطاع في الشرق والعراق بالتحديد بسبب كونه هجين سلطة الخلافة الاسلامية البائدة واخرها العثمانية سيئة الصيت .
تفاجىء الانكليز بالمورث الديني والقبلي المتخلف والقابض على الحياة الاجتماعية في المجتمع العراقي، ووجد الانكليز ان اقامة انتخابات مباشرة سوف تعري شيخ العشيرة وشيخ الدين وتبين مقدار الرفض الشعبي لهم بسبب واقع الظلم الذي تعيشه الناس .
امتحان الانكليز في الديمقراطية لم يتلقى قبولاً لدى عامة الناس، وقد افضى ذلك بثورة وتمرد مسلح بتحريض من شيوخ الدين والقبائل بحجة قتال الكفار . هذا التمرد احاط بتجربة الانكليز وطوقها وجعلها موافقة لرغبة شيخ الدين في الافتاء وشيخ العشيرة في السلطة وانتهى بذلك تمرد سنة 1920 بتنفيذ طلبات الاقطاع والوعاظ ومنها فض الغوغاء وإعادتهم الى صرايفهم ومزارعهم وهم اكثر عبودية بعد ان نفذ الانكليز طلبات اسيادهم في ان يبقى هولاء عبيد.
ومن هنا ايقن اصحاب الحضارة ان الإصلاح في العراق لا ياتي بانتخابات تجلب الوعاظ والاقطاع وانما بثورة تشبه الثورة الفرنسية او الثورة الروسية .
ولأن الانكليز لايفكرون بالثورات والايدلوجيا و اصحاب خلك طويل، ففكروا في اكمال مشروعهم باقامة ديمقراطية وفق مقاس عراقي (تزكام ) وحينها تشكلت الدولة العراقية وبدات اولى التجارب في انتخابات مجالس نيابية وبلدية .
وفي حينها لم يكن العراقيين مهيئين فلا توجد طبقة متعلمة، لانه لا توجد مدارس بالمرة في عموم العراق، وابناء الذوات يتعلمون في الاستانة وهولاء لا يمثلون سوى نفر قليل بالقياس ممن توفرت لهم فرص التعليم من الاقليات الدينية والقومية، فقد كان الاخوة اليهود والمسيحيين هم الاكثر تعلماً وتواصلاً مع العالم قياساً باخوتهم المسلمين ولم يكونوا يعانوا من نفس الاضطهاد الذي يعاني منه الفلاحين المسلمين، فقد كانت الاقليات الدينية من ارباب الحرف والمهن ومن يحتاجها المجتمع بسبب ندرتها وعلميتها لها حضورها، هولاء وغيرهم من اسيا الوسطى وممن شكلوا جالية واسعة من الشركس والداغستان والشيشان واخرهم بقايا الترك والفرس وبمجملهم شكلوا عوائل امتهنت حرف ومهن واصبحت القاب لهم، وكان لهم حضوراً متميزاً في المشهد العراقي ومحط احترام الناس والحكام عبر تاريخ العراق واصبحوا عراقيين خلص كما عرب العراق القادمين من جزيرة قريش، والأكراد القادمين من همدان ايران .
تنافس العراقيين في مراكز المدن وكانت الغلبة لليهود والمسيحيين في استلام المناصب التعليمية والمالية والصحية والخدمية وتركت بقية المناصب للمسلمين الذين تنافسوا على المجالس النيابية والبلدية وشكل الاقطاع والبشوات من مخلفات العهد العثماني والوعاظ وادواتهم المقربة برلماناً ينفذ رغباتهم ومحاط بسيناريو يرسمه الانكليز بين فترة واخرى، ليبين مصداقية الدستور وصلاحية الملك الكارتونية في حل المجلس والدعوة للانتخابات، وكان اشبه بتمثيلية وحينها وصفها الشاعر الرصافي وصفاً دقيقاً طيب فيه مشاعر العراقيين على ماهم عليه .
الان عرفنا ان العلم والدستور ومجلس الامة محرف عن الحق وانتهى الى ما انتهى بثورة تموز التي انهت حقبة الملكية، والقضاء على الاقطاع الفاسد وطبقة الوعاظ المنحطين. ولكن لم يقدر لهذة الثورة ان تستمر فجمعت دوائر المخابرات الغربية ادوات الفاشية والمجرمين وقامت بانقلاب دموي مدعوم من دول واقطاع ورجال دين ، ولتنتهي تجربة كان بامكانها ان تتطور وتشكل بداية حقيقية لحكم الشعب ولكن جهل المؤسسة العسكرية في صناعة الدولة هو من افشل الثورة، ومكن الفاشيين من حكم العراق بالحديد والنار منذ شباط 1963 ولغاية 2003.
ان غياب الديمقراطية في عهد الدكتاتورية وتسلط عوائل على مقادير الحكم، اسس لذات الحكم في عهد الديمقراطية، ولكن بصيغ وادوات مختلفة فقد أسست عائلة عارف وعائلة البو ناصر حكم العوائل بمظلة دكتاتورية مقيته ولو كان لها ان تلعب لعبة الديمقراطية، لما كان لها ان تسقط او تتصارع على السلطة، وكان عليها ان تستلم المغانم كل اربع سنوات وبدون اراقة دماء، ولكن التربية القبلية والحزبية ترجمت (ان الديمقراطية مصدر قوة للفرد والمجتمع )، من خلال قتل الرفاق والبكاء عليهم والتصويت والتعبير والسكين في الخاصرة وهذه التجربة ولدت ديمقراطية البيعة للقائد الضرورة، ودون صناديق اقتراع، ولو قدر للعوائل الدكتاتورية ان تحكم بزمن غير محدود لنهجت تجربة الاحزاب والتيارات القائمة وبطريقة المافيات الديموقراطية الحرة .
الان وبسبب تجربة الديمقراطية المزدهرة! من يستطيع المساس بعائلة الاقطاعي فلان او عائلة السيد فلان او الحزبي فلان او امير الحرب فلان ، وبه اصبحت الديموقراطية مصدر قوة للعائلة وافيون للمجتمع ولو قدر للدكتاتور صدام ان يترك هوس السلطة ويفكر بلعبة الديموقراطية ويجعل من حزب البعث مئة حزب وتحت راية كل حزب عائلة تتصارع بالتلفزيونات والطرقات وحتى تمل من الهتافات والبيعة ولأصبح ل-طه ياسين حزب ولطارق عزيز حزب ولعزة حزب وماعليهم الا ان يتحصنوا بديمقراطية النظام السياسي وصوت الشعب المسروق ولما تمكن بوش من اسقاطهم وجعلهم اذلة وليستفيد الآخرين من تجربة حكم العراق بذات الطريقة، وتحت مظلة الديمقراطية وحكم الشعب بنيابة العوائل ولكن بالانتخابات وليس الدبابات، نعم السياسة فن الممكن وتحتاج الى كم هائل من الفطنة والحيلة والذكاء، وليس تجربة الدكتاتور صدام في قتل رفاقة وخصومه وشعبه وشعوب الجوار.
تجربة صدام وسقوطه درساً لذات العوائل في كيفية البقاء في الحكم دون خسائر .
للآن وتجربة الانتخابات جميلة ورغم مافيها من خطورة الرافضين لها من الارهاب وبقايا النظام الدكتاتوري ولكنها ورغم المخاطر شكلت حضوراً ونسباً هي الاعلى وفق المقاييس، ولكن لماذا ومع انتفاء الخطر شكلت الانتخابات نفور ومقاطعة بشكل واسع خصوصاً بعد انتخابات 2010 تلك الانتخابات التي رافقها غموض واشكال افضى الى تدخل قضائي حول من الفائز في الانتخابات وقد شكل حكم القضاء صدمة كبيرة وخيبة امل واسعة لدى الشعب العراقي ومنها ادرك العراقيين عدم الجدوى من انتخابات لايفوز فيها الفائز، تلك التجربة الفاشلة طورت تجربة الضحك على الديمقراطية والانتخابات بطريقة حضارية وبدون صراعات واراقة دماء وهي .
ان لايشارك رئيس الحزب او الكتلة او التيار او الجماعة او التنظيم في الانتخابات وبطريقة لم تألفها كل ديموقراطيات العالم ومنها يشكل هذا الزعيم قائمة تخوض الانتخابات بزعامته وبما يشكل بيعة له وانتخاب لقائمتة، وان نجحت قائمته نجح في تمرير مشاريعه، وان فشلت قائمته فهو باقي وتذهب قائمته الفاشلة للجحيم، على امل بقائمة جديدة تعطيه فرصة المنافسة من جديد لانه باقٍ مازالت الديمقراطية باقية.
ومن فضائل ديمقراطية الاحزاب العراقية ان الزعيم غير المنتخب هو من يرشح رئيس الحكومة والوزراء والمحافظين والمدراء والفراشيين والبوابين .
ومن حق هذا الزعيم ان يامر المنتخبين النواب بالجلوس في قاعة البرلمان او الكفتيريا ويحق للنواب الالتفات للوراء لتلقي الاشارة في التصويت من عدمه وهذا يشكل تطوراً ملموساً بالحياة الديمقراطية بدلاً من التصويت (بموافج ) على ايام برلمان الملكية ودون الاشارة من الاخرين.
هذا نموذج الانتخابات في العراق ومع اختلاف التصويت ومقدار الوعي والجهل وقدرة الناخب في اختيار النائب ولكن صوته يذهب لنائب لاحول ولاقوة وهو تابع ذليل لزعيم حزبي اوحد او من الاحزاب التي ظهرت بقوة الدين والعبودية واصبحت ظاهرة لم تألفها البشرية عبر التاريخ وهي ان يكون الجمهور السياسي بلا عقل ولديه قدرة التغيير متى شاء ،او ان يذهب ذات الصوت للتزوير او الى صندوق محروق محروق محروق،وحينها تنتهي التجربة كسابقتها ويبقى الوضع على ماهو عليه بديمقراطية البيعة لاشخاص ورموز اثبتت فشلها في تجربة حكم عمرها عشرون عاما وهي باقية وتتمدد في ديمقراطية قل نظيرها من بين الديمقراطيات .
ان سبب فشل تجربة الديمقراطية والممارسة الانتخابية في عهد الملكية الاقطاعية والدكتاتورية العائلية والتبعية الدينية المطلقة ليس نتاجاً عن خوف او اضطهاد او ممارسات عنفية انما عن جهل مطبق توارث وازداد وولد قناعات جعلت الجاهل عبداً دون ان يدري فبمقدور الناخب الجبان او الخائف او المبتز ان يثور بتلك اللحظة ويغير تلك القناعات ولكن كيف للناخب الموغل بالجهل ان يغير تلك القناعات وهو مستعد ان يرمي الدبابة بمسدس اكراماً لهوى قائده بينما يعجز عن استخدام عقله في انتخاب من يمثله ويعبر عن ذاته ونفسه. ان زيادة الوعي والتعليم المنتج هي الكرامة الحقيقية التي يكرهها الاقطاعي ورجل الدين والسياسي ان تكون للانسان العراقي .