23 ديسمبر، 2024 2:20 م

ما بين مصداق الوطن ومفهومه

ما بين مصداق الوطن ومفهومه

المناطقة يقسّمون المعنى باعتبار وجوده الى قسمين ( المفهوم والمصداق ) , ويقولون : ان المفهوم معنى موجود في الذهن , اما المصداق فحيز وجوده الواقع الخارجي , وضربوا  لنا مثلا لمفهوم الانسان ومصداقه زيد وعمر  وخالد … هذه العبارات قفزت من خزين الماضي امام ذاكرتي بعد مكالمتي الاخيرة مع صديق في العراق والتي ألقت بي في حزن عميق جعلني اعوم في لجج الاستفهام : هل الوطن مفهوم ام مصداق ؟ هل مفهوم الوطن الذي في ذهني هو نفسه الذي في ذهنك ؟ هل التقينا بمصداق لذلك المفهوم ؟ وما درجة انطباق ما في اذهاننا من مفهوم الوطن على مصداقه ؟

    مع اعياد الميلاد في اوربا وكمثل كل عام احاول بواسطة بطاقات التهنئة ان اظهر بعض الصور الجميلة عن الاسلام تارة وعن حضارتنا العريقة اخرى , كي ابدد بعض الضبابية عن صورة الشرق في عيون الغرب لان تلك العيون لا ترى الا من خلال وسائل الاعلام والتي تزيّف حينا وتضخم احايين وإن نقلت الحقيقة فتذكرها مدسوسة بين المعميات , خصوصا ونحن نعطي المبررات لتلك النظرة بما يتبناه البعض من تطرف وإلغاء للآخر واستخفاف بالدماء والافكار, في هذا العام نويت ان يكون موضوع التهنئة عن حضارة العراق ومعالمه , فهو بلد الحضارات ومؤسسها وهو بلدي .
  اتصلت بصديق لي وطلبت منه ان يجمع لي بطقات تهنئة يكون مضمونها الحضارة العراقية وبعض المعالم عن بغداد وجرارها وعن حريتها المصلوبة في ساحة التحرير وعن متنبيّها ايام ولعه بالقراءة ومعالم أخر… وبعد ايام عاودت الاتصال ليصفعني اعتذار صديقي وقوله : ان تلك الصور التي تطلبها لم تعد موجودة في مكتبات بغداد وابلغني بانه حاول بجد ولكنه لم يعثرعلى شيء يذكر واضاف ان المكتبات لم تعد تتداول مثل هذه الكارتات وان الموجود هو صور لدببة وبالونات وقلوب .

      برغم بساطة الامر ظاهريا نسبة لما يحدث في العراق الا انه يشكل برأيي اشارة مهمة وبالغة الخطورة , فلكل بلد رموزه ( الحضارية , التاريخية , الجغرافية , الثقافية , العمرانية الاجتماعية , العلمية … وغيرها ) وهي بمثابة الراية التي ترفعها الدول وتتعامل معها بقدسية لان تلك الرموز هي عبارة عن معنى الوطن في اذهان ابنائه انها ( مفهوم الوطن ) الذي تحرص الدول وبمختلف الوسائل – مرئية , مسموعة , مقرؤة – على تشييده في الاذهان لكي يكون محركا ودافعا للسلوك الايجابي تجاه الوطن ( تجاه مصداق الوطن ) , فعندما ننظر الى صورة لبرج ايفل مثلا نقول ما اجمل فرنسا , وان شاهدنا بطاقة لبرج بيزا المائل قلنا ايطاليا , واذا صادفَنا إعلان لساعة مميزة تذكرنا سويسرا , لان تلك الصور ماثلة في اذهاننا كرموز لتلك الدول , فالجميع يعمل على ابراز معالم التميز لديه لتعزيز ( المفهوم ) في الاذهان لما له من اهمية في مجال النمو والتطور والسعي للرقي , فمفهوم الوطن إن رسم بعناية ووضوح وجمال كان حافزا لادامة مصداق يضاهيه جمالا , ومن الغريب جدا اننا في العراق نتجاهل هذا الامر ونهمل كل الوسائل المعززة والداعمة له حتى الاساليب التي اصبحت من البديهيات كبطاقات التهنئة ذات المحتوى المفهومي .

    وقد حاولت الترجيح بين خطورة ان نفقد مصداق الوطن وبين خطورة ان نفقد مفهومه , فوجدت ان الكثيرين قد جرّبوا فقدان المصداق بما مرّ على العراق من ويلات أرغمت اعداداً ليست بالقليلة على مغادرته ولكن برغم ذلك ظلت تلك النفوس والهة تجاهه يدفعها المفهوم الراسخ فيها ( صورة النخيل , كهرمانة , دجلة والفرات , بابل وجنانها , الحدباء , المآذن والقباب المقدسة , شبعاد وقيثارتها , الثور المجنّح , المدرسة المستنصرية … الخ ) لذا فقد كان فقدان مصداق الوطن مرحليا وزمنيا والفترات الزمنية قابلة للانقضاء وإن امتدت , ولكن الخطورة الحقيقية هي ان نفقد المفهوم لان بفقدانه يضيع الوطن الى الابد , اذ كيف نسعى لبناء شيء لا صورة له في اذهاننا ؟!  كيف نرجو لقاء محبوب لا يمكننا تصوّر صفاته الجمالية ؟! , كيف نحدد واجباتنا تجاه ما لا فكرة لنا عنه ؟! وهذا ما يجعلني اسأل : ماذا يحدث في بلدي ؟ هل هو مقصود ؟ ام ان فطنة ساستنا غفلت عن هذا الامر ؟! 
   اقول : انا شخصيا لا اعتقد بالصدفة ولا بالعشوائية المنتجة فما حدث ويحدث من تداعيات في العراق حتما يتم استنادا على فكر يدبّر ويد تنفّذ , فمفهوم الوطن قد اضمحل وأوشك ان يتلاشى , وهذا سبب ما نراه من فتور الشعور بالمواطنة ومن استخفاف بثروات الوطن وحرمه ومقدساته وآثاره بل وصل الامر الى الاستخفاف بدماء ابنائه الذين امتدت جذورهم في أعماق التاريخ وشيّدوا حضارته , ولا اريد هنا ان اتهم جهة او حزباً او شخصاً فليس هذا هدفي من المقال ولكن ما اريد إيصاله هو : اذا أردنا ان نبني العراق ( مصداقا ) – وهو ما تعهدت به الحكومة الحالية وأقسمت عليه – يجب اولاً ان نبنيه ( مفهوما ) واضح المعالم مميز الابعاد لان ذلك يُعد البنية التحتية الحقيقية التي يشيد عليها ومن خلالها أي انجاز , وهو عمل مؤسساتي تتحمل الحكومة مسؤولية التأسيس له والاشراف عليه لانه لا يتم الا بدراسات تخصصية وخطط  استراتيجية وبمتخصصين يعملون عليها , فعملية الهدم المبرمج قد انهكت الصورة في الذهنية العراقية لذا يجب ان تواجه بعمل مبرمج ايضا لاعادة تشكيلها , عندها وعندها فقط تبدأ الخطوة الاولى نحو بناء مصداق وطن ينتظر منذ عقود .