ربما لا نكشف عن سر خطير حين نقول ان الغرب المسيحي وليس العرب ولا المسلمون هو الذي اطلق اسم الصليبية على اشرس حملة استعمارية استيطانية شنتها اوروبا ضد وطننا العربي واول حملة من نوعها. والغرب فخور بصليبيته القديمة والحديثة، والسياسية منها والدينية، تماماً كما هو فخور باستعمار بلاد الآخرين.
وقبل الخوض في مسألة الصليبية، لا بد من طرح الرؤية الغربية لمفهوم الاستعمار وسبب افتخار الغرب به.
يذكر المؤرخون الغربيون، ان مفردة الاستعمار في لغاتهم كما هي في اللغة العربية مشتقة من الاعمار، ويفسرون ذلك بالقول ان الدافع الرئيس لحملات الاستعمار عموماً منذ بدئها كان نشر الحضارة والثقافة والعمران في البلدان التي احتلها الاوربيون واطلاع شعوب تلك البلدان على معالم النهضة العمرانية الاوروبية ونقلها اليها، ثم ان الاستعمار كان تلبية لرغبة طوبائية افلاطونية بممارسة الشعور بالعطاء من خلال التفوق الحضاري والعسكري وغيره.
لم تختر اوروبا كلمة دينية لوصف الاستعمار لانها لم تكن مستعدة لخلق حاجز جديد بين مطامعها وما اقنعت شعوب الشرق المسلمة، انها قادمة الى بلادها لتحقيقه. لذلك لا يجد من حط الاستعمار على قلوبهم زمناً طويلاً وحرمهم من حضارتهم وارضهم وحتى انسانيتهم، صعوبة في التعبير عن المهم من تلك الظاهرة اللاانسانية، بل المغتالة لكل معاني الانسانية.
ولكن الصليبية أمر مختلف وأكثر حساسية بكثير، فالصليب بالنسبة للمسيحي، اي مسيحي، متمسك بدينه هو رمز لأسمى معاني التضحية في سبيل العقيدة وفي سبيل انقاذ البشر. والصليب، هو رمز الانتماء الى العقيدة المسيحية في كل مكان. لذلك، اختار ملوك اوروبا واقطاعيو القرون الوسطى، هذا الوصف الذكي بالغ الذكاء لحملتهم على الشرق العربي الذي صار مسلماً، وكان قبل ذلك مسيحياً بمعظمه، لانه كان كافياً لاستثارة جماهير المسيحيين الفقراء المساكين في اوروبا لكي يندفعوا الى مهد المسيح ويحرروه ويسترجعوه من ايدي الكفرة المسلمين. ولقد نجحوا في ذلك ايما نجاح، واحتلت جيوشهم ارض فلسطين والشام ولبنان وأجزاء اخرى من الارض العربية ردحاً من الزمن، لم يقل عن قرنين . ما كان اطولهما.
وأخيراً رحلوا تماماً كما رحل الاستعمار عن معظم البلاد في عصرنا هذا.
* فما الفرق بينهم وبين حملات الاستعمار؟ وما ذنب المسيحي الاوروبي المسكين الذي ساقوه الى القتل والموت بأسم الصليب؟ وأكثر من هذا وذاك، كيف يخطر على بال عربي مسيحي ان الهجوم على الصليبية هو تحد لعقيدته؟ هذا العربي المسيحي الذي ساد حتى في الجزيرة العربية، ناهيك عن بلاد الشام وفلسطين قروناً طويلة قبل ظهور الاسلام، وحين ظهر الاسلام وجده اقرب الى عروبته وقيمه وتقاليده وروحه وتاريخه فامن به؟
ان محاولتنا هنا للتمييز بين الصليبية الدينية والصليبية السياسية والاقتصادية، لا تلقى النجاح دائماً، وذلك بسبب موقف من يمثلون الصليبة الدينية تجاه قضايانا ومن يمثلون الصليبية السياسية التي كانت استعماراً في الماضي، وما تزال هي الاستعمار بعينه يمارس ضد الشعوب الاخرى مسلمها ومسيحيها ووثنيها على حد سواء.
لكنني سأورد بعض ما جاء في الوثائق التاريخية التي تؤكد ان ألم العربي من الصليبية الدينية تحديداً له ما يبرره خصوصاً على صعيد القضايا العربية القومية، فلا نلوم هذا العربي على فشله في التمييز بين كل صنوف الاستعمار وبين الصليبية بكل معانيها وحملة لواء الصليبية الدينية هم المسؤولون عن هذا الارتباط بين الاستعمار والصليبية في ذهن العربي.
في 12/ كانون الاول/ 1917، وبعيد احتلال بريطانيا للقدس، ارسل البابا الى ملك بريطانيا رسالة تهنئة على احتلال الجيوش البريطانية لارضنا، اكد فيها- ان انكلترا لا تبحث عن اهداف ومصالح انانية في فلسطين، وستكون الاماكن المقدسة تحت الاشراف الدولي، وستحترم بريطانية الآمال والتطلعات والطموحات التي يحملها الاسرائيليون .. فمن المستحيل ان يبقى سكان لبنان والعرب السوريون او ارمن سيسيليا، خاضعين للنظام التركي…
ان امة غربية تحب الشرق ويحبها هذا الشرق، يجب ان تقوم بمهمة حاكم هذه الشعوب الشرقية والمحكمة في امرها ومثقفها، وهذا دور خال تماماً من كل مظهر من مظاهر الامبريالية(1).
وفي نفس التاريخ ابرق الكونت دي ساليس من الفاتيكان الى لندن يقول- ان الكاردينال وزير خارجية الفاتيكان قد شكرني على رسالتكم الهامة والتي يرحب بها اعظم ترحيب، وان الفاتيكان كان سعيداً للاجراءات التي تم اتخاذها وقد رجاني باسم الاب الاقدس ان ارفع الشكر للحكومة البريطانية على كل ما فعلته في هذا السبيل.
واضافت برقية دي ساليس، ان صحيفة الفاتيكان الرسمية (الاوزرفاتوري/ Osservatore) نشرت مقالاً صباح ذلك اليوم، قالت فيه ان- دخول القوات البريطانية الى القدس قد قوبل بارتياح ورضى بالغين من قبل الكاثوليك الذين لايمكنهم الا التعبير عن بالغ فرحهم واغتباظهم، لان تكون المدينة المقدسة في يد دولة مسيحية عظمى.. والامل كبير بأن يتم احترام الكنيسة الكاثوليكية وحقوقها.. ثم شكرت الصحيفة الخالق لانه لم يسمح لمدينة القدس بأن تقع في ايدي الحكومة القيصرية الروسية(2).
ومن هاتين الوثيقتين ننتقل الى وثيقة اخرى هي عبارة عن برقية ارسلها يهود مدريد الى ملك بريطانيا جورج الخامس بعد ثلاثة ايام من رسالة البابا.
قال يهود مدريد- ان اليهود ليرفعون هتافهم وتأييدهم المطلق لانتصار جيوش جلالتكم في فلسطين يوم رفرفت الرايات البريطانية خفاقة فوق القدس المفتوحة، هذا اليوم العظيم من تاريخ اسرائيل بل وتاريخ الحضارة والمدنية.. ان هذه القلوب لتخفق فرحاً لانتصار جيوش جلالتكم البطلة بقيادة الجنرال (اللنبي) آملين لراياتكم المنتصرة ان تستمر خفاقة فوق رؤوس الامة اليهودية التي عادت الى الحياة على ارض يهود واسرائيل(3).
– فهل نلوم العربي حين يربط بين الصليبية والصهيونية؟! ولماذا يضر العربي المسيحي ان يستاء من تألم العربي المسلم من هذا النوع من الصليبية؟ بل انني اتصور ان ذلك العربي المسيحي يتألم منها اكثر من العربي المسلم لانها تخلق صراعاً في اعماقه لن يستطيع حله الا بفضل هذه الصليبية التي لا علاقة لها بالصليب الرمز والعقيدة من قريب او بعيد عن عقيدته المسيحية التي هي كالاسلام عقيدة عربية فلسطينية صرفة، فالمسيح عربي وهو ابن فلسطين ايضاً.
ربما لا يزال يوجد بعض العرب المسيحيين ممن يجدون غضاضة في مهاجمة الصليبية بل يدافع عنها ويصر على لصق العرب بالصحراء ويدافع عن العلاقات التي نشأت ايام الحروب الصليبية بين الصليبيين وبعض الامارات العربية الاسلامية وكأنه بذلك يدافع عن العلاقات التي قامت بين اسرائيل/ الصليبية الجديدة وبين بعض الفئات المسيحية العربية.
لكن امثال هؤلاء البعض قليلون جداً وأقل منهم بكثير من يربط بين العقيدة المسيحية والصليب الرمز فيها وبين الصليبية التي استعرضنا اهدافها وغاياتها.
كان العرب المسيحيين في المرتبة الاولى من حيث تأسيس دولة عربية اولى عام 30 ميلادية، من قبل شمر بن برعش اعظم ملوك العرب في الجاهلية. فأين كان الصليبيون آنذاك؟ وما علاقة العربي المسيحي بهم؟ ولماذا يستاء البعض اذا هاجمت العرب استعمارهم وما فعلوه بشعبنا بل واعتبار الصهيونية المعاصرة شكلاً من مخلفاتهم. ألم يفعل الصهاينة الجدد ما فعله الصليبيون قبل ثمانمائة عام؟ بل انهم يكررون الحروب الصليبية من حيث اهدافها صرفياً.
اننا عرب قبل كل شيء، فخورون بهويتنا، وما الاسلام الا تلك الهوية، جسدت في اعظم الاخلاق والقيم العربية والانسانية، ولقد جاءت الحروب الصليبية القديمة والحديثة لتبيد كل هذا وتسلبنا أياه، فكيف لا تنظر لها على انها استعمار وامبريالية ونهب وسلب لارضنا وخيراتها؟
ألم يلاحظ البعض منا ولا سيما اولئك الذين يعيشون في الغرب، ان الساسة الاوروبيين الذين يفخرون بماضيهم الاستعماري هم انفسهم الذين يبالغون في استعمال الصليبية كتعبير عن اسمى الاهداف التي يسعون الى تحقيقها؟
ثم يأتي دور قضية اخرى اراها جزءاً من صليبية الغرب الاستعمارية والحاقدة على الاسلام، وكم كنت اتمنى الا يخط قلمي كلمة عنها، ولكن واجب الامانة القومية يدفعني الى ذكرها، الا وهي مسرحية او رواية سلمان رشدي.
صحيح ان غباء المسلمين في التعامل مع هذه المهزلة هو الذي اغنى هذا المتجني الباحث عن الشهرة والمال بأي سبيل وأية وسيلة، وقدم له العرب والمسلمون هذين المكسبين على طبق من الذهب.
ولكن من الصحيح ايضاً، ان الغرب الصليبي وسياسييه ووسائل اعلامه واجهزة اخرى لم تظهر على الساحة جهارا، كانت تسعى الى تأجيج بصيص هذه الحكاية كلما خبت في النفوس، يسكت المسلمون بعضاً من الوقت
فتطالعنا الصحف اياها بقصيدة جديدة لسلمان رشدي يرسلها من مخبئه حيث ينتظر تنفيذ حكم الاعدام فيه، يغني فيها للحرية، حريته وحرية الكلمة التي يريد المدافعون عن كرامة النبي محمد (ص) الشخصية ان يكتموها، ولا تكاد الضجة تهدأ حتى تضج وسائل الاعلام بالحديث عن طبعة جديدة لكتاب رشدي بالفرنسية ثم بالالمانية ثم بالاسبانية ثم باللغات الاسكندنافية ثم الاوروبية وحتى بالعبرية حيث عرضت اسرائيل على المؤلف كل اسباب الحماية من ارهاب المسلمين، ولماذا يحدث هذا؟
لان اجهزة صليبية وجدت في حكاية رشدي وردود فعل المسلمين البسطاء عليها، مادة غنية جداً لتشويه سمعة الاسلام ومعه العرب والمسلمين، ومعنى الحرية لديهم والمعايير التي تتحكم بعقيدتهم، فأرادوا لهذه الحملة ان تستمر اذا لم يستطع كل المستشرقين الذين تحدثنا عنهم في بداية هذا المقال ان يثيروا بما كتبوه ونشروه عن الاسلام مقدار ذرة من الكراهية التي اثارها رشدي وردود الفعل على كتابه.
تصوروا ان احد هؤلاء المستشرقين، وهو الدكتور يوسف شاخت يعري الاسلام من اي مضمون آلهي ويعيد كل ما فيه من تشريعات الى العادات العربية السائدة قبل الاسلام والى التشريعات الرومانية واليهودية، ومع ذلك عجز عن أثارة ردود الفعل المتوقعة ولم يسمع بنظرياته الا المختصون في الفقه.
لهذا، فالمسلم والعربي المؤمن بقوميته وعروبته يجد نفسه في موقف معاد لكل ما تحمله الصليبية من معان منذ حركت حروبها باتجاه الشرق العربي المسلم لاحتلاله واهدار دماء ابنائه، الى ان دمرهم صلاح الدين وطردهم من ارضنا، والى ان عاد الصليبيون الجدد الى ارضنا، وهم يرتدون اقنعة الاستعمار الذي سموه كذباً وبهتاناً –اعماراً-.
والقومي العربي، كما المسلم، يتمنى لو جرت على اللسان كلمة غير الصليبية لوصف هذا المد الاستعماري الاستيطاني في ارضنا ولكن الحروب الصليبية هي اللقب الذي اطلقه شانوها عليها، فلماذا نلام نحن؟ وماذا نسميها حتى لو اردنا استبدال ذلك الاسم بآخر لا يجرح مشاعر المؤمنين بالمسيح وصلبه؟
فهي والله اشد ايلاماً من احقاد سلمان رشدي ومن يقف وراءه..
* الهوامش
1- انظر الوثيقة رقم 234866، تاريخ 12/ كانون الاول/ 1917، مركز الوثائق البريطانية.
2- انظر الوثيقة رقم 236163، تاريخ 12/ كانون الاول/ 1917، مركز الوثائق البريطانية.
3- انظر الوثيقة رقم 236320، تاريخ 13/ كانون الاول/ 1917، مركز الوثائق البريطانية.
4- تيسير كاملة – الصليبية القديمة والمعاصرة، ما عليها.. وما عليها، جريدة العرب (لندن)، الاثنين 13/ كانون الثاني/ 1989 .