19 ديسمبر، 2024 12:00 ص

ما بين الناقد والمحرر..

ما بين الناقد والمحرر..

بعدما قرأت المقال المنشور تحت عنوان (النقد والخيانة الثقافية) بقلم علی حسن الفواز بتأريخ 1-12-2019 حاولت التغاضي عنه و المرور عليه مر الكرام کأكثرية الاراء والمقالات العابرة التي تنشر يوميا في الاعلام المرئي والمسموع والمقروء ، لكنني تألمت بالسكوت عنه و حاولت الرد عليه ليکون القاريء الثقافي علی بينة من أمر ‌هذا الموضوع الشائك، و سألت نفسي أولا هل فعلا لنا النقد الاکاديمي العصري و الحريص علی ابقاء موضوعية النقد؟ أم ان أكثر الذي نقرأه في يومنا هذا لا يتعدی المدح والاطراء أو التنقيص والتوهين؟ حسب متابعتي المتواصل للدراسات النقدية يعتبر أكثره مجرد آراء سطحية حول نقاط عامة أو احيانا خارج عن الابعاد الدلالي للنص و سياقاته و يسمونه نقدا.
في حين قد عرف النقد الأدبي بأنه دراسة ونقاش وتقييم وتفسير الأدب، و يعتمد النقد الأدبي الحديث غالبا على النظرية الأدبية وهي النقاش الفلسفي لطرق النقد الأدبي وأهدافه، ورغم العلاقة بينهما فإن النقاد الأدبيين ليسوا دوما منظرين.
أو كما قيل، فهو الطريقة التي يتم التعامل من خلالها مع الأعمال الأدبية وتذوّقها وتقييمها وتوضيح معانيها؛ وذلك لإظهار مظاهر الجمال في النصّ بشكل عامّ وتقييمها بشكل موضوعيّ.
تعودُ عملية النقد إلى ذوق الناقد بالإضافة الى قدرته على تفنيد العمل الأدبي ودراسته دراسة نقديّة بحتة، ثم تقدير النص بشكل صحيح مع بيان القيمة الأدبية له. كما يجب علی الناقد أن يتميز بصفات شتی عن الكتاب الاخرين ومن بين هذه الصفات: امتلاك الموهبة، الثقافة والمعرفة، الذوق الأدبي، الموضوعية في النقد الأدبي.
لكن ان ما لاحظته في کتابة السيد الفواز هو خلطه ما بين الناقد الادبي والناشر والمحرر الثقافي. فأما بالنسبة للنقاد فهو من جهة ينتقد النقاد بتأثرهم بأيدولوجيات الکتاب أثناء کتاباتهم النقدية و من ثم بالمؤلف و المواقف و رؤی و أفکار داخل النص، في حين ان کل من هذه المفردات تعتبر عالما خاصا ينبثق من مکامن النص تارة و تارة من شكل و أسلوب النص. ولا يتخلی باجمعها من ترددات الحالة الحسية الانسانية للناقد أثناء تعامله مع النص، ناهيك عن النقاد الذين يكتبون تحت الطلب أو متأثرا بجنس الکاتب أو المؤلفة! لكن مع کل هذا وذاك کان من المستحسن والاجدر للسيد الفواز ان لا يلصق کلمة الخيانة بالنقد! بل يلقي الاضواء علی من خانوا و يخنون الوطن والمواطن دون الحياء والستر.. ‌و دليل علی هذا الكلام هو ما ورد في مقاله حينما کتب:
‘ ان تســلل التسريبات النســقية للايديولوجيــا تتبدى من خــلال طبيعة المعاجلة النقدية، أو عبر الموقف الذي يمكن استخالصه. وبقطع النظر عن الاشتغالات التي باتت تضع الممارسة النقدية، وحتى الخطاب النقدي في ســياق الدراسات الثقافية، فإن التوصيف الجناسي للمعاجلة النقدية تظل تهجس بما يعكس أثر التســريب النسقي فيها، قد يخل بموضوعيــة النقد أو مهنيته، أو ربما وهو أمر يدفع بعض النقاد الى اللجوء الى اشــتغالات النقد الثقافي، بوصفها اشتغالات تٌعيدنا الى السياق، والى المؤلف، والى مايحملــه النص في جوهره من مواقف ومــن رؤى وافكار’
ان من المعلوم تباين النص الجيد من الرديء والنقد الاکاديمي من السطحي غالبا عند المحررين والمشرفين المختصين علی الصفحات الثقافية کوضوح الشمس، لكن کان من المستحسن ان يأتي السيد الفواز بأمثلة عن هذا النوع الايدولوجي البخيس في نظره من النقد ثم مقارنته بالاخری الذي يراه نقدا علميا و موضوعيا حسب فهمه و رؤاه، كي‌ نکون علی بينة من نيته و فهمه المتميز، هكذا و في نهاية مقاله هو يختلط بين هذين العنصرين المختلفين و يكتب:
‘ الوعي بالاختلاف هو يُعطي للناقد والمحرر مســؤوليته في تقييم هذا النص أو ذاك، مثلما يُبرر عدم اخضاعه لمعايير خارجية لقيم القبح والجمال، وأن مقاربة هذه النصوص تعتمد على مهنية الناقد بوصفه »القارئ العمدة« على مســؤولية المحرر بوصفه المســؤول عن صفحته، وعن وجهة النظر والسياسة التي تعتمدها جريدتــه أو مجلته، وهذا للأســف مــن اكثر مثالب التصريف النقدي في ثقافتنا العراقية…’
أخيرا ليس بوسعي شيء الا ان اتأمل و أقول مع کل من يحترق قلبه علی الواقع الادبي المتهالك الذي نعايشه؛ يا ليت لنا نقادا ماهرين موضوعيين و أکاديميين يتعرفون علی الابداعات الادبية والتي نادرا ما نصادفها هنا وهناك و يتعاملون مع الاعمال الادبية من منظور القيمة الادبية التجددية، و يصنعوا جسرا متينا و موثوقا لعبور القاريء من شط النص الی ساحل التلذذ بالنص و التعاطي معه. ولتكوين جيلا نخبويا من النقاد نحتاج الی عمل دؤب و تشجيعهم بنشر کتاباتهم، ثم تأسيس مراکز ثقافية و أکاديمية حيادية لأستيعاب أولئك النقاد الذين لهم تطلعات نقدية ايجابية و ينتظر منهم الكثير مستقبلا. لكن في الاخير (فليكتب و ليقرأ) و نكرث الاهتمامات في هذا الحقل، فان ما نحتاجه الیه اليوم هي استرجاع دور الکلمة ومفهومها الی حياتنا و غرس هذا المعنی في النفوس، هذه هي الطريقة المثلی للتقدم، بدلا من القتل و العنف و کل مظاهر التخلف المتنوعة، ثم علينا ان لا ننسی بأن هنالك في نهاين المطاف قراء واعين و صامتين هم الذين يقررون علی القبول أو الرفض لأي عمل أدبي نقدي…