لم تكن تكبيرة ذلك اليوم تكبيرة صلاة، وإنما بداية لصناعة مجد جديد، كتب على صفحات التاريخ بمداد احمر، محابره اعناق الشباب والشيبة، وقلامه بنادق حملوها على أكتافهم، ليكتبوا بها تاريخاً مشرق تتفاخر به الأجيال القادمة.
حينما امتطوا ظهر الليل المظلم، وساروا به حفاة الى مناياهم، واتزروا بالموت, وتدرعوا بالقلوب، ولبسوا ارواحهم قلائداً في اعناقهم، ليتزينوا بها في أعراسهم، التي رقصوا بها في ساحات الجهاد, ساحات الشرف, ساحات الموت والانتصار، ليسطروا اروع قصص العشق والتضحيات، في زمنٍ أصبحت فيه التضحية جنون، والإيثار مثلبة، لبلدٍ لم يمنحهم ابسط حقوق العيش المشروعة، لكنهم لم يبالوا لذلك.
تنوعت وتعددت قصص عشقهم لمحبوبهم العراق، فما بين رجل إبيَضَّ وجهه فرحاً مع بياض شيبته المبارك، وهو يربط وسطه بشماغه كي يستقيم ظهره الحاني بآهات السنين واثقالها، فأضحى القريب عنده بعيد فلا يبصره، وغدى القوي ضعيف عنده، فلا يسمع ما يتلى عليه، لكنه عَشِق الشهادة فكان كل شيءٍ عنده هيِّن ولا قيمة له تذكر، حتى نال شرفها.
وبين فتى لم يبلغ الحلم، عمد الى تزوير هويته لتغيير تاريخ مولده، فيزيد عليه بضع سنين، ليباغت القانون الذي حدد عليه عمر الجهاد، فكان وجهه يشع نوراً وبهجةً، وكانت ابتسامته كأنها احد أبواب الجنة، فكان أمه وأباه يستقدمون المشيعين وهم يحملون جنازته على أكتافهم.
وبين رجلي دين قضيا شطراً من الزمن بجوار امير المؤمنين عليه السلام، يبحثان بين ازقة النجف الضيقة، ودورها القديمة المغمورة بعض أجزائها تحت الأرض، او دار أقيمت على ما تبقى من شاطئ بحر النجف القديم، عن أستاذ بحث الخارج ليكمل ما تبقى من دروسه، وآخر عن مجموعة طلبة ليحضر معهم درس السطوح العالي، قبل ان تخضب عمامتيهما بدماء الشهادة، وهما يعلوان نعشيهما.
وبين من توسط العمر وتطرفه وهما يجلسان ويتسامران فيستذكران ما مضى من عمرهما، هباءً منثوراً، ليعوضهما الله بما تبقى ليكونا احد جنود فتوى الجهاد الكفائي ليبدآ بِعَدْ اول سنة من عمرهما الجديد التي لم تكتمل، لأنهما ارتحلا وهما يذودان عن مقر فصيلهما من هجوم عناصر ارهابية تحاول غزوهم.
وبين عشريني وثلاثيني يجلسان وسط مقر سريتهما، ويحدثان رفاقهما عن ما تركاه خلفهما، فالعشريني يتحدث عن موعد زفافه، والثلاثيني يتحدث عن تاريخ ميلاد ابنته الثانية، وأمنيته في ان يكون حاضراً تاريخ مولدها الثاني، قبل ان تتخضب اجسادهم بدماء نحورهما، لتحمل ام العشريني بدلت زفافه وهي تودعه الى مثواه الأخير، ويمسك والد الثلاثيني بيد حفيدته ليتبع نعش ابنه الشهيد.
مهما تعددت قصصهم، واختلفت أعمارهم، تشابهوا في كثير من الأشياء منها التضحية بالأرواح, والإيثار بالنفس, من اجل وطن تكالبت عليه كلاب الإرهاب، لتنهش جسده المخضب بالدماء الزواكي، التي تفوح منها رائحة عطر الجنان، ليرتحل هؤلاء المجاهدون والعسكريون الى دار البقاء، ويتركوا خلفهم مواقف من البطولة والتضحيات والإيثار الذي لا يزايدهم عليه احد، وهناك من بقى خلفهم وقد توشم جسده بآثار الرصاصات وشضايا القاذفات، وهناك من كان وشمه بتر ساقة او قدمه او اقتلاع احدى عينيه.
هاهم عشاق الوطن والشهادة الذين مهما تحدثنا عنهم لن نستطيع ان نوفيهم ولو عشر معشار ما قدموا، فليرحم الله شهداء العراق ويعافي جرحاه.