بديهية

لا يرى ألا من تأمل ذاك الخيط الرفيع بين الثبات والجمود، كلاهما يوحيان بالارتكاز ومعبران عن قوة هذا الارتكاز، بيد انهما ساعة الفعل في التطبيق ضدان؛ فالجمود يرتدي البسة متعددة لكي يبدو ثباتا، تارة تراه بزي شيخ الحكمة، وتارة بثياب أحد أساطير أو آلهة الإغريق زاعما الثبات على الراي أو القيمة أو لاستقرار، وبين الثبات والاستقرار أو زعم أحدهما نحتاج فهم المعاني قبل التزام المصطلحات.

الثبات: الجذور التي تمنحنا الحياة

الثبات هو إرادة واعية ترفض التفريط بالقيم العليا، إنه أشبه بشجرة تضرب جذورها في الأرض، لكن أغصانها تظل مرنة، تتمايل مع الرياح كي تعود أكثر قوة بعدها. الثابت ليس أسيرًا للمظهر، بل مخلص للجوهر. يعرف أن المبادئ قد تكون مطلقة، لكن وسائل تحقيقها نسبية، تتغير مع تغير الزمن والظروف، وعندما يخلط السياسي “مثلاً” بين هاتين الفكرتين فهو سيكون صريع مصالحه ومضحي بمصلحة من يثق به ويعيش معه، هنالك جذر مهم يربط السردية لأي فكرة صحية وما يمكن أن تحقق الفكرة وباي اتجاه، فالثبات على المبدأ لا يعني ابيض واسود ولا يوجد ألوان.

لقد شهد التاريخ أمثلة عديدة على هذا الثبات الحي. الرسول e في صلح الحديبية لم يفكر كما نخبة الصحابة انه يحمل الدين الصح وان قبول عنجهية الجاهلية بالحلم هو تراجع وهزيمة، بل فكر كقائد ورجل دولة والتاريخ حكم على قراره، كان غاندي ثابتًا على مبدأ اللاعنف، هو لم يك يريد إن شعب مستعبد أن يحمل أيديولوجيا ويقاتل في سبيلها بل أراد أن يحول الاستسلام إلى صمود والقهر إلىصبر والعبودية أملا بالحرية فأعطاهم النموذج بنفسه، هو نجح بإخضاع المصالح للتوحد لكن قتله التخلف كأي حامل رسالة في شعب جاهل، ومثال آخر هو اليابان بعد الحرب العالمية الثانية. لم تتخلّ عن هويتها العميقة، لكنّها أعادت صياغتها لتتناسب مع عالم جديد. كانت جذورها ثابتة في الثقافة واللغة والتقاليد، بينما أجنحتها الصناعية والتقنية حلّقت في فضاء التقدم. هذا الثبات المرن هو ما أنقذ اليابان من الانهيار وحوّلها إلى قوة اقتصادية وعلمية.

الثبات إذًا هو موقف فلسفي يرى المبادئ كنبع حي، يحتاج إلى الرفد بالأفكار والتجارب الجديدة كيلا يجف.

الجمود: حين تتحول القيم إلى أصنام

على النقيض، الجمود حالة من الانكماش الداخلي، خوف من المجهول، وتقديس للشكل على حساب المضمون. هو وهــــــــــــــــــــــــــــم الأمان في البقاء كما نحن، حتى لو كان البقاء معناه الموت البطيء.

الإمبراطوريات التي انهارت لأنها رفضت التغيير كثيرة. في نهاياتها رغم أنها مجوفة أكلها السوس كالإمبراطورية الساسانية الإمبراطورية العثمانية وغيرهما تعرضت للتعرية التاريخية فلم تر ما حولها، حتى على مستوى الأفراد، نرى الجمود يتجلى حين يخشى الإنسان مراجعة أفكاره أو تطوير مهاراته، فيجد نفسه بعد سنوات أسير قوالب فكرية لم تعد قادرة على تفسير عالم يتغير كل يوم.

متى يتحول الثابت إلى جامد؟ وفلسفة التوازن

التحول من الثبات إلى الجمود يحدث بخطوات صغيرة لا يلاحظها المرء إلا متأخرًا. يبدأ حين نتعلق بالوسائل بدل الغايات، حين نصبح أسرى لشكليات بدعوى حماية الثوابت، وحين نصم آذاننا عن النقد بذريعة الحفاظ على الهوية، نحن كأمة أتانا الإسلام حيا نصوصه مرنة ليست قطعية، تتيح للبشر الاجتهاد برأي ليس مقدسا وتبني دولة وحكم، لكننا شوهناه بالتفسير وإقحام القدسية على البشر وأبدلنا الأصنام الحجرية بأصنام بشرية وأخفقنا في التقدم خشية أن نفقد التراث، بينما التراث للعبرة والحاضر تقوده الفكرة.

الم تر أننا من المجتمعات التي جعلت من التراث أصنامًا لا يُمسّ، فأوقفت التفكير النقدي والاجتهاد. لم تدرك أن الوفاء الحقيقي للتراث لا يكون بتحنيطه، بل بجعله حيًا متجددًا يستلهم الماضي ليصنع مستقبلًا.

الم تر سياسين يحتجون لضعف كفاءاتهم بالثبات على الراي والإصرار عليه فأوردوا قومهم دار البوار ومع هذا هم مستمرين رغم تخليهم عن زعمهم والتكبر الفارغ ذلك انهم لم يتجمدوا حفاظا على الراي أو القيم وإنما خوفا أن لا ينالوا سقط المتاع.                                                                                                          

الحل ليس الانسلاخ عن الثوابت، ولا الغرق في الجمود، بل إحياء الحركة داخل إطارها. القيم الكبرى – كالعدل، الكرامة، الحرية – هي الثوابت التي تمنحنا الهوية. أما الوسائل والسياسات والأدوات فهي متغيرة، ويجب أن تتغير كي تحقق تلك القيم في سياق جديد.

هذا التوازن يتطلب شجاعة فكرية وأخلاقية: شجاعة النقد الذاتي، وشجاعة الابتكار، وشجاعة مواجهة الخوف من التغيير.

إن هذا الخلط بين الثبات والجمود هو ما جعل كثيرًا من القيم النبيلة تتحول إلى شعارات خاوية، وكثيرًا من الأمم العظيمة تنكفئ على نفسها حتى اختنقت. هنا تصبح الأسئلة ملحة: متى يكون الثبات قوة؟ ومتى ينقلب إلى جمود قاتل؟ وكيف نحيا الحركة داخل الإطار دون أن نفقد هويتنا أو نتحجر باسمها؟

نحن من نقرر

الثبات قوة عندما يفهم ويتميز عن الجمود ويكون وفق استراتيجية تنفيدية وليس شعارات لأنه سيتحول إلى جمود عاجز، إن الهوية هي التي نتعرف عليها بأصلها وليس التشوه المنقول المنحول الذي لا نطبقه رغم علو الصوت في مدحه وزعم الدفاع عنه بعقليه الجاهل العاجز الذي يعلو صوته آمنا فان تعرض لخسارة الدرهم أو رفاهيته انكفأ إلى الصمت المقدس.

التاريخ لا يرحم من جمدوا أفكارهم حتى انكسرت، لكنه يخلّد أولئك الذين ثبتوا على جوهر القيم بينما ابتكروا ألف طريق لتجسيدها؛ الإصلاح الحقيقي لا يأتي من القفز في المجهول، بل من شجاعة الموازنة أن نحافظ على الثابت الحي، وأن نبتكر وسائل جديدة تحقق الغايات النبيلة.

إننا نقلب الثبات جمودا عندما نتشبث بالشكل وننسى الجوهر، عندما نصم آذاننا عن النقد بدعوى الدفاع عن الثوابت. في هذه اللحظة يبدأ الفكر بالتكلس، كالماء الراكد الذي يصبح مع الزمن مستنقعًا فيه حياة ولكنها تعني المرض.

فهل نحن مستعدون لأن نسأل أنفسنا بجرأة: هل نعيش الحياة كما هي، أم نحرس الوهم باسم الوفاء؟ وهل نملك الشجاعة لنقول إن ما نمارسه اليوم ليس هو حقيقة ما نزعم أننا ننتمي إليه، وان الأصل مدفون بكم الأفكار المشوهة من أنقاض ما صنعه الجهل.

                                                                                  محمد صالح البدراني

أحدث المقالات

أحدث المقالات