في لحظة فارقة من التاريخ السياسي العراقي تقف الطائفة الشيعية أمام مفترق جديد لا يُشبه محطات ما بعد 2003 ولا يتكئ على أدوات ما قبلها. فمع انكفاء إيران المتدرج عن المشهد العراقي يطفو إلى السطح سؤال المصير: من يحفظ التوازن الداخلي للمكوّن الشيعي؟ ومن يملأ فراغ الغياب الإيراني دون أن يكرّس الهيمنة أو يستدعي الردّة الطائفية؟
هنا تتجه الأنظار إلى النجف لا طهران بوصفها العاصمة المعنوية والسياسية التي يمكن أن تستعيد موقعها التاريخي في قيادة الوعي الشيعي لا بوصفه طائفة مغلقة بل كمكوّن وطني مشارك في الدولة يحفظ وزنه لا بانغلاقه بل بانفتاحه على الداخل العراقي والعالم العربي.
وفي صلب هذا التحوّل تتبلور فرصة نادرة للسيد مقتدى الصدر فالرجل رغم كل جدلياته يمتلك ما لا يملكه سواه: جمهور قوي ،شرعية ميدانية، تموضع وطني، وعلاقات غير عدائية مع محيطه العربي فضلًا عن قربه من النجف وبعده النسبي عن طهران وهو ما يؤهله لأن يكون واجهة شيعية محلية لمرحلة ما بعد إيران لا على طريقة الزعامة الشمولية بل كـ”ضامن سياسي” لتماسك المكوّن الشيعي داخل المعادلة الوطنية.
لكن ما يُعطي لهذه الفرصة بُعدها التاريخي ليس شخصية الصدر فقط بل الهندسة الهادئة التي تقودها مرجعية السيد السيستاني وهي المرجعية التي لطالما رفضت التطييف السياسي ووقفت على مسافة واحدة من كل القوى لكنها لم تتخلَ يوماً عن مسؤولية الحفاظ على تماسك المكوّن الشيعي كركيزة لاستقرار العراق.
وبهذا الفهم يمكن قراءة إشارات المرجعية منذ احتجاجات تشرين 2019، مروراً بالمواقف من التدخلات الإقليمية وحتى الموقف غير الصدامي من انسحابات الصدر المتكررة من العملية السياسية. فالمرجعية ترى أن لحظة ما بعد 2019 حيث تجاوز الشاب الشيعي الانتماء الطائفي نحو الهوية الوطنية تتطلب إعادة صياغة للتمثيل الشيعي لا على أساس المذهب بل على أساس المواطنة والمسؤولية. وهذا لا يعني تفكيك المكوّن بل تحريره من الارتهان والاحتكار وإعادة إنتاجه في قالب وطني متصالح مع نفسه ومع الآخرين.
في هذه اللحظة لا يسعى السيستاني إلى صناعة زعيم بقدر ما يسعى إلى هندسة توازن طويل الأمد عبر زعامة محلية منبثقة من الواقع الشيعي لا مفروضة من خارجه زعامة تحفظ للشيعة تمثيلهم ولكن ضمن الدولة لا فوقها.
وفي هذا السياق يُنظر إلى السيد مقتدى الصدر بوصفه القائد المحلي الأقدر على تفعيل هذه الهندسة خصوصاً وأنه يتمتع إلى جانب شرعيته الدينية والشعبية بـمقبولية عربية لا تتوفر لغيره من الزعماء الشيعة وهو ما قد يؤهله ليكون واجهة لمرحلة ما بعد إيران إذا ما تمكّن من تقديم مشروع وطني جامع لا يقتصر على الشيعة بل يخاطب العراقيين جميعاً من خلال صياغة هويته السياسية في اتجاه “التيار الوطني الشيعي” كحالة هجينة بين الولاء المذهبي والانتماء الوطني.
في هذا الإطار يمكن قراءة انسحاب مقتدى الصدر من الانتخابات في عام 2021–2022 ليس بوصفه تراجعاً عن المشروع السياسي بل كخطوة ضمن هذا التكتيك الاستراتيجي النجفي فإذا ما نجح الصدر بهدوء المرجعية ودعمها المعنوي في إعادة موضعة النجف كمرجعية سياسية روحية بديلة عن طهران فإن العراق سيكون قد أنجز واحدة من أخطر عمليات الانتقال في الشرق الأوسط: تحويل الزعامة الشيعية من موقع التبعية إلى موقع المبادرة ومن خطاب الاصطفاف إلى خطاب الدولة.
ومن هنا فإن أي مشروع سياسي شيعي ما بعد إيران لا يمكن أن ينجح دون أن يحتوي هذه اللحظة الاستراتيجية الحرجة للطائفة ويعيد دمجها ضمن مشروع وطني جامع يضمن قوة الفاعلية السياسية الشيعية .