حين فتحتُ حاسوبي، لم تكن نيّتي كتابة عرض تقديمي عن المفكر العربي عبد الوهاب المسيري، او إطلاق سلسلة من الأسئلة المركّبة ذات الطابع الفلسفي حول الواقع العربي تجاه القضية الفلسطينية على العكس، كنت أنوي تقديم قراءة سياسية حول مصير حركة حماس ضمن المشهد الفلسطيني، بعد انهيار محور المقاومة الذي طالما استندت إليه.
مستعينًا في هذه القراءة بعدد من المصادر التي ساعدتني على بلورة تصوري، وكان من أبرزها كتاب الباحثة الأردنية فاطمة الصمادي “إيران وحماس: من مرج الزهور إلى طوفان الأقصى“ والذي أعتبره شخصيًا مرجعًا مهمًا لفهم تطور العلاقة بين حماس وإيران، كما اطلعت على مجموعة من الأوراق البحثية الصادرة عن مراكز فكرية رصينة.
لكن سرعان ما بدأت فكرة ملحّة تلاحقني، تُصرّ على أن أكتب مقدّمة تبرّر موقفي، وتُطمئن القارئ بأن ما سأعرضه لا ينطوي على انحياز لحماس، بل هو تمهيد دفاعي، وفي أفضل الأحوال، محاولة للحفاظ على موضوعية زائفة، أو ربما انسجامًا مع الخطاب الإعلامي العربي السائد.
ولكن، لماذا أجد نفسي مضطرًا إلى تقديم مبررات وتمهيدات دفاعية، وما الذي أدى إلى تراجع مركزية القضية الفلسطينية في الوعي العربي إلى هذا الحد، وكيف بدأت بعض النخب وشرائح من المجتمعات العربية بالتحوّل من التعاطف التام، إلى الحياد، بل إلى القبول بالتطبيع.
كيف أصبح تصنيف حركة مقاومة مثل حماس كتنظيم “إرهابي” أمرًا متبنًى في بعض الأوساط العربية، وكيف حدث أن انحاز الوعي العربي، سواء تحت تأثير الإعلام، أو نتيجة التحالفات الجيوسياسية، أو بسطوة حداثة زائفة، إلى خطابٍ يُشابه في كثير من جوانبه، بل يتطابق أحيانًا، مع الخطاب الأميركي المنحاز أصلًا إلى إسرائيل وضد الفلسطينيين ومقاومتهم.
إذا أردنا البحث في أسباب الانحياز الأميركي إلى إسرائيل، فإن المفكر العربي عبد الوهاب المسيري يقدّم تفسيرًا موسّعًا لذلك في مؤلفاته، فهو يرى أن المجتمعين الأميركي والإسرائيلي يشتركان في كونهما مجتمعات استيطانية، تكوّنت من مهاجرين اضطروا إلى التخلي عن هويتهم الأصلية واكتساب هوية قومية جديدة بمجرد وصولهم إلى نيويورك أو حيفا.
حيث يبين المسيري أن البيوريتانيين الذين اكتشفوا أميركا بدأوا بتوسيع مستعمراتهم الزراعية العسكرية، بينما قام المستوطنون الإسرائيليون باحتلال فلسطين بنفس الطريقة، وهذه تمثل “عقلية الكاوبوي”، التي تفضل الفعل على الفكر، حيث يصبح العنف وسيلة لحل المشكلات.
مضيفًا أن اكتساب الهوية الجديدة يمثل إشكالية لهذه المجتمعات الاستيطانية، التي تتنكر لتراثها، مما يضطرها لاختراع تراث جديد يتماشى مع أسطورة “الإنسان الجديد”، ففي أميركا، ظهرت أسطورة “آدم الجديد” لتأسيس ديمقراطية، وفي إسرائيل “اليهودي المخلص” الذي يهاجر لأرض الميعاد، ومن هنا يظهر التشابه الكبير بين الوجدان الأميركي والصهيوني، خاصة في العنف العنصري، ورفض التاريخ، والتعامي عن العواقب وارتكاب المجازر.
والجدير بالذكر أن المسيري لم يقتصر في تحليلاته على الجوانب النظرية فحسب، بل تتبّع الوقائع تاريخيًا، كاشفًا عن حقائق قد تكون غائبة عن كثيرين، من بين هذه الحقائق، أن مؤسسي الجمهورية الأميركية، بعد إعلان الاستقلال، فكروا في جعل اللغة العبرية لغة رسمية للدولة، معتبرين أن جمهوريتهم الناشئة تمثّل “صهيون الجديدة”، قبل أن يتراجعوا عن القرار لأسباب عملية تتعلق بظروف تلك المرحلة.
كما أشار إلى أن غالبية اليهود المعاصرين لا يعرفون الكثير عن التلمود؛ بل إن الفيلسوف اليهودي الشهير مارتن بوبر تلقى نسخة من التلمود في عيد ميلاده الستين، وكانت تلك أول مرة تقع عيناه عليه، ومع ذلك، لا يزال بعض الخطاب العربي يقدّم تصورًا نمطيًا يصوّر اليهود وكأنهم جميعًا غارقون في دراسة التلمود وبروتوكولات حكماء صهيون، منهمكين في تنفيذ مؤامرات كونية.
وفي حادثة أخرى، نقل المسيري عن ماكس نوردو، شريك هرتزل في تأسيس الحركة الصهيونية، أنه لم يكن يعلم بوجود شعب فلسطيني حتى حضوره المؤتمر الصهيوني الأول، وعندما أبدى استغرابه، أجابه هرتزل مطمئنًا “كل شيء سيتم تسويته لاحقًا”.
ومن زاوية أوسع، يرى المسيري أن الدولة الصهيونية ليست كيانًا مؤسسًا على “الوعد الإلهي”، بل هي أداة عسكرية واقتصادية ووظيفية في يد القوى الغربية، تخدم مصالحها في المنطقة، وتندرج ضمن منظومة استعمارية حديثة لا تختلف جوهريًا عن صور الهيمنة الغربية الأخرى.
إذا كانت مؤلفات المسيري تقدم تحليلات عميقة تفسر دوافع الدعم الأميركي والغربي وطبيعة الكيان الصهيوني، فكيف يمكننا اليوم الوصول إلى إجابات وتحليلات معمقة لفهم سبب الانحياز المسبق ضد حركة حماس؟ وكيف بدأت شرائح واسعة من العرب تتبنى خطابًا يقترب من السردية الغربية بشأن العنف الفلسطيني؟ هل يكفي الإعلام وحده لتفسير هذا التحول في الموقف الشعبي العربي؟
فما نشهده اليوم ليس مجرد تحولات في المواقف السياسية، بل هو انقلاب عميق في الفكر والوجدان العربي، تسلّل إلى كل زاوية من زوايا الوعي الجمعي وفي ظل هذه الأسئلة المُلحّة، نجد أنفسنا في حاجة إلى مفكر جديد، يمتلك القدرة على تفكيك لعنة التطبيع والحياد التي تهيمن على الوعي العربي، مفكر قادر على استيعاب ما جرى ويجري، ليصوغ استنتاجات تفتح أمامنا أفقًا نحو مستقبل أوضح.
فالمسألة المتعلقة بالصهيونية والعرب تتطلب بُعدًا فكريًا عميقًا، وعلى غرار المسيري، نحتاج إلى مفكر يُضيء لنا على ما وصلنا إليه، ويُوضح لنا آفاق مستقبل القضية الفلسطينية، فالمعرفة الإنسانية هي الوحيدة القادرة على تقديم الإجابة عن مصير فلسطين، حتى قبل الأديان، إذ إن فهم الإنسان والمجتمعات هو الذي يوفر لنا المفاتيح الحقيقية للخلاص.
بعد كل تلك التساؤلات، نعود إلى السؤال الجوهري الذي بدأنا به ما هو مستقبل حركة حماس وما مصير النضال الفلسطيني في ظل التحولات العميقة التي نشهدها؟ وكيف يمكننا أن نُقيّم المقاومة في واقع يُعيد تعريف كل شيء، بدلاً من الاستدلال بمؤشرات الحاضر أو تعقيدات التحولات الجيوسياسية، أو العودة إلى خلفية العلاقة بين حماس والمحور أو قرارات ترامب، أفضّل العودة إلى سياق آخر لفهم مصير حماس والنضال الفلسطيني.
تتمثل إجابة هذا السياق في العودة إلى الوراء، حيث شهد الموقف العربي تحولات عميقة أفضت إلى سلسلة من الاتفاقيات، بدءًا من كامب ديفيد (1978) وصولًا إلى وادي عربة (1994)، والتي كانت في جوهرها شكلًا من أشكال الاستسلام المقنّع.
وفي ظل هذا التراجع، وخيانة بعض التيارات، وتوقيع اتفاقية أوسلو، ومع انطفاء وهج النضال حتى كاد يُقال لم يعد في فلسطين مناضل، أشرقت حماس من هذا الفراغ المملوء بالخذلان، لتعيد إشعال جذوة المقاومة وتنقل الصمود من جيل إلى آخر، كان ذلك استجابة طبيعية لشعب لا يملك سوى عزيمته، لكنه حوّلها إلى سلاح لا يُكسر في وجه عدو لا يرحم.
لهذا، لا أجد نفسي ملتزمًا بالمنهج الموضوعي والعلمي كما هي عادتي في تحليلاتي السياسية، بل أواجه منهجًا مختلفًا يفتح أمامي آفاقًا جديدة لفهم مستقبل حماس، هذا المنهج يلزمني أن أتبع قراءة فكرية انسانية تؤمن بأن عزيمة الإنسان والشعوب لا تُهزم أبدًا عندما تُصّر على حقها، وأن الانتصار، مهما طال الزمن، سيكون حليفها في النهاية.
ومن هذا المنطلق، إذا مضت حماس كما يتمنى أعداؤها، فإنها ستخرج من ركامها شرارة تُنبت جيلًا أكثر صمودًا وأشد حماسة. ففي فلسطين، وعلى قدر الخذلان، تُولد صلابة الرجال، ولن يتوقف سيرهم في الكفاح أبدًا، وهكذا، لا يمكن فهم مستقبل حماس بعيدًا عن عمق النضال الفلسطيني ذاته، ذلك النضال الذي رغم كل ما واجهه من خذلان، لا يزال يُمثّل مثالاً حيًّا لإرادة التحرر في زمن الصراعات والانكسارات.