إن اختزال الإنسان إلى البعد الواحد هو إنتاج المجتمعات الصناعية الرأسمالية، لان العلم والتقنية وتطور التكنولوجي لصناعة الحديثة لم تنطلق في تطورها إلا وهي مشبعة بإيديولوجيات سياسية واجتماعية عملت على استغلال وقمع الإنسان؛ لتجعل منه أداة لاحتواء ألنسقي للطبيعة؛ أبعدته عن جوهر حقيقته من الثراء والتنوع الفكري والمعرفي المتعدد الأبعاد، ليتم في البعد الواحد استفراخ محتواه الإنساني وتصحيره .
والإنسان بهذا الوصف هو الإنسان (ما بعد الحداثة) وهو إنتاج المجتمعات الصناعية، مجتمعات عصر (الحداثة) التي تشدقت بالإعلان وتبني الثورة الصناعة والإنتاج والتنمية عبر قيم الإصلاح ومفاهيم وأفكار التنوير والتطور؛ والتي تمخض عنها بناء وتبني قيم الديمقراطية والحرية والمواطنة واحترام حقوق الإنسان؛ لتكون في النتيجة المستشفة من خلال ممارسات عملية لنظم التي تبنت هذه المفاهيم وعملت على بناء دساتيرها وفق نظم ومواثيق دولية وبرامج سياسية تضمن حقوق الإنسان والمواطنة؛ وهي من خلال وقائع تلتمس من مجريات الحياة اليومية في الدول الصناعية؛ بان هذه الأفكار والمفاهيم هي مجرد أفكار فيها نوع من الجمالية لتسويق الإعلامي لبرامجها – ليس إلا – ولا تعكس واقع الحال في سياق تطبيقاتها العملية على ارض الواقع الدولي على صورة المواطن؛ بكون هذه الدول التي طرحت وتبنت برامجها التنويرية؛ كانوا هم السباقين في انتهاك مبادئ الديمقراطية وانتهاك حقوق المواطن، والتبويق والتضخيم النظري لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان لم يواكب في تطبيقها العملي على ارض الواقع، لان المجتمعات الصناعية هي مجتمعات (الإدارة) وهذه الإدارات في كل مواقعها هي (إدارات مغلقة) ليس فيها من (يعارض)، وهي بنتيجة عملها الاحتكاري وفرض هيمنها؛ تمارس نوع من (المراقبة) الصارمة بطابع جديد؛ وهذا الفهم في المجتمعات الصناعية يعمم باتجاه كل أنشطة الحياة السياسية والاقتصادية وحتى العلوم الإنسانية، لدرجة التي تسخر هذه الأنشطة لصالح السلطات السياسية والتي تجبرهم على تقبل ما هو متوافق مع مصالحها العامة وحتى الخاصة؛ وحين يتم فرض هذا (التقبل) معناه لا وجود لأي دور (للمعارضة) بقدر ما يقتصر دورها في مناقشة الحلول البديلة المطروحة وفق سياق العام مهما كانت نوع وشكل المعارضة، وبالتالي فان ما يتم طرحه من قبل هذه (المعارضة) ليس له أية أهمية ولا يشكل أي تثير وخطورة في السياق العام طالما الأمر يسير وفق تلبية ما تم إدراجه من قبل السلطات المركزية، لان (الإدارة) التي تتسم بهيكلية من الاختصاصات العلمية و الفنية والتقنية، هي إدارات تنتهج ايدولوجيا معينه سلفا، سواء بالاتجاهات السياسية أو الاجتماعية، لان واقع المجتمعات الصناعية هو واقع يتداخل بين التقنية.. والعلم.. والسياسة، وهذا التداخل والأخذ بسياقه في ظلال المجتمع الصناعي يغيب دور المواطن تغيبا كاملا ويحكم عليه لا وبل يحكموا على قدراته العقلية ليحولوا كل ملكاته إلى فعل (أداتي)، حيث تعمل (الصناعة) عبر العلم والتقنية وايدولوجيا السياسية على تربية الفرد وتطويعهم للإشهار السلع التي تنتجها المصانع لتمارس تسلطها على الواقع الاجتماعي ليتشيئ (الفرد) وفق هذه التربية لإخضاعه لأوامر وقوانين التي يرسمها المجتمع الصناعي وتتحكم بها، لتبرهن أسواقهم التجارية وحركة تصريف سلعهم؛ أي بين (الإنتاج) و(الاستهلاك) إلى مدى استثمار مشاريعهم في (تشيؤ الإفراد)، بعد إن يكون (المجتمع الصناعي) قد حقق أهدافه بإيجاد علاقة تربط بين الأشياء والمواضيع بما ينهضوا في ذات (الفرد) من حب التملك والاستهلاك؛ حتى وان كان فائضا عن حاجته؛ ليبقى يتشبث ويبحث عما هو جديد من الأشياء المصنوعة. وهكذا تكون (المجتمعات الصناعية) قد حجبت عن (الإفراد) أي مجال لتفكير خارج أيطار السلع، لان جل أوقاته تحاصر بين (العمل لإنتاج سلع) وبين (الحصول على الأموال لشراء هذه السلع)، وهذه الدائرة المغلقة ليومياته هي من (شيئت الفرد)، لان بعده أصبح (باتجاه واحد)، وهذا (الاتجاه) استطاعت الدول الصناعية تحديد مساره بدقة متناهية؛ بعد إن أحكمت قبضتها عليه بكل دقة؛ وتيقنت بان (الفرد) لا يمكن إن ينفلت إلى أي اتجاه أخر لتتعدد اتجاهاته، لأنه سيهلك – لا محال – لحجم ما حوصر احتواءه بقيود البنوك والأموال، وهي بالتالي لا تخشى إن تسوق إعلاميا عن مبادئ حقوق الإنسان والحريات المدنية واحترام مواطنيها لدرجة التي يلمع صورها في المحافل الدولية بأنها دول تقدس المواطن والإنسان، في وقت الذي لحالة (التشيؤ) الذي طوق الإنسان في الدول الصناعية الرأسمالية المتطورة عبر صناعة (الترفيه) و(العبث) و(الثقافة الاستهلاكية)، وهي أسوء بكثير من حالة الإنسان ومكانته في الدول النامية؛ حيث القمع والاضطهاد ومصادرة الحريات. فحينما (يشيؤ الفرد) لدرجة التي يطوق كل تفكيره واهتماماته لتصبح باتجاه واحد هو جمع المال فحسب، فلا محال فإنها تسلب منه قدرات العقل وملكات الإبداع؛ لان المجتمع لا ينظر.. ولا يقيم (الفرد) إلا بما يملك من الأموال، لدرجة التي جعلته المجتمعات الصناعية الرأسمالية يبحث ويفكر بطريقة التي يحقق هذا الهدف، وهذا ما جعل (الفرد) يبتعد عن مواهبه وقدراته الإبداعية في مجالات الثقافة والفن وحتى القضايا الإنسانية والاجتماعية، لان (الفرد) في هذه المجتمعات ليس لدية مشاعر وأحاسيس في القرابة.. والجيرة.. والوفاء .. والصدق.. والتعاطف.. والرحمة.. والفضيلة اتجاه أهلة وأقاربه وأصدقاءه، لان العمل الدائم من اجل حصول على الأموال والأرباح والتطور التكنولوجي والبحث عن السلع الجديدة لاقتنائها والتي وان كانت زائدة عن حاجاته تجاوزت حدود إقامة علاقات طبيعية بين الإفراد، إضافة إلى الدور السلبي الذي تفعله (تكنولوجيا الاتصالات) عبر شبكة التواصل الاجتماعي (الانترنيت) و(الموبايل) لدرجة سلبت قدرات التفكير لدى الإفراد لحجم الوقت لذي يستهلك إمامها، وهذه الظواهر اليوم تخطت حدود الدول الصناعية الرأسمالية إلى الدول النامية والفقيرة، بعد إن حولت (العولمة) بفعل تكنولوجيا الاتصالات؛ العالم إلى قرية صغيرة، وهذه الظاهرة التي تشخص لحالة المجتمعات وتحديدا (المجتمعات الصناعية) والتي قدمت صورة (مشرقة) لحالة مواطنيها تحت ظلال نظمها (الرأسمالية) حيث تزخرف أوضاعها بالتطور العلمي والتكنولوجي وبما تدعيه من مواكبة كل ما من شئنه يدعم حقوق الإنسان والحريات المدنية، ولكن بطبيعة (الإنتاج) و(الاستهلاك) التي تنظمه دوائر (الرأسمالية) بصبغتها الاستغلالية (تشظي الإنسان) بكل ما تدعيه في مجال الحريات؛ لان حجم التناقض بين ما يتم تسويقه إعلاميا يناقض مع معطيات العمل الاستغلالي للإنتاج وللاستهلاك ولنظام العمل إلى ابعد حدود؛ لتبقى كل أطروحات في مجال الحقوق والحريات مجرد (أوهام) تدور في عقول الفلاسفة والمنظرين والعاملين في حقول السياسة للنظام (الرأسمالي)، لان معطيات الواقع بخصوص العلاقات الاجتماعية في ظل (المجمعات الصناعية) افرز واقع متناقضا اشد خطورة من معطيات الواقع في مجال الحريات وحقوق الإنسان إلا وهو تسويق (التربية) في المجتمع على حب الذات.. والمنفعة الشخصية.. والعمل وفق مصالح ذاتية خاصة، ليتم (إعدام) أي معارضة أو أي منطلق ثوري يحترم الإنسان كانسان ويعزز قيم المواطنة.. والتربية السليمة.. والتضامن.. والكفاح ضد أي شكل من إشكال الاستغلال وبما يخدم ويطور كل إشكال الإبداع في قدرات الإنسان، ليتم وفق هذه الايدولوجيا غلق حدود المجتمع وفق تشظي الموطن بهذه المعطيات السلبية لتشكل بمجملها نوع جديد من الرقابة يحصر حدود الإفراد في المعامل والمصانع والعمل المستمر لحصول على مزيد من الأموال ليتم نفقها على ما يتم إنتاجه من ابتكارات جديدة وهو يحاول اقتنائها، وان كانت فائضة عن احتياجاته، بعد إن تم (غسل عقله) بوسائل الإعلانات وبالتقنيات التكنولوجيا الحديثة والاتصالات وإعلامها، وهذه الأساليب هي نوع من أنواع (الرقابة الجديدة) التي ابتكرتها المجتمعات الصناعية (الرأسمالية) بعد إن احتكرت هذه التقنية التكنولوجية المتطورة كل شركات الاتصالات الحديثة المرتبطة بها وعبر شبكات الانترنيت؛ لتكون خاضعة تحت مراقبة الدولة وبشكل صارم؛ ليتم من جهة معرفة توجهات كل الإفراد في المجتمع ومن جهة أخرى ليتم توجيه الإنسان باتجاهات محددة؛ وهي التي تحددها وفق إيديولوجيات سياسية واجتماعية؛ لكي تخلق (إنسان ذو البعد الواحد واتجاه واحد)، لتحول الإنسان وفق هذه البرامج إلى كائن مستهلك ليس إلا، كل أنشطته الذهنية والفكرية وعلاقاته الاجتماعية تكون محصورة بإرضاء احتياجاته المادية، وبهذا الشكل تسلب من الإنسان حقوقه وحريته بدون إن يشعر الإنسان بذلك، ليتم لنظام (الرأسمالي) سيطرة على مجتمعاتها الصناعية وإنسانها عبر هذه (الرقابة) المبتكرة من خلال تقنيات التصنيع والإنتاج المتجدد والتكنولوجيا الحديثة، لتكون تقنيات (الرقابة الصناعية) تتمحور ضمن نطاقها السياسي والايدولوجي؛ الذي يتم رسمه بدقة في (مجالس الإدارات) للمصانع والمعامل العملاقة، فيتم فيها (تصنيع اغتراب الإنسان) قبل إن يتم (تصنيع بضائعها الاستهلاكية)، لتصنع (مجتمع ذو البعد الواحد) بلا قيم.. ولا أخلاق.. ولا هدف.. ولا طموح، ولا إبداع، بعد إن يكون في مستطاعها (تصنيع كل شيء)، فهي لا محال (تصنع المجتمع) الذي تريده، فحينما يضع ويصنع المجتمع في نظام محدد، هو بحد ذاته يعني إلغاءه – كما يقول الفيلسوف (كيركجارد 1813- 1855 ) و(هربرت ماركوز 1898 – 1979) ،لأن أي أداة تتجه إلى تصنيع المجتمع و وضعه في أيطار محدد المعالم والشكل والاتجاه معناه (تشيؤه)، لان هذه (الصناعة الرأسمالية) حددت ملامح إنتاجها بسلب القدرات العقلية.. والاجتماعية.. والسياسية.. والإبداعية.. وقيم الأخلاق.. والإحساس بالجمال، لان (النظام الرأسمالي) يصنع (التشيؤ) وفق قياساتها وميولها وتحدد ملامحه مسبقا وفق طموحاتها التكنولوجية ووفق سياق إيديولوجيتها، فيكون مجتمعها خاضع لعلاقات (الكم) و(العرض) و(الإنتاج) و (تبادل المنفعة) و(المقايضة)، فتخلق في روح المجتمع الذي (تشيئته) بهذا الشكل روح التشبث وامتلاك السلع، بما يعزز في ذات (الفرد) نشوة الاستهلاك، لتكون (نشوة الاستهلاك) هي القيمة البديلة عن قيم إقامة العلاقات الإنسانية في المجتمع المتمثل بالحب.. والاحترام.. والتضحية.. والاعتراف بالأخر.. والفضيلة.. والشرف.. والنزاهة.. والكرامة.. والشهامة.. والمساعدة.. والتعاون، لان في المجتمع الذي صنعته (الرأسمالية) ليس لهذه (القيم) أي وجود وأي ملامح، لان (الإنسان المتشيئ) في (المجتمعات الصناعية الرأسمالية) تكون (الأشياء المصنعة) هي التي تتحكم في تصرفاته وليست (قيم الأخلاق)، لان جوهر ذاته المتشيئة، هي (ذات مستهلكة) وليست (ذات مفكرة) أو (ذات مبدعة)، لان (الإنسان) بهذا الاتجاه (المتشيئ) لا يعرف (هويته) إلا من خلال ما يقتني ويمتلك من البضائع، وهذا الفعل يخلق في ذات الإنسان رغبة ليست لها أي حدود في الاستهلاك والاقتناء، فـ(الإنسان) الذي تم تصنيع رغباته وطموحاته وحتى وجوده وحدد ملامحه بما يستهلك ويقتني، هو (الفعل) الذي خلق (اغتراب الإنسان) في (المجتمع الرأسمالي) بعد إن فقد (الوعي)، فقد الوعي (باغتراب ذاته) وأصبح (متشيئا) في النظام الصناعي (الرأسمالي)، بعد إن انغمس (الإنسان الرأسمالي) في اللامبالاة؛ مندمجا مع (النظام الصناعي الرأسمالي) القائم في محيطه، و على جميع الأصعدة، لتتضح رؤاه و وجوده بهذا (الاغتراب)، وهذا ما نلاحظه في طبيعة (الإنسان) وعلاقاته الاجتماعية في ظل (المجتمعات الصناعية الرأسمالية)، بعد إن لم تعد للإنسان أية وظيفة في هذه المجتمعات سوى تكرار إنتاج اغترابه .