18 ديسمبر، 2024 11:03 م

ما بعد الحداثة الإنسان والفن بلا أبعاد

ما بعد الحداثة الإنسان والفن بلا أبعاد

ما بعد الحداثة هي مرحلة من مراحل التي يعيشها الإنسان المعاصر بإشكاليات غير مفهومة في تحديد مسار الحياة وفق رؤية علمية أو معرفية، لا فهما.. ولا فكرا.. ولا تعريفا.. ولا منهاجا؛ لا في نمط الحياة التي يعيشها؛ ولا في كيفية تعامله مع محيطه الاجتماعي؛ ولا في سلوكه؛ ولا في أي اتجاه من الاتجاهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ ولا في كيفية فهمه لمضمون التاريخ والوجود والحقيقة؛ وهذا الإشكالات لا تشخص اليوم فحسب في تاريخ الحضارة الغربية؛ بل مد تأثيرها على أفاق الحضارة الشرقية، لان المنطلق الفكري والثقافي (ما بعد الحداثة) هيمنت عليه الثقافة الرأسمالية بعولمتها للعالم ومن خلال الاقتصاد والصناعة و الصناعة الاستهلاكية التي هي مركز محورها في كل الاتجاهات و وفق إستراتجية (التناقض والاختلاف المتداخلة)، ليحمل اتجاه (ما بعد الحداثة) بهذا الفهم (المتناقض المتداخل) العديد من القيم والاتجاهات الفكرية نتيجة (العولمة)، وبفعل ثقافة العولمة امتزجت الحضارات والمجتمعات، لتصبح المعلومة بتعدد مصادرها في متناول الجميع وكجزء من التطور والازدهار، و(المتناقض المتداخل) هو نتيجة الحياة الاجتماعية بين تناقض في أفكار الناس مع اختلاف الهوية الذاتية نتيجة تنوع المجتمع وتداخل أجناس متعددة في بنيته أي في بنية المجتمع ذاته؛ وهذا ما يخلق (الاختلاف المتداخل) في وقت الذي كان المجتمع (ما قبل الحداثة) متجانس بهوية واحدة في أيطار الهوية الوطنية لدولة، ولكن ما تميزت المجتمعات (ما بعد الحداثة) هي سعة الفروق والتشكيك وعدم التماسك والانفصال وعدم الاندماج المجتمعي، وهذا ما ينتج ويخلق جدل في كل شيء، وهو ما أدى إلى إعادة التقييم والتفسير طبيعة المجتمعات (ما بعد الحداثة) لفهم المعرفة الإنسانية بعد إن رفضت هذه المجتمعات مفاهيم (الحداثة) وأطروحاتها ونظرياتها السوسيولوجيا السابقة؛ و كل ما طرحه (كارل ماركس) و(فيبر) و(دوركايم) وآخرين، من خلال نقد وطرح ومعالجة تلك التصورات التي كانت تدعوا إلى التوازن الاجتماعي والتضامن والتماسك، بكون في مجمل اتجاهات (ما بعد الحداثة) يتجه اتجاها بعيدا عن ذلك؛ إن لم يناقضه، بكونه يتجه نحو اللا مركزية وتجزئة الموضوعات وتفسير الأفكار في إطارها اللغوي والاجتماعي، لان الإنسان المعاصر في عصر (ما بعد الحداثة) يشعر وهو يعيش (العولمة) بشكل الذي نراه اليوم؛ حيث الإنسان يقضي جل أوقاته أمام ما تعرض عليه الشاشات؛ والتي تتواصل تنوعها وتطورها بابتكارات مذهلة وخاصة في مجال (الهواتف الذكية) و(اللابتوب) و(الأيباد)، لدرجة التي سلبت من الإنسان قدرته في تميز بين الواقع الذي يعيشه وبين الواقع الذي يحلم ويتخيل فيه – أي بين الواقع (الافتراضي) والواقع (الفعلي) – ليتشكل وعي الإنسان باندماج بين الواقع الافتراضي والفعلي ويكون ذكاءه وفق هذا الاندماج بين ما هو (فعلي) و(افتراضي) و(صناعي)، وقد ساهمت الإنتاج السينمائي والتلفاز ووسائل الإعلام بما لها من مقدرات هائلة بصناعة اللذة، لكي يضيع ويذوب الإنسان ويتشتت بما تصنعه وتنتجه وتقدمه؛ فلا يعرف صوابه، وبذلك تفرض هيمنتها والتحكم في وعي الإنسان وضبطه من الداخل والخارج، أي أنها ساعدت على (تشيئه)، ليخلق الإنسان في عصر(ما بعد الحداثة) واقعا مزيفا لنفسه على انه واقع حقيقي لكثرة استخدامه واستهلاكه، ونظرا الاستخدام الدائم والمتواصل لهذا النمط من الحياة وضمن هذا الإيقاع؛ لا محال يفرض للإنسان في المجتمعات (ما بعد الحداثة) نوعا من التفكير الآلي عليه ليتحول إلى عنصر محددا بجزء بسيط من آلية الإنتاج الرأسمالي المحاط بشبكة لا تعد ولا تحصى من آليات معقدة ومتشابكة ومتفرعة ومتحركة على الدوام؛ لتخلق طبقة (بيروقراطية) تحكم قبضتها بالقمع والإغواء على الإنسان؛ لتصبغ حياته بصبغتهم و ليتشيؤه بالياتها، في وقت الذي يكون هو المستهلك لإنتاجه، وكحاصل تحصيل يكون (المجتمع) حصيلة لهذه الدوائر، مجتمع استهلكي تخلق لدى إفراد هذه المجتمعات حاجة لاقتناء مزيدا من السلع وهي زائدة عن حاجتهم وليست ضرورية؛ ولكنهم يقتنونها لمجرد الاقتناء فحسب؛ لان طبيعة (المجتمع) في ظل هذه المعطيات وهو جزء منها؛ يعيش في وسط مجتمع استهلاكي؛ محيطه غارق بالسلع، وبمرور الوقت (يتشيؤ) الإنسان في هذا المحيط لتكون من ابرز صفات (ما بعد الحداثة) هو هذا (التشيؤ) للإنسان؛ الذي فرغ محتواه الإنساني وتاه وعيه باندماج بين الواقع الافتراضي والفعلي؛ فتشيئت مفاهيمه بعد إن أصبح هو جزء من (التشيؤ)، وهو ما خلق في أعماق الإنسان حالة من إحباط والاغتراب الذاتي؛ إزاء كل ما كان في عصر (الحداثة) من الأفكار، لان بفعل ما أنتجته (ما بعد الحداثة) من (التشيؤ) أصبح خيار الإنسان هو البحث عن مشاريع ثقافية تواكب العولمة والصناعة الرأسمالية (ما بعد الحداثة)؛ وهذه المشاريع الثقافية انطلقت بنقدها للعلوم الإنسانية والفكرية والاجتماعية والفنية وفي شتى مجالات الحياة بعد إن جزمت بان ظروف الزمن قد تغير وان ما أنجز تجاوز على كل ما سبق من انجازات نتيجة ما شهده العالم من تطور وسائل الاتصالات والإعلام وافق الرأسمالية بعد (العولمة) التي غيرت (مجرى التاريخ) بما يتطلب بناء مفاهيم تواكب أنماط المعرفة (ما بعد الحداثة) بما يتيح للإنسان بتوسع نطاق التعددية الفكرية وحرية الاختيار في أيطار إي عمل واتجاه غير تقليدي بظهور وابتكار أنماط جديدة من العمل – أيًّ كان نوعه – ويكون الأداء والتعبير عنه منطلقا من روح العصر؛ لأن (ثورة المعرفة) بما ابتكرته وحققته وأنجزته في مجال المعلومات والاتصالات والإعلام وتطور تكنولوجيا ونظم المعلومات قد ساهم في نقل الفكر من (الحداثة) – التي عززت دور الفردية والعلمانية بل اتجهت إضافة إلى ذلك نحو التحضر بكل جوانبه كما أنها اتجهت نحو التصنيع والنظام السلعي والتحول نحو البيروقراطية والعقلانية والتي في مجملها شكلت النظام العالمي الحديث – إلى (ما بعد الحداثة)، حيث توجه العالم إلى حالة معرفية تختلف بكل تفاصيلها عما كان في السابق، فالمرحلة المعاصرة التي نحن (الآن) بصددها في القرن الواحد والعشرين تشهد مجتمعاتنا الحديثة والتي يوصف عصرنا بمرحلة (ما بعد الحداثة)، فإن معطيات هذا العصر الذي نعيش فيه يتميز بأعلى درجات التقدم التكنولوجي والصناعي التي ساهمت على إعادة إنتاج والمضي قدما بالإنتاج؛ وبفضل هذه التكنولوجيا تم تغير جميع مظاهر الحياة سواء من الناحية التاريخية أو من الناحية (السوسيو- ثقافية) والذي نتج عن استخدام التكنولوجيا الحديثة المتمثلة في الحاسبات الالكترونية ووسائل الاتصال والإعلام وشبكات التواصل وقدرة الانترنيت في تغطية كل قارات العالم التي وسعت دائرة المعرفة، بما أحدثت تغيرات على البنية الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في مختلف دول العالم؛ بما ترتب على هذا النمو والتغير حدوث ثورة تنموية هائلة في النظم الاقتصادية يكون توجهها نحو تطوير آلية التصنيع وتوسع نطاق أسواقها بما يطغي على توجيه الإنسان إلى هذا نمط من الحياة الاقتصادية؛ وبما يودي إلى ظهور ثقافة مجتمعية بصيغة ونوعية جديدة ومختلفة عما كانت عليه في السابق؛ بما يتيح للفرد فرصة اختيار وجوده بحرية نمط مهنته وحياته الاجتماعية؛ وهو بدوره يودي إلى تفكيك مؤوسسات الجماهيرية وتقليص دور الدولة بما يتيح للمجتمعات المدنية المحلية فرص لاتخاذ القرارات وتحدي بما تقوم علية النخب السياسية من اتخاذ القرارات وفق الديمقراطية البرلمانية التي أخذت تتسع مداراتها في كثير من الدول العالم ليس في الدول الغربية بل نلاحظه بوضوح في الدول الشرقية، في وقت الذي اخذ على هذا النمط من الحياة السياسية توجه لها الكثير من الانتقادات بسبب قصور واضح في مهامها؛ مما أدى في كثير من المواقع رفض هذا النمط من (الديمقراطية السياسية) وأدى إلى ضعف وعدم توجه الجماهير في المشاركة السياسية وعدم إقبالهم على الانتخابات بما فاق عن نصف أعداد الشعب في الكثير من بلدان العالم من الذين يحق لهم المشاركة؛ وهذا العزوف يفسر بفشل هذا النمط من النظم التي ظهرت في الحياة (ما بعد الحداثة)، رغم إن الكثير من المفاهيم (ما بعد الحداثة) شخصت وتناولت شتى جوانب الحياة السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية من الفن والعمارة و الفلسفة والأدب والتكنولوجيا وباقي العلوم والمعارف الإنسانية، إلا أنها أخفقت في الكثير من الجوانب الحياة ولم تعطى حلولا ناجعة لها وتركتها عرضة لـ(الشك) لأنهم يشككون في كل وسائل المعرفة بل إن اتجاههم يتوجه إلى عدم إمكانية الوصول إلى المعرفة الحقيقة في المطلق، وفي هذا الوجه هم ينحون منحى منهج الفيلسوف (نيتشه) في تحرر الإنسان من أي ثوابت و قيم والعقل، لان منهجه في تحلل مبنيي على مبدأ (الشك)، وهذا ما تسير عليه الحياة (ما بعد الحداثة)، رغم إن منعطفات (ما بعد الحداثة) لا تقوم على أسس منهجية أو فلسفة بعينها؛ وإنما تتوجه بتفسيرات محض (التناقض) و(الشك) و(الاختلاف)، بكون المسألة برمتها في (ما بعد الحداثة) هي لا تعدو سوى كونها تصورات ووجهات نظر مختلفة، وكل ما يدور هنا وهناك هو مجرد وجهة نظر قد تكون (صائبة) أو قد تكون (خاطئة)، وكلا الاحتمالين هو صحيح وليس لأحد الحق بأن يقرر بان هذا الكلام صح و ذاك خطأ، لان نمط الحياة التي نعيشها (ما بعد الحداثة) هي مجرد(عبث) بعد إن انهار (العقل) – كما ذهب بهذا التفسير (نيتشيه) – لان في مجمل ما ذهب إليه يواكب عصر (ما بعد الحداثة)، لان (نيتشيه) كان معاديا لكل ما طرحته (الحداثة) فان كان (نيتشيه) قد اقر (بموت الإله) فان منظري (ما بعد الحداثة) اقروا (بموت الإنسان) كما اقر (ميشيل فوكو) وهو من أشهر مفكري (فرنسا) متأثرا بأفكار (ما بعد الحداثة).

نعم إن (موت الإنسان) أصبح في عصر (ما بعد الحداثة) التي نعيشها (الآن) حقيقة؛ بعد إن سلبت منه الإرادة والفعل والإبداع؛ ليصبح مفصل من مفاصل آليات المصانع؛ لتكون محصلته الأخيرة شيا من أشياء التي تصنعها هذه المصانع فيتشيؤ في أشيائها، ويعزي مفكري (ما بعد الحداثة) سبب (تشيؤ الإنسان) إلى عصر (الحداثة) بعد إن أعطوا كل جهدهم إلى العلم وتطوره؛ وان بفعل أنشطته العلمية ازدهرت الصناعة بكل فروعها واتجاهاتها وقد اخذ جانب التصنيع العسكري إلى تطوير قدرات هائلة للإنتاج (أسلحة الدمار الشامل) والتي استخدمت بحق الإنسان في (الحرب العالمية الثانية في اليابان)، لتخرج شعوب العالم اجمعها من الحرب متهالكة ومتحطمة ومدمرة؛ وهم على اشد سخطا وازدراء من آلية التي آلت إليه الثورة العلمية كمفتاح نحو التقدم والازدهار الحضاري لينتهي حلم (الحداثة) التي امتدت إلى أكثر من مائة وخمسين عام بكوارث حلت بالبشرية دمار واسع النطاق حصدت أرواح الملاين من البشر، لتقيم المجتمعات المعاصرة – مجتمعات (ما بعد الحداثة) – عبثية ما أفرزته (الحداثة) وفلسفاتها في منظومة (الرأسمالية) و(الديمقراطية) و(الليبرالية) ليتجه الأكاديميين في نقدهم لنظم الليبرالية والفلسفات التي تفاءلت بالنهضة؛ باعتبارها اتجاهات عدمية وفلسفات تشاؤمية ووجودية؛ لأنها لم تجلب للعالم سوى الويلات والحروب والدمار أكثر بكثير مما أنجزته بما يخدم الإنسان ورفاهيته واعتزازه بإنسانيته؛ وهي من أفرزت هذا البناء ألعدمي والتشاؤمي والوجودي؛ والذي قاد العالم لبناء أفكار متشظية ومتناقضة في عصر (ما بعد الحداثة) – والتي هو (الآن) في طور التشكيل – إذ ليس لمنظريه اتجاه واحد، وكل موضوع يخضع لتفسيرات عدة، وحتى المدارس التي تنتقد أراء (ما بعد الحداثة) اخذ تأثيرها في بناء أفكارهم؛ بان ليس هناك مفهوم لـ(ما بعد الحداثة) لعدم وجود أي تدقيق وأي تعبير واضح ودقيق المعالم في معاني واتجاهات (ما بعد الحاثة)، بقدر ما يكتنف مفهومه من غموض، لان أفق الحضارة التي ينطلق منها مفهوم (ما بعد الحاثة) هو أفق (العولمة)، وهو بالتالي يختلف جذريا عن عصر الصناعة، لان اتجاهه يؤدي إلى ثورة (عبثية) ضد مرتكزات (القيم) و(العقل)، وتتجه إلى (الشك) في تقيم ابسط البديهيات، لان الحقائق عندهم متعددة الجوانب؛ وان الإنسان يختار منها ما يشاء؛ وتصبح عنده بمثابة (حقيقة) حتى وان كانت شاذة كـ(الزواج المثليين)، لان قراءته وفهمه لمعنى هذه المفردة أو تلك؛ يكون وفق تصوراته – أي تصورات الإنسان – وليس وفق تصورات اللغة لهذه المعنى أو تلك، لتصبح أي معنى لكلمة أو لمفردة ما، هي ما بقدر عدد القراء، وهكذا تتعدد فيها المعاني الفردية، لذلك فان أي نص حتى وان كان مقدسا – ضم اطر الديانات – يكون معانية متعدد وفق عدد القراء النص، وهذا ما يشوه النص ويسقط عنه أي قدسية، وبالتالي فان هذا المنطق يأخذ في تقيم قيم (الأخلاق) التي تصبح خاضعة لمبدأ المنفعة واللذة، وهذا تبيان لإفلاس العصر، عصر(ما بعد الحداثة) وتهميش لقدرات الإنسان وتشيؤه إلى أقصى درجات (التشيؤ)، بعد ان تهبط القيم إلى أقصى درجات الهبوط ويصبح الشذوذ مباحا؛ بعد إن يتم في عصر(ما بعد الحداثة) إسقاط العقل والميتافيزيقا ومفهوم الإله وأزالت فوارق الجنسية بما يسمح شيوع نمط شاذ من تكوين العائلات من زوجين من الرجال، أو زوجين من الإناث، وهذا ما افرزه عصر(ما بعد الحداثة) من تمرد عبثي تكون غايته الحصول على اللذة الجنسية الغارقة في الشذوذ، ليتم تشويه مفهوم الأسرة التقليدية المتكونة من رجل وأنثى وأطفال، وهذا ما ينذر بانهيار قيم الحضارة السامية المنضبطة بضوابط العقل وسمو الروح.

ومن هنا يمكننا إن نقول بان (ما بعد الحداثة) في ضوء هذا التيار الذي يمكن وصفه بأنه تيار عدمي عبثي اللاقيمي، بكونه ينكر الإحكام التعميمية على نطاق المجتمع ويتجه نحو نبذ وترك مصطلحات (الحقيقة)، باعتبار انه لا يمكن إثبات (الحقيقة) بتغير معانيها حسب ميول واتجاهات الإفراد، وهذا ما يجعل تفسر مضامينها والتمسك بتلابيبها أمر صعب في أي مجال من مجالات الحياة، ومن هنا فأنهم يسقطون التقييم الموضوعي لأي(موضوع) وخاصة في مجال (الأدب) و(الفن) لأن الباحثين في مجالاته – أي مجالات العصر (ما بعد الحداثة) – يركزون على (الذاتية) في التقييم, ليصبح فهم (التاريخ) وإحداثه لا قيمة له؛ لان حسب فهمهم إن (التاريخ) ما هو إلا اتجاه عدمي يدعون بتعميم (الجزء) على حساب (الكل)؛ وهو بالتالي ليس إلا مجموعة من الكتابات سردية دعائية لا يقدم ولا يؤخر من شيء، وهكذا تكون تصورات (ما بعد الحداثة) تصورات قائمة برفض (الحقيقة) ورفض (التحديد) ولا تعطي أية أهمية إلى (الموضوع) في البناء الفني الإبداعي، وتتجه نحو (اللا معنى) وتقر بـ(اللا جدوى) من (التاريخ)، وتقر بـ(التعددية) و(الاختلاف) و(عدم التجانس) و(التناقض)، وبهذه المنطلقات فان (ما بعد الحداثة) تحاول إعادة رؤيتها بما يتماشى معطيات الواقع الذي نعيشه (الآن) لدرجة التي تبجل اللحظة المعاشة، والمتجسدة في الحياة الاجتماعية المعتمدة على بنية التكنولوجيا ووسائل الاتصالات والإعلام؛ بما يتم بناء الوجود الإنساني بما هو بمستوى وجوده فحسب، مع القبول المستمر لتغيير، لأننا (اليوم) نعيش في عالم تشكل كما نراه؛ ولكن يعاد تشكيله باستمرار وفق معطيات العصر الذي يتحكم علية قوة الثورة التي أنتجتها وسائل الاتصالات الحديثة والإعلام وشبكات الانترنيت والموبايل والمواقع الالكترونية؛ التي تزخر بطرح وتداول المعرفة والمعلومات والأفكار والتي تكون في متناول كل شرائح المجتمع وفي كل بلدان العالم؛ والتي هي احد أهم مظاهر (العولمة)؛ والتي قطعت (صلة المنطقة) التي نعيش فيها بـ(التاريخ)؛ وهذا ما أدى إلى قطع علاقة الفرد بماضيه؛ وهذا الانفصال هو الذي خلق لنا عالما فوضويا ..عبثيا.. متناقضا.. متأثرا بقوة هذه التكنولوجيا التي سيطرت على سلوك الفرد والمجتمع والتي نجمت عنها مخاطر لا تعد ولا تحصى جعلت من الإنسان كائنا بطبائع غريبة.. وشاذة.. ومتشظية.. ومتشتتة.. دون أن يكون له موقف أخلاقي أو اجتماعي أو سياسي، لأنه اقر بـ(نسبية) كل شيء؛ جاعلا من عصر (ما بعد الحداثة)، عصر يقوض نفسه بنفسه بما افرز من معطيات الفوضوية.. والعبثية.. والعدمية، وهذه المعطيات هي التي حفزت لظهور دراسات فكرية تخطت بخطوات واسعة مجال ظهورها في علم الاقتصاد والاجتماع والتاريخ إلى مجالات فكرية أخرى؛ لتبور مفاهيم (ما بعد الحداثة) في مجال الآداب والفنون؛ لتشكيل مفاهيم ثقافية وجمالية بإبعاد غير تقليدية التوجه وغير ثابتة، وعبر تحليلاتها بـ(النقد)، موظفة ما افرزه واقع (ما بعد الحداثة) من التناقض.. والتعارض.. والجمع بين الأضداد.. ومزج بين المتنافر.. والجمع بين الخامات المختلفة داخل مكونات العمل الفني، وهذا لاستخدام المفرط في لتقنيات الفنية كان تعبيرا لما افرزه الواقع من الغموض.. والتناقض.. والتباس المعنى.. والتنافر.. لتصبح هذه المتعارضات وجمعها في الشكل دون أن يكون بينها أية علاقة اقتران أو موضوع؛ سمة فنون (ما بعد الحداثة) من اجل إحداث صدمة عند المتلقي ولغرض الإثارة؛ بقدر ما يحاول الفنان إيجاد إشكال مبنية على المفارقة من ناحية؛ ومن ناحية أخرى من اجل إزاحة فكرة الانسجام التقليدية التي كانت (الحداثة) تتبناه؛ وكرد فعل على انهيار القيم الثقافية والجمالية اثر ما أوقعته الحرب الكونية الأولى والثانية وما خلفته من دمار شامل للبنى الفوقية والتحية وما خلفته من تحطيم نفسية الإنسان؛ ولكن وعيه بما كان يدور من حوله من عبثية وفوضى ناقضت قيم (الحداثة) التي كانت تمجد لمستقبل مشرق للإنسان عبر قدرة الصناعة في تغير واقع المجتمعات نحو النمو والازدهار، ليرى بين ليلة وضحاها كيف تنهار قيم الإنسان بعد إن استغل التطور الصناعي وتكنولوجيا لتدمير ما بناه الإنسان، وكان بما كان يدور من حوله من أحداث مدمرة؛ مدعاة سخرية بالنفس، بعد إن أيقن الإنسان باللاجدوى من الحياة.. ومن القيم.. والالتزام، فكان متنفس الإنسان الوحيد لتعبير عن الحقيقة بالمشهد الذي يراه إعقاب الحرب وما آلت إليه الوقائع هي (السخرية)، نعم السخرية من هذا الواقع الذي تشييء فيه الإنسان وأصبح إنسان بلا أبعاد، وهذا ما جسد ظهور فنون وآداب إبداعية تحاكي هذه السياقات وبنفس الأبعاد التي فقدت الإنسانية أبعادها في (ما بعد الحداثة) عبر مدارس فنية ابتدأت بـ(التكعيبية) و(التجريدية) ثم (الدادية) وتلتها (السريالية)، والتي انطلقت بإيمانهم بعدم وجود (ثوابت)؛ وان كل شيء هو (نسبي) وبلا أبعاد؛ وان الإنسان هو الذي مهد لنفسه طريق (التشيؤ) ليعيش حياته وهو متشيؤ في عالم السلع، وعلى الفنان إن يتيقن بهذا العالم؛ وعليه إن يسقط كل فواصل وحدود بين السلع والعمل الفني لان في عالم (التشيؤ) تصبح السلع عمل فني؛ والعمل الفني يصبح سلعة، وهي بالنتيجة معطيات على هيمنة الأشياء على الإنسان وقيمه، إذ (لا قيم) في عالم (ما بعد الحداثة)، وهذا الإحساس عند الفنان هو الذي جعله يشعر بـ(الاغتراب) في ظلال عالم (التشيؤ)، ولذلك فهو يحاول إن يتنفس بإعمال إبداعية بعد إن رفض في قرار نفسه التواصل مع عالم (التشيؤ) الذي تشيئه، فسلط الضوء على عالم (التشيؤ) بتجريد عالي، لان (التجريد) و(التشيؤ) يسقط منهما عنصر الإنساني والاجتماعي مبتعدا عن الواقع ولا يشير عمله لغاية بقدر ما يركز على الذاتية؛ يكثف فيها تعبيرات القلق والارتباك، وهذا المنحى نجده بأسلوب (التكعيبية) و(التجريدية) و(السريالية) المدارس التي ولدت من رحم (حرب العالمية الأولى)، وما أحدثه عالم (ما بعد الحداثة) من صخب وتشويش لتنطلق في تعبيراتها عن هذا الواقع بكل ما كان يواكب هذا الارتباك الذي أفرزته الحرب، حيث التجأت إلى ابتكار بصريات متحركة على لدوام داخل شكل اللوحة على شكل مكعبات.. ودوائر.. ومثلثات.. وأشكال اسطوانة.. و مخروطية.. لتربك صورها واندماجاتها المتدرجة والمتداخلة (المتلقي)؛ بعد إن استطاعت (التكعيبية) و(التجريدية) و(السريالية) نسف كل أساليب الفنون السابقة؛ فابتكرت أسلوبا جديدا للرسم يواكب ما أحدثته (ما بعد الحداثة) من فوضى والتشظي، بحيث عملت على تغير أحجام ومقاسات ونسب وزوايا ما تريد رسمه من الأشياء بتغير وابتكار أنماط بصرية ثلاثية الأبعاد لتشاهد اللوحة من عدة زوايا حتى تكاد تتشوه ملامحها ولكن من دون إن تفقد قيمتها الجمالية، فضمت أقطابها عديد من الفنانين المبدعين والأدباء وكان رائدهم الفنان الاسباني (بابلو بيكاسو) والمكسيكي (ديغو ريفيرا) والفنان (كاندنسكي) و (رينه مارغريت) و(سلفادور دالي) وآخرين، و كانت لوحته (جورينكا) التي رسمها (بيكاسوا) خير تعبير عما أوقعته الحرب من دمار في العالم، ولم تقتصر أنشطة الفن (التكعيبي) و (التجريدي) على فن الرسم بل شملت فن النحت وهندسة العمارة.

وبعد إن قدمت حركة (التكعيبية) نماذج معبرة عن واقع العصر(ما بعد الحداثة) ظهرت حركة أخرى لا تقل أهمية بما قدمته الحركة (التكعيبية) من إعمال كـ(التجريدية) و(الدادية) و(السريالية) وهي حركات ظهرت نتيجة ما أفرزته (الحرب العالمية الأولى) من دمار.. وخراب.. وقتل.. حيت تم قتل أكثر من سبعة عشر مليون وجرح أكثر من عشرين مليون إنسان، لينطلق مناصري هذه الحركات الفنية عن سخطهم من حجم العبث والجنون الذي أفرزته الصناعة والتطور التكنولوجي وخاصة في مجال التصنيع العسكري والتسليح التي أوصل العالم إلى هذا المصير، ليقدم العالم فاتورة هذه الحضارة والحداثة؛ هذا الكم الهائل من القتلى والجرحى ومن تدمير مدن كاملة مِن أجل لا شيء، نعم من اجل لا شيء….! فعبروا عن رفضهم لكل ما أنتجته الحضارة الإنسانية، فأطلقوا على حركتهم في بداية تأسيسها اسم ( فن اللا فن) وبعدها اتخذوا أسماء عده محددين مواقفهم الرافضة والمضادة من الحروب والإبادات الجماعية ومن آلة الصناعة التي جعلت الإنسان بلا إبعاد؛ لتشكل بحوثهم وأطروحاتهم في البحث عن (أزمة المعنى) والتي في مجملها تدور حول محاكاة مدى القبح والبشاعة الذي وصل اليها العالم.

ومن خلال أنشطة هذه الحركات الفنية وعلى يد مجموعة من الفنانين والكتاب الذين ركزوا في بحوثهم وأعمالهم الإبداعية على( اللاوعي) كمصدر لأعمالهم الفنية، وكانت أبحاث وكتابات التي قدمها (أندريه بريتون) الذي قاد الحركة السريالية كمنضر ومؤسس؛ كتب وقدم الكثير من أطروحاتها الفكرية ركز فيها على ما آلت إليه أوضاع المجتمعات ما بعد الحرب من فوضى ودمار وما خلفته من مشاعر اليأس والإحباط النفسي في نفسية الإنسان وهي الوقائع التي حملته إلى المقاربة بين الوعي واللاوعي بما أوصل الإنسان إلى الاتجاه الفوضوي العابث؛ وهو لا يعلم إلى أين يمضي بهذا العالم….! أي انه أراد إن يقيم علاقة بين العقل الباطن واللاوعي على أنهما مصدر رئيس للإلهام والإبداع عند الإنسان الملهم المبدع، وعبر عوالم النفس استطاعت (السريالية) تحطيم الصور البصرية كما فعلت (التكعيبية) و(التجريدية)، فاستخدموا (الرموز) للوصول إلى الحقائق ليكون إنتاجهم أشبه ما يكون بالأحلام والكوابيس محاولة منهم الهروب من هذا العالم، عالم (ما بعد الحداثة) حيث يعيش الإنسان حالة الضياع؛ بعد إن تاهت عنه معرفة (الواقع) و(الحقيقة)، لذلك اتجهت حركة (السريالية) التي قادها فنانون وأدباء بارزين من أمثال (رينيه ماغريت) و(سلفادور دالي) وآخرين؛ الذين فككوا مفاهيم القيم عبر إحساسات ومشاعر استفهامية ساخرة؛ وعبر تفكيك الرؤية وجمع المتناقضات كما فعل (رينيه ماغريت)، حين جمع الليل مع النهار في لوحة واحدة؛ فقد رسم النهار في ضوء الليل، والليل في ضوء النهار، وهذا الجمع بين المتناقض هو تعبير عن (قدر صادم)، كما رسم (دالي) الزمن وهو ينصهر و يذوب و بتعبير مناقض وساخر من الوقت والذاكرة ومعبرا عن (اللا معنى) لزمن ولا قيمة على الذاكرة.

وكل هذه الإعمال التي قدمتها هذه الحركات الفنية والأدبية لا وبل كل أنشطة الإنسان المعرفية والاجتماعية و السياسية والاقتصاد والصناعة هي في مجملها لا تصور الواقع بأشكال وبمفهوم بصري مألوف، بقدر ما قدمت واقع مضطرب.. متناقض.. قلق.. لتكشف ما أفرزته الحياة (ما بعد الحداثة) من تشوهات لكل المفاهيم والقيم؛ و لتكشف سيكولوجية المجتمعات في زواياه حادة مظلمة بعيدة عن الحقيقة .