ما المخيف في التجربة السورية؟

ما المخيف في التجربة السورية؟

منذ عقود خلت والإسلام السياسي في المنطقة – باستثناء نماذج معيّنة – تخلّى عن مشروعه في تشييد وبناء (خلافة على منهاج النبوّة) كما كان يشير الحديث النبوي للرسول (عليه الصلاة والسلام)، والذي كان يشرح فيه المراحل التي سيمر بها الحكم في مستقبل الأمة الإسلامية والذي يؤكّد المحدثين أنه حديثاً حسناً، وباتت الحركات الإسلامية الكبرى –تحديداً الإخوان المسلمين- تميل باتجاه مسايرة النموذج الغربي في الحكم، بصورة تحوّلت فيه تلك الحركات لأحزاب سياسية وفق النموذج الغربي وتحاول الإنخراط في العمل السياسي أملاً في الوصول إلى السلطة وفق مبادئ الحكم الديمقراطي الغربي.

هذا النموذج لم يحظَ بالإجماع في العموم، لكنه كان الأكثر غلبةً وبات الإسلام السياسي جزءاً من المشهد في عموم البلدان العربية على الرغم من حالة الاستبداد التي تعيشها تلك البلدان وحالة التضييق المستمر على عمل تلك الحركات.

وعقب أحداث الربيع العربي التي عاشتها البلدان العربية وانهيار الأنظمة الاستبدادية سنحت الفرصة أمام تلك الأحزاب لتأخذ طريقها باتجاه السلطة مستثمرةً حالة التنظيم العالي الذي تمتاز به والقاعدة الجماهيرية التي تمتلكها بفعل ما تمثله من بعد ديني عقائدي تفتقر إلية بقية التشكيلات السياسية.

كما أن المظهر الأنيق لتلك الأحزاب والحركات كان أكثر جذباً من غيرها التي لجأت للسلاح وانتظمت في تشكيلات عسكرية لتعيد الإسلام لمنصة الحكم مجدداً بعد أن أزاحته القوى الكبرى في أعقاب الحرب العالمية الأولى عندما تم تفكيك الخلافة العثمانية، لذا كانت تلك الحركات والأحزاب –الإخوانية في أغلبها – حلاً وسطاً بين أنظمة علمانية مشوّهة عزلت الدين عن المشهد السياسي والاجتماعي والاقتصادي وحركات قررت حمل السلاح لمجابهة تلك الأنظمة ومحاولة تشييد حلم الخلافة بالسلاح والقوة (بغض النظر عن الرأي الشرعي في تلك الحركات).

وعاش العالم العربي حالة غير مسبوقة خلال الأعوام 2011-2013 إرتقى فيها الإسلاميون منصّات الحكم وباتوا رمانة الميزان في عدة دول، منها مصر وليبيا وتونس والمغرب –وإن كان تحت سلطة النظام الملكي- وكان الحراك السوري على أشده وكانت رؤية الإسلام السياسي تقترب من التحقّق، كيف لا ونحن نرى أحزاباً تتزعمها قيادات بلحى وجميعها بدأ حياته السياسية من حلق حفظ القرآن في المساجد تسيطر على المشهد السياسي فيما تعاملها دول العالم بمقبولية –وإن كانت حذرة- باعتبارها أحزاب سياسية وصلت إلى السلطة بموجب السياقات التي وضعها النظام الديمقراطي والتي تقيّدت بها الدول الكبرى.

لكن الأمر لم يستمر طويلاً، إذ مالبثت وخلال سنة وأشهر معدودة أن عادت الدول التي شهدت الربيع العربي القهقري مجدداً، وشهدنا ثورات مضادة نجحت فيها الدولة العميقة –أرباب النظام السابق- وبالتعاون مع دول أخرى في إزاحة الأحزاب الإسلامية عن السلطة، بل والزج بهم في السجون ومحاكمتهم وإعدام البعض منهم كما حصل في مصر معقل حركة الإخوان المسلمين ومركز الثقل لهذا التنظيم العالمي.

وهنا أصبح الناس ذوي التوجهات الدينية أمام خيارات بالغة الصعوبة وامتحان هو الأكبر على مستوى الدين والدنيا..

أول سؤال كان في هذا الإمتحان.. لماذا لم ينصرنا الله (عز وجل)؟

وهذا –للأسف- كان سبباً في حالة من الردة عن الدين لدى البعض بعد أن شهد انهيار المشروع الذي من المفترض أن يمثل إرادة الله في خلقه وهو الحكم بشرع الله، لا بل والمضي قدماً باتجاه تفكيك المنظومة التي ينتمي لها والتي تمثل الدين من وجهة نظره.

السؤال الثاني كان في الطريقة التي سيصل بها الإسلام لتحقيق نبوءة النبي (عليه الصلاة والسلام) في تشييد الخلافة على منهجه، إذ بعد أن كشفت اللعبة واتضحت الأوراق بات من السذاجة بمكان تصديق إمكانية قبول العالم لنموذج إسلامي سياسي يدير دفة الحكم في أي مكان في العالم، لاسيما بعد أن أظهرت الدول الراعية للديمقراطية على مستوى العالم قبولاً للأنظمة الإنقلابية الدكتاتورية وتعاطت مع قتل التجارب الديمقراطية في البلدان العربية كواقع حال.

وهذا ما دفع العديد من أبناء الحركة الإسلامية –من بقي منهم طليقاً بطبيعة الحال- إلى الإنخراط في صفوف التنظيمات التي ترفع شعار الجهاد وتتبنّى العنف كوسيلة للتغيير كما في تنظيم داعش الإرهابي.

في خضم هذه التحولات الضخمة التي كان يعشها المسلم العربي لاسيما جيل الثمانينات والتسعينيات والتي نشأت على شعارات من قبيل (الإسلام دين ودولة) و(القرآن دستورنا) و(إسلامية إسلامية)، نجحت طالبان في الإطاحة بالحكومة المنصّبة من قبل الاحتلال الأمريكي.

وشهد العالم أجمع كيف نجح النموذج الأفغاني في طرد الاحتلال الأمريكي ومن ثم الحكومة الأفغانية التي وصلت إلى السلطة برعاية المحتل الأمريكي، لا بل وكان هروب الأمريكان مثار دهشة وسخرية لدى الجميع لاسيما وأنها أجبرت على ترك المتعاونين معها من المواطنين الأفغانيين الذين لاذوا بإطارات طائرات الاحتلال الأمريكي للهرب من عناصر طالبان لكن دون جدوى.

وبالفعل عادت طالبان لتستلم زمام الأمور في أفغانستان ولتخضع البلاد لحكمها “الإسلامي” فيما بات التعامل معها كجهة حاكمة أمراً مفرغاً منه، وهذا ما بدأت تتعاطى معه روسيا والصين وغيرها من الدول.

ثم كانت الحالة السورية، إذ نجحت هيأة تحرير الشام في استثمار حالة السلام المؤقّت الذي عاشته في بعض المناطق القريبة من الحدود التركية لتشيّد تنظيماً ذا بعد إسلامي جمع شتات الحركات السورية المعارضة ونظمها في مدينة (إدلب) تحديداً وأصبح يمتلك هيكلية مؤسساتية –بغض النظر عن حجمها- مقبولة بشكل ما.

وخلال الشهر الأخير من العام الماضي قررت الهيأة أن تندفع باتجاه إحدى أهم المدن السورية وهي حلب، وخلال ساعات سيطرت على هذه المدينة وسط ترقب عالمي للمشهد، ثم ما لبثت إلاّ أياماً قليلة حتى رفعت اعلام الثورة السورية على القصر الرئاسي وسط دمشق ولتعلن على الفور حكومتها المؤقتة لإدارة البلاد.

وسواء أتفقنا أو اختلافنا حول مصدر قوة الهيأة من زاوية كونها أداة لبعض الدول أم أنها أنتصرت لأسباب ذاتية إلاّ أنها اليوم تمثل مشهداً مختلفاً وجديداً لحالة الإسلام السياسي، وبالفعل بدأ العالم –وإن كان بحذر- يتعامل معه فيما حرص النظام الجديد على بيان نهج مختلف غير مستفز بل وطامح للتواصل مع الجميع ومحاولة بناء نموذجه الخاص دون التأثير على غيره.

هذا المشهد أثار في نفوس الإسلاميين وعقولهم أسئلة كبيرة عن جدوى عملهم السياسي وفق سياقات لم توصلهم إلى الهدف المنشود، فالديمقراطية ونتائج الانتخابات وطأتها أقدام الجنود في مصر وتونس، بل إن السياسيين الأعلى شعبية وفق المقاييس الديمقراطية ضاقت بهم سجون الأنظمة القمعية بدلاً من قصور الحكم، فيما كان الغرب الحامي للحريات في العالم يرقب معرباً عن قلقه بين الحين والآخر.

كل ذلك فيما تنجح قوى صغيرة منظّمة في دوائر صغيرة بعيدة عن الأعين في فرض نفسها كواقع حال يضطر الجميع للتعامل معه.

هذا هو المخيف في الثورة السورية من وجهة نظر الدول الغربية والدول العربية التي تسوسها أنظمة قمعية، لذا فالحالة السورية والحالة الأفغانية من قبلها ستحاط بخطط وبرامج لا حصر لها لكبح جماحها ولإفشالها إن أستمرت وفق منطلقاتها التي وضعتها لنفسها.

وليس أقلها إعادة ضخ الدم في تنظيم داعش ليخلط الأوراق مجدداً ولينقل سوريا لحالة الاقتتال الداخلي كما كانت إبان العام 2014.

هنا سيكون على القائمين على المشهد في البلدين –السوري تحديداً- وعي جحم الخطر والتهديد ومحاولة إحاطة النظام الجديد بدوائر عدة تحميه من خطط الخارج لإفشال التجربة وقد تكون عوامل العدالة الإنتقالية والانفتاح السياسي على المعارضين في الداخل أولى الخطوات يسبقها بكل تأكيد طلب المعونة والتأييد الإلهي فهي الصخرة التي ستتحطم عليها المؤمرات مهما كانت..

(ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).