مخطئ من يحاول ان يقرأ مشهد التوتر التركي – العراقي، لوحدهِ بمعزل عما حولهِ من توترات متصاعدة في المنطقة، ومخطئُ للغاية من يظن ان الصّدام الذي وقع أمس بين بغداد وأنقرة هو لحظة خصام ثنائية بين العاصمتين وحسب. ابداً الصورة اكثر اتساعاً من هذه الجزئية، مهما بدت هذه الجزئية مهمة ومثيرة، ومهما تصاعد التراشق الإعلامي بين الجانبين .
اوردغان الذي هاجم العبادي بهجوم غير مسبوق على مستوى العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، منذُ عقود على الأقل، كان يعي ما يقول، وكان يعرف ان اللحظة التي تطاول فيها على العبادي، انما هي جزء من لحظات قادمة لصراع اكبر، وان الرسالة التي بعث بها لحيدر العبادي أنما هي رسالة أبعد منه شخصياً، وأبعد من العراق برمتهِ، وهي جزء من أنزعاج تركي شديد، من فشل مجلس الأمن ودول التحالف المضاد لمحور روسيا – ايران – سوريا، من أتخاذ مواقف حادة، لوقف التمدد في حلب على حساب قوى المعارضة السورية. وبالتالي فأن احزاز نصر مقابل في الساحة العراقية، لصالح حكومة العبادي وحلفاؤه، سيعني ان تركيا ستخسر الساحتين معاً، ولن يكون لها موطئ قدم في أي تسوية قد تحصل كأمر واقع بعد ان يتحقق الاختراق في الموصل ومن ثم الرقة وحلب وغيرها من مدن الصراع المتصلة الآن .
بمعنى أخر، ان الدخول التركي المباشر الأن، والتصعيد المتبادل على مستوى الرئاستين بهذا المستوى من الخطاب، أنما يعكس بجلاء حقيقة تصدع الموقف التركي العسكري – السياسي، اكثر من كونهِ قوة في التأثير، وبالتالي لم يعد امام اوردغان ما يلعبه في الساحة، سوى عرقلة اللعب بأكمله، بإنتظار ضمانات بالحد الأدنى لاتعني الخسارة بمعناها المطلق. فمع تحرير الموصل من قبضة تنظيم الدولة الاسلامية على يد قوات الجيش العراقي المدعوم بالحشد الشعبي الذي تعده انقره الذراع الايرانية في العراق، ستكون الأرض قد تهيأت اكثر امام النظام السوري المدعوم روسيا لحسم المعركة في حلب، مما يعني فقدان المدينتين معاً لصالح المحور المضاد، دون تحقيق اي انجاز ستراتيجي يذكر كثمن للتدخل التركي الذي كلف هذه الدولة الكثير منذ اندلاع الأزمة في سوريا .
لذا يأتي اندفاع القوات التركية بهذا الشكل الى عمق الأراضي العراقية، والتصريحات الرسمية من الرئاسة التركية حول مشاركة هذه القوات في أي معركة تخطط حكومة بغداد اطلاقها بمعونة دولية لاستعادة الموصل، بمثابة عصا في هذه العجلة، لا العكس فإوردغان ليس جاداً للغاية بالتورط العسكري المباشر بحرب من هذا النوع، وهو ما يعكسه الحجم الضئيل للقوة العسكرية المرابطة الان، لكنهُ ضغط يريد من خلاله جر حكومة العبادي للتفاوض قبل اي عملية تسوية هناك.
بمعنى ان حكومة العبادي التي باتت في موقف لا تحسد عليه، يجب ان تأخذ زمام المبادرة الآن بقيادة مفاوضات بمساعدة دولية مع انقرة لغرض اعداد تفاهمات واضحة لمرحلة ما بعد تدمير وطرد قوات الدولة الاسلامية ( داعش) من الموصل، والترتيبات التي ستلي ذلك، بما فيها الموقف من حزب العمال الكردستاني، حيث تحاول تركيا الآن الحصول على تعهد بضمانات من عدم استخدامه كورقة ضاغطة من قبل بغداد، وكذلك طمأنة انقرة بأن اي تطورات ايجابية في مسار هزيمة الدولة الاسلامية في العراق لن يكون لصالح تعزيز مكتسبات نظام الأسد.
ان التوصل لتفاهم مع تركيا هو الحل، لاغير، فليس بقدرة العراق، الدخول بمواجهة عسكرية مع تركيا وهو الذي لا يزال يدفع ثمن حربه الاستنزافية مع تنظيم الدولة، ولا يملك العراق سوى ان يلجأ لكل الطرق التي يمكنها ان تقنع انقرة بأن الحفاظ على المكتسبات في العراق لن تأتي بالتواجد القسري للقوات المسلحة، انما يجب ان تعزز بمزيد من الإنفتاح التركي على بغداد، والمزيد من التعاون مع هذا البلد للوصول به للحظة استقرار مناسبة كي يتمكن من بناء قدراتهِ بعيداً عن التدخلات التي ترفضها انقرة الآن، وترفضها حكومة بغداد بالتأكيد.
…