23 ديسمبر، 2024 10:14 ص

ما الذي حدث لتميل كتابات دوستويفسكي إلى السوداوية….؟

ما الذي حدث لتميل كتابات دوستويفسكي إلى السوداوية….؟

منذ إن اتخذ (دوستويفسكي) الكتابة متنفسا ليستنشق حريته في التعبير؛ اتخذ من الإنسان محورا أساسيا لكل ما كتبه عنه من فعل الإرادة والسلوك والدوافع النفسية، السليمة والمرضية؛ وهو يمضي قدما متأملا ومستفسرا ومذهلا ومندهشا بـ(الوجود) لا يجد أي مخرج لتفسير كل ما يحيط بالإنسان؛ وكل ما يصادفه من متناقضات الحياة؛ و وسط هذا الغموض والقلق الذي ينتاب الإنسان في كل لحظة من لحظات حياته يواجه مصيره بسوداوية لا يستطيع فك لغز الحياة التي يعيشها بالآلام والمعاناة والعوز والفاقة والجوع والمرض والصراعات؛ وهو مدفوعا في هذا الوسط بين قوة الرغبة واليأس محاصرا لا يفهم معنى وجوده ولا يستطيع إثبات وجوده أو امتلاكها، ليرى نفسه مسيرا وفق أحداث لا يعلم من يصنعها؛ ليرى مصيره متشابكا بما لا يريد إن يكون فيها، ولكن يكون فيها مرغما ليلاقيها بألم وارتجاف وخوف.

في وسط هذا الفهم لمصير الإنسان المتجهة إلى المجهول يقف (دوستويفسكي) طارحا أسئلته عبر رواياته التي كتبها بنفسية تتوالى بأشد سوداوية من أخرى في شخصيات وقفت عاجزة تلاقي مصيرها وهي طامسة في عمق المعاناة الإنسانية، وهذه المعاناة نراها بهذا الشكل وذاك ضمن كل ما كتبه (دوستويفسكي) ابتدأ وانتهاءا بكل الإعمال الإبداعية التي كتبها والتي تتجاوز عن إحدى عشر رواية طويلة و سبعة عشر قصة قصيرة من (كتاب يوميات كاتب) و(كتاب قصص مختارة) الذي يضم قصة المساكين والليالي البيض والصباح والقلب الضعيف وحادثة شنيعة والوديعة وحلم رجل مضحك ومن ثم (كتاب الرسائل) و(رواية نيتوتشكا نزفانوفا) و(الإنسان الصرصار أو رسائل من أعماق الأرض أو مذكرات من العالم السفلى) و رواية (قرية ستيبانتشيكوفو وسكانها- حلم العم) و رواية (الليالي البيضاء) و رواية (حلم رجل مضحك) و رواية (في سردابي) و(الفقراء) و(الزوج الأبدي)، و(مذكرات قبو( و(مذلون مهانون) و(المراهق وهي في جزأين) و(مذكرات من منزل الأموات) و رواية (الأبله – وهي في جزأين) ورواية (الجريمة والعقاب – وهي في جزأين) و رواية (الشياطين – وهي في جزأين) و(الأخوة كارامازوف – وهي في أربعة أجزاء)، وفي خضم كل ما كتبه (دوستويفسكي) ضل اهتمامه منصب في طبيعة الإنسان التي لم يجد تفسيرا وأدركا واضحا لسلوكه ودوافعه وأفكاره ومشاعره ومواقفه الموسومة باللامعقول وبدون أي منطق والعبث والتمرد والخوف والقلق والشعور بالذنب والخطيئة والعنف والضياع والانطواء والعزلة والنقص والتشتت و العجز والانفعال والندم والخوف والعجز وانغماسه في الأحلام وبإشكال مختلفة ليس لها أي ملامح من الحقيقة بقدر ما تتجه نحو التطرف والانطواء والتمرد لارتواء ظمئا لا يرتوي، وهنا يطرح السؤال نفسه ما الذي جعل كتابات (دوستويفسكي) تميل إلى السوداوية ويتخذ من هذا المنحنى من الحياة خطا نفسيا يركز عليه في كتاباته ……؟

الإجابة عن هذا السؤال؛ لا بد لنا بادئ ذو بدا إن نستقصي العوامل المؤثرة في سلوكه وطبيعة البيئة التي أحاطت نشأته الأولى:

العامل الأول، إن (دوستويفسكي) عاش طفولته في إحياء فقيرة في مدينة (موسكو) وهو يعاني من نوبات (الصرع) .

ثانيا، فقد والدته وكانت امرأة مؤمنة ومريضة وسرعان ما غيبها الموت من حياته وهو في سن المراهقة؛ ليفقد حنان إلام وليواجه قسوة الحياة.

ثالثا، كان والده طبيبا متطوعا في السلك العسكري؛ ذو طبع حاد وقاسي؛ وكان مسكنهم قريب من المستشفى التي يعمل فيه والده.

رابعا، بعد فقدان لوالدته كان يقضي أوقاته ما بين ردهات المستشفى مع والده فيلتقي المرضى ويشاهدهم وهم في حالات المعاناة والألم؛ وبين التجول في شوارع والأحياء الفقير ليشاهد ما يسببه الفقر من خلل في النظام الاجتماعي أو الأخلاقي وهم يعيشون تحت فاقة العوز والجوع والتسول.

خامسا، سجن (دوستويفسكي) وهو في الثامن والعشرين من العمر وصدر قرار من (القيصر تسار نيكولاس) بإعدامه؛ إذ اتهم بانتمائه إلى جماعة (دائرة بتراشيفيسكي)، وهي جماعة أدبية انطلقت بتوجهات التفكير المتحرر؛ وكانت سرية تناقش الكتب الممنوعة التي تنتقد النظام الحاكم في (روسيا)؛ والتي عدت بكونها جماعة خطرة؛ وتم حضر أنشطتها واعتقال كل من ينتسب إليها، فتم إلقاء القبض عليهم؛ وكان (دوستويفسكي) من ضمنهم وصدر قرار بإعدامهم رميا بالرصاص، غير أنه في اللحظة الأخيرة، وبعد أن عايش (دوستويفسكي) أقصى لحظات الحياة، صدرت الأوامر بتخفيف الحكم من الإعدام إلى المنفي في (سيبيريا). في سيبيريا، حيث عاش بذل ومعاناة لا توصف؛ إذ قضي أيام المنفى هناك بظروف استثنائية قاسية بصحبة شلة من القتلة والمجرمين والمنحرفين، فقضى أربعة أعوام في الأشغال الشاقة، و تلاها ست سنوات من الخدمة العسكرية الإجبارية في المنفى؛ وهو يقضي حكم الأعمال الشاقة كتب روايته ( بيت الموتى) التي صدرت في عام 1861 والتي تعتبر أول رواية تتناول السجون الروسية والسجناء كموضوعٍ أحاط (دوستويفسكي) بكل جوانبه وبشكل مأساوي رهيب.

سادسا، تجربة وقوفه في انتظار لحظات (الإعدام) كانت نقطة فارقة في حياته أثرت في سلوكه كل التأثير في كتاباته وتصرفاته لاحقا، حمل منها تجربة قاسية، وقد وصف هذه التجربة لزوجته قائلا:

((..كنت واقفا في الساحة أراقب بفزع ترتيبات الإعدام الذي كان سينفذ بعد خمس دقائق، كلنا في قمصان الموت موزعين على وجبات من ثلاثة محكومين، وكنت الثامن في التعداد، ضمن الوجبة الثالثة. أوثقوا الثلاثة إلى الأعمدة، وبعد دقيقتين يطلق الرصاص على الوجبتين الأوليين ويأتي دوري… يا إلهي، كم كانت رغبتي في تلك اللحظات تشدني إلى الحياة.. تذكرت كل ماضي الذي أهدرته وأسأت استخدامه، فرغبت في الحياة من جديد وفي تحقيق الكثير مما كنت أنوي تحقيقه لأعيش عمرا طويلا.. وفي اللحظة الأخيرة أعلن وقف التنفيذ.. نعم أوقف تنفيذ الحكم في اللحظة الأخيرة …..! ))، لتكون تجربة الموت عند (دوستويفسكي)، تلك التجربة التي شكلت نقطة تحول جذري في سلوكه والتي لطالما ركز عليها وأثار حولها أسئلة لا أول لها ولا أخر.

سابعا، بعد تجربة نجاته من الإعدام؛ يعود (دوستويفسكي) غارقا و مدمن في لعبة (القمار)، وكانت نظرته إلى المقامرة بكونها ليست مجرد لعبة و مغامرة، قائلا:

((..إنها فلسفةٌ الحياة الجديدة قائمة على فكرة التخلي الحر عن الامتلاك، ليس في هذه الحياة ما يستحق أن تحافظ عليه، بل في الحياة ما يستحق أن تهدره لتمتلكه مرة أخرى كلعبة حظ، تماما كمصادفة نجاته من الإعدام في اللحظة الأخيرة .. )).

ثامنا، كان (دوستويفسكي) يعاني حالة صرع مزمنة؛ يقع في نوبات الصرع ين حين وأخر؛ وهذا الشعور كان شديد التأثير في نفسيته وسلوكه، فيشعر على الدوام بأنه إنسان غير سوي ويشعره بالنقص، وهذا ما جعله مفرط الحساسية في تعامله مع الآخرين .

فكل هذه الأسباب داهمت حياته والتي جلها ترتبط بالمشاعر وأحاسيس الإنسان، ليبقى (الإنسان) عند (دوستويفسكي) محورا أساسيا تناول سلوكه بكل هذه الإشكاليات في كتاباته؛ وهي محاصرة بين الإمراض النفسية والسلوكية، من (السادية) و(المازوخية) و(النرجسية)، وبين الشعور بالألم والنقص والعذاب المتمحور في ذاته وبظروفها القاسية لإظهار حب (الخير) للأخر بإيمان، وإن إيمانه يتجه دوما ما بين انتصار الحب والخير والفضيلة، وبين الرغبة الجامحة بالظهور والغطرسة والتعالي؛ ليجد نفسه محاصرا في واقع متناقض لظروف التي يعيشها الإنسان وبما يثير الارتباك في سلوكه؛ فيحاول تبرير فشله وإخفاقه بشتى طرق وأساليب من الخدعة والاحتيال والتلاعب وخداع النفس وتبرير الخطيئة.

وكل هذه أساليب قدمها (دوستويفسكي)، عبر أفكار عرضها وناقشها باستفاضة في محاور شخصيات التي قدمها في مؤلفاته؛ فكل رواية تحمل شخصية تفاجئ القاري بسلوكها بما تقدمه من تناقض في مفاهيم التي اعتبرها (دوستويفسكي) حتمية وإنها تواجه الإنسان وهو يعيش على هذه الكوكب؛ فهو لا يسقط المفاهيم الفلسفية والنفسية التي تكون حاضرة في إعماله الإبداعية؛ بل حتى المفاهيم المسيحية وتعبيراتها؛ بما جعلها (دوستويفسكي) بعد بلورتها – وفق أفكاره – فيطرح واقع الافتراض للاختيار المثالي والقرار الصحيح بشكل مثير يتجاوز ما فرض في طبيعة العالم كإحدى محاولاته لتقديم رؤية معاصره وفق طبيعة سيكولوجية المعقدة والتي تهتدي إلى قواعد قد تكون أحيانا ثابتة وأخرى متناقضة، كما طرحها في رواية (الجريمة والعقاب) و(الإخوة كارامازوف) و (الأبله)، لأن (دوستويفسكي) يطرح شخصيات ميتافيزيقية وهي تطرح رؤيتها بدوافع العقل الباطن بشكل اللاوعي واللاشعور، لان ليس هناك من تفسير من وجود هذا الكم من المجرمين والعبثيين والسكارى في رواياته؛ إلا بكونه عايش هذا الأوساط في طفولته وفي تجربة في المنفى، وهو ما انعكس على شخصيات روايته، ولهذا كانت رغبته في معالجة القضايا التي كانت مطروحة في عصره كالعدالة والإيمان والإلحاد وغيرها وهذا ما جعل أبطاله استثنائيين؛ فتاتي وهي مليئة بالمتناقضات والعنف والهذيان والانطواء والتمرد والعبث والندم والانفعال والخوف، لذلك فان اتجاهات شخصيات (دوستويفسكي) دوما تتجه إلى (الانتحار) حينما تصل إلى قمة اليأس و تنغمس في احتساء الخمر والهذيان للهروب من واقعها؛ وحينما تعجز حتى من الهروب تلجئ إلى ارتكاب جريمة القتل والعنف وتمزيق الذات، لان وعي الإنسان الذي يقدمه يستيقظ وهو متلبس من إيجاد فهما للحياة؛ فيسقط أسير القلق والمعاناة والآلام؛ وعن هذه الحقيقة المؤلمة للبشر تفصح شخصية (راسكولنيكوف) في (الجريمة والعقاب)، فتقول:

((..يصبح البشر مسعورين ومجانين، ولكن يعدون أنفسهم على ذكاء لم يزمعه البشر لأنفسهم في يوم من الأيام قط؛ فهم يعتقدون بأنهم معصومين من الزلل، و مبرؤون من الخطأ في أحكامهم، في نتائجهم العلمية، في مبادئهم الأخلاقية والدينية.

إن قرى ومدنا وأمما بكاملها قد سرت إليها هذه العدوى، وفقدت عقلها، وأصبح أفرادها يعيشون في حالة جنون، لا يفهم بعضهم عن بعض شيئا، لا يفهم أحد منهم عن أحد شيئا؛ كل واحد يؤمن بأنه الإنسان الوحيد الذي يمتلك الحقيقة، فإذا نظر إلى الآخرين تألم وبكى ولطم صدره وعقف يديه لوعة وحسرة، نعم إن الناس أصبحوا لا يستطيعون أن يتفاهموا على ما ينبغي أن يكون شرا وما ينبغي أن يكون خيرا، أصبحوا لا يستطيعون لا أن يدينوا ولا أن يبرؤوا…!

أصبح البشر يقتل بعضهم بعضا تحت سيطرة بغض لا معنى له وكره لا يفهم، هم يجتمعون ليؤلفوا جيوشا كبيرة، فما أن يدخلوا معركة حتى يندلع الشقاق في جميع الصفوف فتنحل الجيوش، ويأخذ الجنود يهجم بعضهم على بعض، فيأكل بعضهم بعضا، ويذبح بعضهم بعضا، ويلتهم بعضهم بعضا، في المدن يدق ناقوس الخطر طوال النهار، ويستنفر الشعب، ولكن ما الذي يستنفره ….؟ ولماذا يستنفره ….؟

ذلك أمر لا يعرف أحد عنه شيئا، الرعب يستبد بجميع الخلق، المهن العادية هجرها أصحابها، لأن كل واحد يعرض آراءه وإصلاحاته، وما من أحد يستطيع أن يتفق مع أحد، الزراعة أُهملت إهمالا تاما، هنا وهناك يجتمع أناس فيشكلون جماعات ويتهافتون على القيام بعمل مشترك، متعاهدين بأغلظ الأيمان على ألا يفترقوا قط، ولكنهم ما يلبثون أن يشرعوا في شيء لا يمت بأي صلة إلى ما عقدوا النية على القيام به، ثم ما يلبثون أن يأخذوا في التراشق بالتهم، ثم ما يلبثون أن يقتتلوا فيذبح بعضهم بعضا؛ وتشتعل الحرائق، وتظهر المجاعة؛ كل شيء يصيبه الدمار..))، فشخصية (راسكولينكوف) هي شخصية ابتكرها (دوستويفسكي) اثر عودته من منفاه في (سيبريا)، فبلور كثير من المفاهيم التي تأثرت في نفسيته اثر مكوثه هناك لفترة ليست بالقصيرة في هذه الشخصية فيقول:

((..ترى أين قرأت أن رجلا محكوما عليه بالإعدام قد قال أو تخيل قبل إعدامه بساعة أنه لو اضطر أن يعيش في مكان ما، على قمة فوق صخرة، بموضع لا تزيد مساحته على موطئ قدم، وكان كل ما حوله هوة سحيقة ، خضما كبيرا، ظلمات أبدية، عزلة خالدة، زوابع لا تنقطع، وكان عليه أن يبقى واقفا على موطئ القدم هذا أبد الدهر، لظل مع ذلك مؤثرا أن يعيش هذه العيشة على أن يموت فورا، أن يعيش فحسب…!

أن يعيش… !

أن يعيش أي عيشة، ولكن أن يعيش …!

نعم، أين قرأت هذا ؟ ما أصدق هذا الكلام ! رباه .. ما أصدق هذا الكلام …!

ما حاجتكم دائما إلى أن تغمروا بالنعم أولئك الذين لا يعبئون بها ، أولئك الذين لا يستطيعون تحملها، لعله كان يسعدني جدا أن أموت……!

ما حاجتكم هذه دائما إلى تعذيب الناس..))، حيث ابتكر هذه الشخصية أي شخصية (راسكولينكوف) بشخصية (طالب) وهو يعيش حالة البؤس والفقر في غرفة كئيبة صغيرة وهو يرفض أية مساعدة من قبل الآخرين ليعيش عالمه فيقول:

((..إنه لمن الصعب أن يهمل المرء نفسه إهمالا أشد من هذا الإهمال، ولكن منظر مسكنه هذا، وهو فيما هو فيه من حالة نفسية خاصة، كان يمضي إلى حد أن يولد له شيئا من لذة؛ كان قد انفصل عن العالم انفصالا حاسما، وكان يعيش كالسلحفاة المحبوسة في قوقعتها..))، وبكل ما كان يشعر من الألم النفس ومفاهيم ومعضلات الأخلاق يقول:

((.. إننا نستطيع عند اللزوم أن نخنق حتى إحساسنا الأخلاقي، إننا نستطيع عند اللزوم أن نحمل إلى السوق كل شيء فنبيعه فيها: الحرية، الطمأنينة، وحتى راحة الضمير..))، ليتصاعد في فعله بارتكاب جريمة قتل حيث يخطط لها ويقوم بتنفيذها بحق امرأة يصفها بعديمة الضمير، تقرض المال، وحين يشرع بقتلها فيبرر فعله بالدفاع بكون الأموال المقرضة يمكن توجهها للأعمال الصالحة بارتكاب جريمة تقضي على الحشرات لا قيمة لها، وفعل بهذا المبدأ هو كما يقول كأفعال (نابليون)، حين يكون القتل من اجل تحقيق هدف أسمى فيقول:

((..إن الرجال ينقسمون، بحكم قوانين الطبيعة، إلى فئتين بوجه عام: فئة (العاديين)، الذين لا وجود لهم إلا من حيث إنهم مواد إن صح التعبير، وليس لهم من وظيفة إلا أن يتناسلوا.

وفئة عليا هي فئة (الخارقين)، الذين أوتوا موهبة؛ وأن يقولوا في بيئتهم قولا جديدا؛ ولا شك أن هناك تقسيمات فرعية لا حصر لعددها، ولكن السمات المميزة التي تفصل هاتين الفئتين قاطعة هي الفئة الأولى، وهي فئة المطعون، فإن أفرادها على وجه العموم، أناس خلقوا محافظين، وهم أناس معتدلون يعيشون في الطاعة ويحلو لهم أن يعيشوا في الطاعة، و(عندي) أن عليهم أن يطيعوا، لأن الطاعة هي ما كتب لهم، وليس في طاعتهم ما يسيء إليهم أو يذل كرامتهم.

وأما الفئة الثانية، فهي تتألف من رجال يتميزون بأنهم جميعا يكسرون القانون، وبأنهم جميعا مدمرون، أو بأنهم جميعا ميالون إلى أن يصبحوا كذلك بحكم ملكاتهم، وجرائم هؤلاء الرجال تتفاوت خطورتها وتتنوع أشكالها طبعا، وأكثرهم يريدون تدمير الحاضر في سبيل شيء أفضل، فإذا وجب على أحدهم؛ من أجل تحقيق فكرته، أن يخطو فوق جثة، أو فوق بركة دم، فإنه يستطيع (في رأيي) أن يعزم أمره على أن يخطو فوق الجثة أو بركة الدم مرتاح الضمير، وكل شيء رهن بمضمون فكرته، وبما لها من أهمية طبعا.. على انه لا داعي للقلق كثيرا، فإن الجمهور لا يكاد يعترف لهؤلاء الرجال أبدا بمثل هذا الحق بالعكس، إن الجمهور يضطهدهم ويشنقهم (كثيرا أو قليلا)، وهو في هذا يمارس حقه، ويقوم بوظيفته كجمهور محافظ، رغم أن الأجيال اللاحقة من هذا الجمهور نفسه ستخلد ذكر أولئك المضطهدين المعذّبين فتقدسهم (كثيرا أو قليلا)، فالفئة الأولى من الرجال هم سادة الحاضر، والفئة الثانية هم سادة المستقبل. الأولون يحفظون العالم ويزيدونه كما والآخرون يحركونه ويقودونه إلى غاية..))، لنجد ليس في هذا المقاطع من (الجريمة والعقاب) والتي في مجملها تطرح الكثير من مواقف الإنسانية والأفكار الفلسفية لا يمكن حصرها، لان الشخصية التي قدمها (دوستويفسكي) والمتمثلة في شخصية (راسكولينكوف) هي شخصية ليست مجرد (قاتل) للمرابية العجوز لان (دوستويفسكي) اعتبر هذا التفسير خاطئ، لان الجريمة بكل اعتباراتها كانت أعمق من مجرد (قاتل) و(مقتول)، بقدر ما كانت تواجه المجتمع بسلسلة من الأسئلة المهمة التي لا تنتهي حول حقيقة (العدالة) وإمكانيتها من تحققها، ومن هو المجرم الحقيقي…..؟

ومن هنا نستطيع القول بان تجربة (دوستويفسكي) مع الوجود، ثم تجربة النفي والسجن في (سيبيريا)، هي من فجرت عبقرية (دوستويفسكي) وأثمرت إنجازات أدبية مذهلة في بداية انطلاقه الأدبي، حيث كانت رواية (الجريمة والعقاب) و (الأبله).

وحينما نتوجه إلى رواية (الأبله) فإننا سنستشف منها عالم لا يقل أهمية عن عالم الذي وجدناه في (الجريمة والعقاب) فهنا البطل هو الأمير(ميشكين)، هذه الشخصية هي أكثر شخصيات الرواية شبها بحياة (دوستويفسكي)، فهي تحكي عن الأمير (ميشكين) وهو من يطلق عليه لقب (الأبله) وهو شاب في أواخر العشرينات من عمره ينتمي لأحد العائلات الراقية في روسيا، مريض بـ(الصرع) هو يتشابه كثيرا – كما قلنا – مع الكاتب (دوستويفسكي)، فقد أصابه (الصرع) و كان ملازما له طوال عمره وهذا الشاب قضى ما يقرب من أربعة سنوات من عمره في عيادة سويسرية، ثم يعود مرة أخرى إلى (سانت بطرسبرغ)، و تجسد الرواية المعاناة التي قد عاشها هذا الأمير، تبدأ الرواية بعد عودة الأمير (ميشكين) من سويسرا بعد رحلة علاج طويلة، و في طريق عودته في القطار يتذكر بعض المواقف التي تعطي للقارئ لمحة مفصلة عن حياته، فهو يتصف بالعفوية و طيبة القلب و يتصرف بطريقة تجعل من حوله يطلقون عليه لقب (الأبله)، بعد ذلك يقرر الأمير (ميشكين) زيارة قريبته الوحيدة في (بطرسبرج) و أثناء تلك الزيارة يتعرف على بناتها الثلاث و هن أجمل بنات المدينة على الإطلاق، و تبدأ الرواية في أخذ القارئ لتفاصيل أكثر حول إقامة الأمير في (بطرسبرج) و الأشخاص الذين قابلهم و تقوم بشرح علاقته مع الآخرين بشكل كبير، والأمير(ميشكين) هو رجل ساذج ولكن واثق من نفسه يملك طيبة طفولة ومثالي لدرجة كبيرة، ويتكلم دون أن يعير اهتمام لأحد، ويحاول قدر المستطاع أن يحقق السعادة لأعدائه وأصدقائه على حد سواء، مما يؤدي ذلك إلى الكثير من المتاعب لنفسه، لأنه لا احد يفهمه نظرا لأنه يتعامل مع العديد من الشخصيات منهم من هو (ماكر) ومن هو (فاسق) ومن هو (أناني)، ومع ذلك كان يطرح مواقفه في وجه الآخر للانتباه لما يقوله، فهو – على سبيل المثال – يقول:

((..اعلموا أن هناك حدا للغم والقهر والنكد الذي يحدثه في نفس الإنسان؛ شعوره بأنه لا شيء وبأنه عاجز فإذا تجاوز الإنسان ذلك الحد غرق في لذة خارقة..)).

و خلال إقامة الأمير(ميشكين) في تلك المنطقة يقع في دوامة عاطفة تؤثر عليه بشكل كبير، و يقوم بمصارعة نوعان من الحب، الحب الأول هو الحب الحقيقي بينه وبين (آجلايا) ابنة الجنرال، أما الحب الثاني فهو حب (أناستاسيا) وهي من شخصيات الرواية الرئيسية، و تتميز بأنها شابة جميلة، مثقفة و ذكية، و محبوبة من الجميع، يقع الأمير(ميشكين) في حبها، و ينتج عن هذا الحب نتائج مأساوية في نهاية القصة.

ويقول (دوستويفسكي) على لسان الأمير (ميشكين):

((.. إن جوهر العاطفة الدينية مستقل عن جميع البراهين، وجميع الأفعال السيئة، وجميع الجرائم وجميع مذاهب الإلحاد، إن في هذه العاطفة شيئا لا يمكن أن تدركه، ولا يمكن أن تناله أدلة الملحدين في يومٍ من الأيام، وسيظل الأمر على هذا النحو أبد الدهر..)) .

وهذا السرد والطرح مع بلورة الأفكار وتقديمها للقارئ لا باعتبارها عمل سطحيا تنتهي عمل الرواية بنهاية قراءتها، وإنما يقدمها (دوستويفسكي) كفرصة لتأمل ومراجعة الذات وتقيم القيم وعمل الإنسان ليس لمرحلة محددة فحسب بل في كل مراحل الحياة، ولهذا فان إعمال (دوستويفسكي) تكون حاضرة في كل العصور وتفرض وجودها بقوة، فأكثر من (مائة عام) مضت على إعمال (دوستويفسكي) ولكن مازالت تقرأ بشغف وكأنها روايات معاصرة، والسبب بان (دوستويفسكي) قدم وطرح في إعماله الأدبية تحليلا شاملا لنفس الإنسان والتي تتنوع وتختلف وتتطابق بالمشاعر والأحاسيس؛ ولكن في الايطار العام هي مشاعر نفسية موجودة في كل إنسان؛ وان الاختلاف يكمن بالحالة المرضية صعودا وهبوط في درجاتها وشدة تأثيرها على سلوك الإنسان بشكل مختلف عن الأخر زمانا ومكانا، وهذا ما حرص تقديمه (دوستويفسكي) في عموم ألرواياته وكما نلاحظها في رواية (الأبله) و(الجريمة والعقاب) و(المقامر) و(الإنسان الصرصار) و(الإخوة كارامازوف)، حيث تكاثف فيها الأفكار والآلام والمعانات والتي من خلال هذا الضغط النفسي ومن خلال حجم التوتر والقلق الذي يخيم على أجواء رواياته؛ فانه يوظف كل الوسائل لعرض معاناة والقلق والهذيان التي تشعر شخصياته وعلى أكمل وجه، لتؤكد على حالة التوتر التي تخيم على أجواء الرواية؛ فهو يستخدم أقسى تعبيرات لخلق تجانس بين جو العمل والحالة النفسية التي تشعر شخوص الرواية والأفكار التي تنطلق من خلال الضغط النفسي الذي يشعر به الإنسان، وبهذا تتميز روايات (دوستويفسكي) بتعبيرها الحاد المعبر عن مكنونات الذات ومشاعر النفس، فيكون تصويرها في النص غني بتعقيدات سلوك الإنسان وشخصيته، والتي تؤول بشتى تفسيرات، لان الكثير من سلوكيات الإنسان تأتي ببواعث من الشعور الواعي واللا الواعي، ولهذا حاول (دوستويفسكي) تسليط الضوء والإحاطة بكل ما تتجه إليه النفس البشرية، رغم إن اعتقاد (دوستويفسكي) بان (النفس البشرية) هي في كل معطياتها ستبقى لغزا لا يمكن تحليها تحليلا دقيقا، وستبقى غامضة منفلتة لحجم اللامعقول في سلوكها وعبثيتها وتمردها، ومن هنا فان (دوستويفسكي) اعتبر أحد اكبر منظري (النفسانيين) في علم النفس البشري بقدر ما اعتبر مؤسس (المذهب الوجودية)، حيث نجد في روايته (الإنسان الصرصار) منطلقا لتفريخ كل أفكاره بـ(الوجودية)، حيث يتطرق بشكل فلسفي حديث؛ عن أهم معضلات (الوجودية) التي كانت الفلسفة الأوربية تطرقها آنذاك في محافلها الفكرية، ويطرح (دوستويفسكي) آراءه في موضوع الرواية التي تتناول قصة رجل الذي يمثل شخصية الرواية وهو في أربعينيات العمر؛ ففي قرار ذاته يرى نفسه إنسان مكروه وبائس بفعل الآم جسده وعقله، إضافة إلى معتقداته الشخصية التي ترى بالتقدم والتطور بكونه شيء خاوي لا يستحق إن نعطي له أية أهمية، ويفضل إن لا يفعل شيء، ويتفرغ لتأمل فحسب، بكون ذلك أفضل من أي شيء أخر في هذا الوجود، وهذا الطرح الذي قدمه (دوستويفسكي) في روايته؛ يعتبر نواة الفكر (الفلسفة الوجودية) سبق (جان بول سارتر)، لتعتبر هذه الرواية أول رواية في (الفلسفة الوجودية).

فـ(الإنسان الصرصار) تطرح فكرة مفادها؛ بان الإسراف والتوغل في عمق إدراك الأشياء والشعور بذلك يعتبر (مرض)، وكل (إسراف) في إدراك الأشياء يعتبر مرض، لان حينما ينقاد الإنسان إلى التصرف والتعامل مع الآخرين وفق قدره على التفوق وإظهار تفوق ذكاءه لا محال ستتسبب له مشاكل لا تعد وتحصر؛ وبالتالي يعتبر الذكاء (مشكلة) وشدة الإدراك في ماهية كل ما يحيطه تعتبر (لعنة) حقيقية؛ والتفكير بكل صغيرة وكبيرة يعتبر (مرض)، لذا فان (دوستويفسكي) يثير في هذه الرواية بقوله: كل وعي (مرض)، ليعطي لـ(لعطالة) اللا العمل، بكونها هي الثمرة الطبيعية للوعي . لتكون رواية (الإنسان الصرصار) رواية الاغتراب والتناقض، التي قدر للإنسان إن يعيشها، ولهذا فان شخصية الرواية يقدمها (دوستويفسكي) يقدمه (بدون اسم)، باعتباره إنسان يعيش وجوده كأي إنسان مما نراهم من حولنا؛ فهو قد تقاعد بعد إن كان يعمل في عمل بسيط، ليؤجر له (سرداب) تحت الأرض، ليقوم بسرد لقراء وهميين مذكراته الشخصية، وفي سردابه؛ راح يكتب بعمق وبكل ما يكابده، ولعل أن (دوستويفسكي) هنا يحلل شخصية الإنسان تحليلا نفسيا وربما هو يحلل ذاته، في وقت الذي لا بد إن نذكر؛ بان آنذاك (علم التحليل النفسي) لم يكن مفاهيمه قد رسخت كما هو عليه اليوم، فـ(دوستويفسكي) يطرح موضوع (الأنانية) وهيمنتها على (المنفعة الذاتية)، كما ويطرح (المثالية) للإصلاح الاجتماعي والسياسي، واستحواذ التطور التكنولوجيا على الحقيقة، وهذه المعطيات الفكرية العميقة يحملها في الرواية ليعطيها بعدا فلسفيا ونفسيا شاملا لتتخطى الرواية بعدا أوسع مما هي عليه لتتخطى زمانها، وحين نعمق أكثر في الرواية فان (الجزء الأول) والذي يحمل عنوان (تحت الأرض) حيث يعرض بطل الرواية وهو يعرف بنفسه وبأفكاره ومعتقداته، والوضع النفسي الذي هو فيه، وهذه الشخصية في الرواية الذي لم يعطي – كما قلنا (دوستويفسكي) اسما له – فهذا الجزء يحتوي على أحد عشر فصلا، وجلها تتحدث عن المعانات هذه الشخصية وحجم التشويش النفسي التي تعتريها ليتخذ هذا الإنسان من كل كذلك منفذا للانتقام من نفسه، وهنا هو يعرض وجهة نظره على مدى تردي الأخلاق في المجتمع كما يراه ويلتمسه من محيطه؛ وفي هذا الجزء فان (دوستويفسكي) يبدع في نصوص بلغة غير عادية وهو يقدم رجل مريض فيقول:

((..أنا إنسان مريض؛ إنسان حقود؛ إنسان ممقوت، وأظن أن كبدي مريضة، إلا أنني – على أي حال – لا أعرف شيئا عن مرضي.. ولست أستشير طبيبا.. رغم أنني أحترم العقاقير والأطباء، إضافة إلى أنني متعلق بالخرافات إلى حد يجعلني أحترم العقاقير، ومهما يكن فإنني مثقف إلى حد يكفي لجعلي لا أصدق الخرافات، إلا أنني أؤمن بها على الرغم من ذلك..))، ويقول أيضا: ((..يحدث الاستمتاع بسبب إفراطك في إدراك انحطاطك، وشعورك بأنك قد وصلت إلى آخر الحدود وأن ذلك رهيب، إلا أنه لا يمكن أن يكون غير ذلك، وأنه ليس في استطاعتك أن تنجو منه، وأنه ليس في استطاعتك أيضاً أن تكون إنسانا مختلفا، وأنه حتى إذا كان لديك شيء من الإيمان ومتسع من الوقت لتصبح إنسانا آخر، فإنك لا تريد ذلك، وحتى إذا رغبت في ذلك، فإنك لن تفعل شيئا منه، لأنه ربما لا يوجد في الواقع ذلك الشكل الذي تريد أن تكونه؛ إن أفظع ما في الأمر ينجلي في أن ذلك كله متفق مع القوانين الأساسية في الطبيعة، والتي تميز الإدراك الشديد، بما في ذلك القصور الذاتي و(الاستمرارية الذاتية) التي تعتبر نتيجة مباشرة لتلك الأول، ولذلك فإنك لست غير قادر على تغيير نفسك فحسب، وإنما لا تستطيع أن تفعل شيئا بالمرة أيضا؛ ونستنتج من ذلك أن الإنسان غير ملوم إذا صار نذلا من جراء هذا الإدراك..))، وفي مقطع أخر يقول:

((.. من الصعب على نفسي أن أجلس مكتوف اليدين، ولهذا فقد حاولت أن أحطم قيودي، ولكم أن تصدقوا هذا؛ ولو نظرتم إلى أنفسكم أيها السادة لعرفتم ما أعني، ولتبين لكم صدقه؛ لقد خلقت لنفسي بعض المغامرات، واصطنعت حياة ما لأنني كنت أريد أن أعيش بأية طريقة؛ وكم كنت أتضايق وأنزعج بدون سبب يدعو إلى ذلك، وكنت أصطنع ذلك اصطناعا، عالما بأنه لا وجود لذلك الضيق في الواقع، وبأنني أخلقه لنفسي خلقا؛ وكنت طيلة حياتي أجد في أعماقي دافعا يدفعني إلى التظاهر بهذه الأكاذيب وقد بلغ بي ذلك أنني لم أعد أستطيع أن أتغلب على هذا الدافع في نفسي..)) .

أما (الجزء الثاني) من (الإنسان الصرصار)، فيحمل عنوان (مهداة إلى الثلج الندي) وفي هذا الجزء فان شخصية الرواية إنما تعبر عن تجربة (دوستويفسكي) الشخصية، وتأثره بالواقع الذي انعدمت فيه العدالة الاجتماعية، ولهذا فانه يكسر الحاجز الزمني، ويتواصل مع ما يدور من صراع داخلي في ذهن إنسان؛ ليس فحسب في عصره بل في العصور ألاحقة، وهذه القدرة في قراءة الواقع هي من جعلت هذه الرواية تحاكي وجها لوجه المجتمعات الحداثة والمعاصرة وتداعياتها المختلفة على تشكيلة النفسي . فالرواية تسهم في مجمل أحداثها في توجيه شخصية الإنسان نحو الاغتراب والتهميش والضمور لكي يعيش كما يرغب الآخرين، ولهذا فهو يقرر الانسحاب من حياة المجتمع والبحث عن وسيلة للتعبير عن نفسيته بسرد خواطره في مكان مجهول لا يعلم بوجوده احد سواه فيختار (السرداب) كأفضل مكان يضمن له هذا النوع من التواصل الاجتماعي الغريب، ولان الرواية كلها في غاية الأهمية فإننا نسلط الضوء عن بعض الفقرات عنها ليس بكونا هي الأفضل بل كنموذج؛ لان الرواية لا تكتمل جمالياتها إلا بقراءتها من أول السطر والى أخر جملة فيها؛ ومن فقرات الرواية نختار: ((.. أ تعرفون أيها السادة ما هي الميزة الأساسية في حقدي…!

إن المشكلة كلها والجانب المؤذي فيها كامنان في أنني، حتى في أشد لحظات حقدي، أحس في أعماقي بالخجل من أنني لم أكن غير حقود في الواقع وحسب، وإنما لم أكن أشكو من شيء قط، كنت أخجل من أنني لم أكن غير ضارب الأرض بلا هدف، يفزع العصافير الآمنة في طريقه، واجدا في ذلك متعة أي متعة….! ..)).

ومن هنا فان (دوستويفسكي) ابتكر شخصيات رواياته من عمق ذاته فهي بالتالي تمثل (ذاته) بهذا الشكل أو ذاك؛ فهو لم يخفي شيء من أعماق ذاته إلا وعبر عنه وكشف عنه فحالة الصرع التي كانت تندب (دوستويفسكي) كانت تكشف ما في أعماق؛ فهي بالتالي لم تكن حالة (مرضية) عنده بقدر ما كانت حالة (استكشاف واستشراق الروح)، التي هي من كانت تزوده بهذه القدرة في تحليل الأشياء ليبقى للانبهار في تحليلاته لسلوك الإنسان مدعاة الإعجاب في كل العصور، لان ذكاءه كان ذكاءا غارقا؛ استطاع إن يسبر أعماق النفس الإنسان، لان معاناته مع مرضه أزاده إحساسا ورهافة بالآم الإنسان وعذابه؛ وهذا ما دفعه إلى تعمق في فلسفة الحياة والوجود؛ وهو ما عكس في تركيبة التي صنعها في شخصيات رواياته، ولهذا نجدها مليئة بالمتناقضات بين العقل والعاطفة وبين المادية والمثالية وهذا ما حدا بهذه الشخصيات إلى مرافقة الصراع مع مصيرها بين قدر الحياة والموت؛ لتكون تجربته في صناعة الحوار الفلسفي في حقيقة هو هذا الصراع مع روايته (الأخوة كارامازوف) والتي تبحر في مأساة أسرة (كارامازوف)عبر مداخلات في أحداث الرواية التي تدور وتبحث في مواضيع عديدة وتناقش قضايا الإيمان و الأخلاق و في عوالم النفس البشرية.

و قصة الرواية هي جريمة قتل الأب لأبنائه الثلاثة الذي يرمز كل شخصية منهم إلى فكرة معينة (العقل) و(الجسد) و(الروح)، لتعد من أعظم وأعقد رواية له والتي كانت مدار اهتمام الكثير من المفكرين والفلاسفة ومحللين النفسانيين؛ وقد أمضى في كتابتها أكثر من عامين وقد توفي بعد نشرها بأربعة أشعر، ونظرا لرغبة (دوستويفسكي) تشخيص نفسه في شخصيات الرواية ليعبر عن كل ما يجول في عقله وروحه وخواطره؛ فقد صنع في هذه الرواية شخصيات عدة تميزت كل واحدة منها بشيء من التميز عن الأخرى؛ وهو الأمر الذي حينما نتبع الإحداث يصعب علينا من إيجاد موقع (دوستويفسكي) من بين هذه الشخصيات، فشخصية (إليوشا) تناقض كليا مع شخصية (إيفان)، فالأول مؤمن والثاني ملحد، لدرجة التي تشمل منطلقاتهم الفكرية تحديا للمتلقي باستيعاب هذا التناقض إن ينطلق من عقل (دوستويفسكي)، ليعبر بمنطلقات فكرية كل واحد منهم عالم خاص بذاته، على نحو ما يقوم به (المدعي العام) و(محامي الدفاع) في الرواية، فالأول لا يوجد عنده (أي شخص بريء؛ حتى الأبرياء هم مذنبين) وعند الثاني (الكل هم أبرياء؛ حتى أكثر المجرمين إجراما)، وهذان النموذجان المتناقضان في الحقيقة؛ هو ذروة الصراع القائم في مخيلة (دوستويفسكي)، وهذا الصراع هو ما تثيره الرواية؛ بإمكانية أن يكون قاتل الأب هو الابن غير الشرعي في رواية ولكن (دوستويفسكي) تساءل عن دور (إيفان) المثقف الملحد الذي يصرح بان كل شيءٍ مباح وألهم القاتل، فيا ترى أيهما القاتل الحقيقي…؟

فهذا (الانفعال) و (كبت الانفعال) القائم في عموم الرواية لم ينهيه (دوستويفسكي) ليس في هذه الرواية بل في عموم رواياته، وهذا التناقض في حقيقته هو تناقض القائم في شخصية (دوستويفسكي) بكونها (شخصية أخلاقية) وفي ذات الوقت كونه (شخصية آثمة) بمعنى انه تراه هو (مدعي العام) وتارة أخرى هو (محامي الدفاع)، ولهذا كان (دوستويفسكي) يشعر بما في أعماقه من هذا التناقض لذلك التجاء إلى الكتابة كخير طريقة لقمع هذه التناقضات في ذاته، لذلك وجد ضالته في الرواية (الإخوة كارامازوف) فطرح خلاصة أفكاره حول (الإيمان) و (وجود الله) اي بين (الإلحاد) و(الإيمان)، فـ(دوستويفسكي) لم يؤمن بوجود الله ولم يعترف بوجوده؛ وقد وصل إلى هذا الإيمان تدريجيا عبر معطيات التحليل ما بين الشك والإلحاد بمشقة العذاب ولهذا فهو يقول عن الرواية بان فيها ((كل شيء))، وهذه الكلمة الأخيرة في (الإخوة كارامازوف) يمكن في عقل (دوستويفسكي) أن تتحول إلى ((كل شيء)).

و(كل شيء)، في مخيلة (دوستويفسكي) أمر قائم وجائز ومتوقع في أية لحظة من لحظات التي يعيشها الإنسان؛ فكما كانت تجربته مع الموت والحياة قائمة؛ حين اخذ صفا من صفوف الإعدام اثر صدور حكم الإعدام بحقه وفق قرار صدر بإعدامه رميا بالرصاص؛ ولكن في اللحظة الأخيرة التي وقف المنفذين الحكم يتأهبون لإصدار أمر إطلاق النار؛ وقف تنفيذ الحكم ولم يعدم (دوستويفسكي)….! لتكون هذه التجربة التي لم يصدقها حتى نهاية مشوار حياته؛ والتي أثرت تأثيرا بالغا في سلوكه؛ الأمر الذي اعتقد جازما بان (كل شيء) ممكن وجائز و متوقع حتى في أخر ثانية من ثواني الزمن والوجود الذي يعيشه الإنسان.

ولهذا فإننا في مجمل رواياته نلتمس ونتوقع (كل شيء) في تطور إحداث الرواية؛ ونكون إمام تصاعد حبكتها متوقعين ما لا نتوقعه ، وهذه هي عظمة (دوستويفسكي ) في كتابة الرواية، لأنها تشد القاري إليها، بكون تصاعد الإحداث تتوجه بغير ما يمكن توقعه؛ نظرا لتشابك وتداخل العقد النفسية التي يركز (دوستويفسكي) عليها والتي من طبيعتها لا تخضع لأي قواعد ثابتة؛ بقدر ما تتلاعب بها المشاعر والأحاسيس وهي تكون وفق الإحداث والمؤثرات البيئة والمحيط، مضطربة وسوداوية النزعة وليس لها اتجاه ثابت؛ تأتي وتمضي كالرياح بدون شكل ولا جسد ولكن تترك اثأر مدمرة إذ عصفت بشدة أو عكسها، وهذا ما نلاحظه وليس حصر في رواية (المراهق) وهي رواية تتميز ببعدها النفسي والسلوكي وتشابك العقد النفسية والجنون والفوضى والتمرد الطائش والعبثية تتداخل فيها صراعات نفسية مربكة بين ما هو داخلي وخارجي التي ترافق بطل الرواية وهو مراهق متمرد وطائش تصارع في دواخله موجة من الأوهام والآمال والطموحات في ظل بيئة المحيطة بين العائلة والأصدقاء والمجتمع وما انعكس عليها من آثار الحياة السياسية والاقتصادية والمجتمع البرجوازي في روسيا القيصرية.

فـ(المراهق)، هو(آركادي ماكاروفيتش) يعيش من خلال الصراعات مع نماذج إنسانية مختلفة في الرغبات والأهواء والنزوات، فيسعى للتمرد عليها عندما يضع نصب عينيه أن يصبح غنيا، ولكنه يصطدم بالمتناقضات والشخصيات التي تحول دون الوصول إلى هذا الهدف؛ ولما كان المراهق هو ابن غير شرعي لـ(فرسيلوف) وأنه في الأصل ابن بستاني من الأقنان المجتمع، وأثناء عمله مع الأمير (سرجي بتروفيتش) يقع في حب ابنته (كاترين نيقولايفنا)، والتي يعرف فيما بعد، أنها عشيقة والده (فرسيلوف) و من خلال علاقاته يكتشف وثيقة كتبتها (كاترين) لأحد المحاميين، تسأله عن طريقة قانونية تتخذها لتثبت أن أباها مجنونا بحكم القانون، وتستولي على ثروته، لكنها تعدل عن هذا القرار بعد فترة وتثوب إلى رشدها، وبطريقة ذكية يحصل المراهق (آركادي)على هذه الوثيقة من (كرافت) الذي مات منتحرا ويبقيها في جيبه، لتبدأ مناورات وألاعيب (المراهق) مع أبيه ومع (كاترين) و(تاتيانا بافلوفنا) المربية، وينجر إلى علاقات أعمق وأوسع في سبيل فكرته مع لصوص ومجرمين ومشردين ومنهم (لامبرت) زميل الدراسة، والذي كان يضربه ويهينه وينعته بكونه ابن (زنا)، وليس له اسم ومكانة اجتماعية، وأخته غير الشرعية (آنا أندريفنا) التي يسعى لخطبتها الأمير العجوز(سرجي بتروفيتش)، والتي علمت بأمر الوثيقة، فكان من مصلحتها أن تحصل عليها لتبين للأمير وجه الحقيقة، وأنه مخدوع من أقرب الناس إليه. وتتشابك أحداث الرواية وتتصاعد حبكتها وتتداخل مع بعضها، من خلال الرغبات والأهواء المتصارعة في شخصياتها؛ وتتخللها مشاهد مثيرة يحبكها (دوستويفسكي) بخبرة ودراية نفسية عميقة، بما تضمنت الرواية من شخصيات مزدوجة الإرادة والمشاعر؛ وما تعقبها من إحداث دراماتيكية مثيره، فهو يقدم هذه الشخصيات في لحظة متجهة نحو الانهيار دون إن تعرف ما سيؤول فعلها و مصيرها؛ عبر تحليل عمق في سلوك الإنسان وطبيعته النفسية المضطربة.

ومن هنا فان شخصيات رواية (المراهق) وكل روايات (دوستويفسكي) التي قدمها؛ تقدم بدون مواربة أخلاق وثقافة وقضايا نفسية معقدة وشاملة؛ فمنها من تفقد صوابها، ومنها من تستردها، ومنها من تسقط ضحية لرغبات وأهواء، ومنها من يفقد عقله؛ لتضعنا رواياته أمام غرائز النفس والسلوكيات المرضية للإنسان؛ الغير المتزنة، بل إن (دوستويفسكي) في عموم رواياته يحرص على تسليط الضوء مع الغوص في سلوك الإنسان وما يصدر من أعماق النفس بفعل إرادي أو اللا إرادي، والتي تطرح لنا أسئلة فلسفية عميقة في قيمة الوجود والإيمان والأخلاق والمقرونة بالتحليل النفسي والسلوكي للإنسان، هذا المعرفة النفسية والسلوكية التي لم تكن آنذاك موسعة كما هو الحال اليوم؛ ولكن (دوستويفسكي) استطاع بعبقريته وبتفكيره المعرفي تحليل سلوك الإنسان وتقلباته المرضية والنفسية والسلوكية والاجتماعية وبكل ما يعتريها من تناقضات وصراعات مع وجودها وعلاقاتها في أيطار المجتمع؛ بشكل مثيرا بحيث أصبحت مصدرا للبحوث النفسية لاحقا، فما طرحه (دوستويفسكي) من أفكار وما قدمه من تحليلات وما طرحه من الأسئلة عبر شخصيات رواياته وبطريقة متميزة والتي جلها تتعلق بالإنسان ووجوده؛ هي من جعلت رواياته جديرة بالقراءة في كل عصر لتميزها بطابعها التحليلي والتأملي والنفسي والفلسفي تسهم في تزويد الإنسان بالمعرفة .