تعتبر الانتخابات التي تجري في اي بلد، ممارسة ديمقراطية وحقا مشروعا للشعب، وتأتي نتائجها لتؤكد على تعزيز ممارسة السلطة العامة وضمان الانسيابية في العلاقة بين الحكام والمحكومين وبين القيم والمفاهيم والخطط والبرامج المعدة سلفا للنهوض بحياة المواطنين وتحقيق الافضل وتجاوز الاخفاقات السابقة ومواصلة وتطوير مؤسسات الدولة والعمل المضني والجاد لجهة رفاهية الشعب، إلا في العراق.
ان الحديث حول اهمية الانتخابات ينبع في الاساس من مشكلة فهم وتعريف الديمقراطية نفسها. وكذلك تحليل القيم الضمنية في استخدام مصطلح الديمقراطية وفهم العلاقة بين الديمقراطية والانتخابات. وان الترتيبات السياسية لا يمكن تقييمها إلا إذا كانت المعايير التي يتعين تطبيقها واضحة، ولأن من الضروري تفصيل القيم التي تنطوي عليها المناقشات المتعلقة بمعنى الديمقراطية إذا أردنا فهم السياسة ونتائج الإصلاحات المؤسساتية.
النظام في العراق لايمكن ان يكون ديمقراطيا بمجرد اجراء الانتخابات لوحدها. ولن يصبح ديمقراطيا اذا كانت مؤسسات الدولة تدار بعقلية المحاصصات الطائفية، وكذلك في تمثيل المفوضية العليا للانتخابات التي يجب ان تكون مستقلة تماما وبعيدة عن التعيينات الحزبية والتقسيمات الطائفية والاثنية والمحاصصة. وان يكون القضاء مستقلا لا يسمح بالتدخلات السياسية في شؤونه وقراراته بأي شكل من الاشكال. وان تتمتع جميع مؤسسات الدولة بالاستقلالية التامة والالتزام بمبادئ حقوق الانسان والمواطنة الحقة.
لقد اثبتت السنوات الخمس عشرة الفائتة ان الطبقة السياسية في العراق، التي وصلت الى سدة الحكم بدعم امريكي ودولي وايراني، فاشلة بامتياز، فهي لم تعمل طيلة السنوات الماضية من اجل الشعب، بل من اجل مصالحها الذاتية والفئوية الضيقة. وقد اثرت بشكل كبير على حساب قوت الشعب، واستغلت موارد البلد وثرواته وكذلك المساعدات المالية، التي انهالت عليه من كل حدب وصوب، من اجل اهدافها الخاصة.
الطبقة السياسية التي ابدعت في جني الاموال واثبتت جشعها، وهي تغلف نفسها برداء الدين وتتستر بجلبابه. وقد كان الشعب المغلوب على امره محقا في تظاهراته الغاضبة وهو يهتف (بإسم الدين باكونا- سرقونا- الحرامية). من المعيب حقا ان نراها تتحدث عن محاربة الفساد وتتظاهر في تأييدها وطاعتها وخضوعها لتوصيات المرجعية العليا، في مطالبتها المستمرة بالعودة الى العقل ووضع مصلحة الشعب فوق جميع الاعتبارات والعمل على تحسين اوضاعه المعيشية والخدمية والحد من البطالة وضرب الفساد والمفسدين بيد من حديد.
في ظروف اقتصادية صعبة ومديونية عامة تبلغ 120 مليار دولار، مردها الفساد الاداري والمالي المستشري في مفاصل الدولة، جرى التنافس في الانتخابات النيابية العراقية التي جرت في 12 آيار 2018، على 328 مقعدا. هذه الانتخابات التي اعتبرت الاعلى تكلفة في المنطقة. لقد كانت المفوضية العليا للانتخابات واضحة في تحديدها مبلغ مليون دولار حدا اقصى يمكن لكل مرشح في بغداد ان ينفقه على حملته الانتخابية. وبمعادلة بسيطة، كان لمحافظة بغداد 1985 مرشحا، يعني ان مجموع ما انفقه هؤلاء المرشحون على حملاتهم الانتخابية في محافظة بغداد وحدها ما مجموعه 1985 مليون دولار. كما قدر المبلغ الذي انفق على الانتخابات في عموم العراق بنحو 7 مليارات دولار، هي في محصلتها النهائية اموال الشعب العراقي الذي يعاني من ترد في الخدمات واوضاعا مالية واقتصادية صعبة، حيث البطالة في اعلى مستوياتها.
ورغم انه ليست هناك احصائيات دقيقة تكشف الارقام الحقيقية لتكلفة الحملات الانتخابية لرؤساء بعض الكتل والاحزاب السياسية التي تحتل الصدارة في الانفاق، لا توجد كذلك جهة رسمية ذات علاقة تحمل هؤلاء مسؤولية هدر الاموال، وتسألهم: من اين لكم هذا؟
اما السر في التهافت للحصول على مقعد برلماني، فمرده المزايا والامتيازات التي يحصل عليها عضو البرلمان، خاصة اذا حظي بلجنة برلمانية مختصة، او في تم تعيينه في هيئة وزارية خدمية تدر مبالغ طائلة من خلال الاستثمارات والعقود والصفقات والمناقصات الكبيرة. والى جانب الاثراء الشخصي، يحصل عضو البرلمان على الحماية الخاصة والحصانة اللازمة تقيه من اي تحقيق او مساءلة.
ولضمان الفوز بمقعد في البرلمان، ازدهر سوق شراء وبيع ارقام الصدارة في القوائم الانتخابية. وبدأت المزايدات والصفقات الدسمة بين الاحزاب والكتل السياسية على الحقائب الوزارية. في وقت يبلغ العجز في موازنة العراق للعام 2018، 13 تريليون دينار وتبقى الاصلاحات الاقتصادية صعبة المرام، خاصة وان “الحرب على الفساد” لم تأخذ حيزا في الواقع العراقي، وانما بقيت مانشيتات للاستهلاك المحلي وعرض العضلات، لا بل ان المصالح الذاتية والفئوية بقيت سيدة الموقف، ولا احد يلتفت الى مصلحة عامة الشعب، في انتخابات كانت نسبة المشاركة فيها 44% اي بمشاركة 10 ملايين ناخب من اصل 24 مليون مواطن عراقي يحق لهم التصويت والمشاركة في الانتخابات.
وما ان انتهت الانتخابات واعلنت نتائجها، بعد انتظار طويل يحبس الانفاس، بدأت الاتهامات بالتزويرالانتخابي وشراء الاصوات والذمم والمطالبة باعادة الانتخابات ونشر الشائعات والاخبار التي يصعب على المواطن ان يفرز السمين من الغث، والصحيح من الكذب ويختلط الحابل بالنابل. ثم بدأ ماراثون التدخلات الاجنبية، متمثلة بالولايات المتحدة الامريكية وايران، في تشكيل الحكومة القادمة وتنصيب شخصيات موالية لها، من اجل ضمان مصالحها وتحقيق اهدافها السياسية في العراق.
اليوم بعد انتهاء الانتخابات والانفاق المهول عليها، في وقت تعيش البلاد اوضاعا اقتصادية مزرية، لا يترقب المواطن العراقي تحسنا في وضعه المعيشي وتحسين الخدمات، بعد ان يئس من الطبقة الحاكمة التي لم تقدم له، طيلة السنوات الماضية، شيئا يذكر، وهي غير مبالية بحلحلة المشاكل التي تواجهه.
اذن ما جدوى هذه الانتخابات التي تبقي على المحاصصة الطائفية المقيتة وعلى الحرس القديم الذي شارك في تدمير العراق على مدى اكثر من خمسة عشر عاما؟ وما جدواها اذا زادت من التدخلات الاقليمية والاجنبية في شؤون العراق، وصولا الى من يتبوأ المناصب السيادية والحساسة في الدولة؟ وما جدواها حقا اذا قاطعتها نسبة كبيرة من الناخبين؟.
ما الجدوى من هذه الانتخابات ياترى، اذا كانت تكلف مبالغ طائلة وتدفع باتجاه التسقيط السياسي وتفتح سوقا لبيع المناصب وشرائها في وضح النهار؟ ثم هل ان الطبقة السياسية التي استخدمت جميع الطرق، الحلال منها والحرام للعودة مجددا الى السلطة، ستفي بوعودها الانتخابية في اجراء اصلاحات جذرية ومكافحة الفساد والمفسدين؟
لقد اصبحت الانتخابات العراقية جزءا من قواعد اللعبة التي تنتهجها احزاب الاسلام السياسي، الجاثمة على صدر المشهد العراقي منذ عام 2003 للحصول على المغانم وتقسيم الكعكة، حيث تمثل الانتخابات بالنسبة اليها ما تمثل كونها ضرورة حتمية لديمومة البقاء. انتخابات لاتعني شيئا لعامة الشعب ولا تغير من احوالهم السيئة قيد أنملة.