إهمال العراق لشخصياته المرموقة
كلما يأتي بذهني محدودية إهتمام وطني “العراق” أو إنعدامها -مهما كانت الذرائع والأسباب- ينتابني أحزان من الأعماق بحق صروح وأهرام وعظماء خدموا هذا الوطن الحبيب بكل ما أوتوا من جهد وعرق وإخلاص، باذلين عقوداً متلاحقات من أعمارعم في سبيل خدمته.
وقد يأتي ببالي في هذا الشأن أحد أعظم قادة العراق العسكريين السيد “الفريق أول الركن عبدالجبار شنشل” من بين أولئك الـمُهمَلين الذين طواهم النسيان أو -سيطويهم قريباً- بعد أن يتوفى معاصروهم، رغم كونه موصوفاً في وسائل إعلام مرموقة بـ”الجنرال الأقدم في التأريخ” من حيث خدمته العسكرية التي تجاوزت (65) سنة من دون إنقطاع، وقد وشغل منصب رئيس أركان الجيش العراقي لـ(14) عاماً متواصلاً، ثم وزارتي الشؤون العسكرية والدفاع… ورغم ذلك فإن “الجنرال العراقي الأقدم في التأريخ” ليس لم يعُد يُذكَر فحسب، بل أنه إضطر لهجر وطنه ليقضي أواخر عمره المديد في الغربة متحسّراً على مدينته الجميلة وقد إستحوذ عليها الإرهاب، حتى وافاه الأجل هناك ليُدفَن في أرضها بدلاً من أن يرقد بين أفراد عائلته وأصحابه.
وإذا ما إستشعر أحد أني في سبيل كيل المديح لهذا الرجل، فأُجيبه بأن لا أجد مدعاة لذاك سوى إعتزازنا به قائداً عراقياً أصيلاً، فلا قرابة تربطني به ولا مدينة أو عشيرة أو عِرق، ولم أعمل تحت إمرته ((المباشرة)) طيلة حياتي، بل أنه -في حقيقته- قد تمسّك بموقف سلبي أزائي إثر رأي شخصي تفوّهتُ به -أمام قادة عسكريين وضباط ركن- مُنتقداً هجوماً فاشلاً للمرة الثالثة على عارضة “كرو عمر آغا” والمسمّاة محلياً بـ”ظهر السمكة” المطلّة على “حوض ديانا-راوندوز” في أوائل (أيلول/1974)، والذي عدّه السيد الفريق ((مَسّاَ)) بشخصه كونه قد وافق على تنفيذ ذلك الهجوم الذي تسبب في إستشهاد (21) من ضباطنا ومراتبنا وإصابة العشرات بجروح بليغة ناهيك عن إحباط المعنويات، لذا إتخذ “السيد الفريق” حيالي مواقف متسلسلة -من حيث لا أدري بالطبع- أثّرت سلباً على مستقبلي وأضاعت البعض من حقوقي طيلة حياتي العسكرية، فلم يُتَح لي أن أتسنّم منصباً يُذكَر أستحقه.
ولكن الحق يجب أن يُقال بحق هذا القائد العسكري المخوّل -حسب الدستور- بقيادة كل القوات المسلّحة العراقية طيلة (14) سنة حبلى بحروب متنوعة وأحداث جسام في وطننا الحبيب وخارجه.
لقد وَدَّعَنا فقيدنا الراحل “الفريق أول الركن ” راحلاً إلى جوار ربه في العاصمة الأردنية “عمّان” مساء (الجمعة- 19/أيلول/2014)، فبقيتُ أتحسّر عليه حتى رأيتُ من باب الوفاء أن أستذكر بضع محطات من حياته المديدة وخدمته العسكرية الدؤوبة التي إستغرقت منذ قبوله في الكلية العسكرية الـمَلَـكية ولغاية غزو العراق وإحتلاله في (نيسان/2003) حوالي (65) سنة متواصلة من دون إنقطاع مُسجلاً رقماً قياسياً تأريخياً عالمياً نادراً، حين أضحى ((أقدم جنرال في عموم العالم)) وقتما غُزِيَ “العراق” وأحتُلّ عام (2003) حسب وصف وسائل إعلام غربية مرموقة.
حياته المديدة
وإستناداً للبعض من المعلومات التي إستقيتها من المقربين عنه، فإني أسردها أمام ناظرَي القراء الكرماء من متابعي تأريخ العراق المعاصر بإختصار شديد.
فقد ولد “عبدالجبار خليل شنشل” في مدينة “الموصل” العريقة وسط عائلة معروفة وميسورة عام (1920)، ولم يتأخر قط في جميع مراحل دراسته حتى أنهى الثانوية وعمره (18) سنة.
إنخرط برغبة جامحة في المدرسة/الكلية العسكرية يوم (27/12/1938) بدورتها الـ(18) ليتخرج فيها بعد دراسة طالت أكثر من سنتين تقويميتين برتبة “ملازم” يوم (5/1/1941) مقتحماً صنف المدفعية، فتدرج في المناصب الصغيرة حتى كان برتبة “رئيس/نقيب” آمراً لبطرية مدفعية في حرب فلسطين (1948) قبل أن يمسي تلميذاً في كلية الأركان ويتخرج فيها برتبة “رئيس (نقيب) ركن” متدرجاً في مناصب الركن قبل أن يُعهَدَ إليه منصب آمر فوج وسط لواء المشاة الجبلي/5، ويُنقَلَ لجدارته معلماً ثم معلّماً أقدم لدى كلية الأركان قبل أن يعود آمراً للواء نفسه فرئيساً لأركان الفرقة/3 في “بعقوبة” ثم آمراً لكلية الأركان والقيادة، فقائداً لفرقة المشاة/4 في “الموصل” فرئيساً لأركان قيادة قوة الميدان للمنطقة الشمالية ومقرها في “كركوك”، ثم “معاوناً حربياً/للعمليات” لرئيس أركان الجيش “اللواء الركن إبراهيم فيصل الأنصاري” حتى ترفع بعرق جبينه إلى رتبة “فريق ركن” وأضحى رئيساً لأركان الجيش منذ عام (1970) ولأربع عشرة سنة متتالية ولغاية (1984)، ثم وزير دولة للشؤون العسكرية (1985-1989)، حتى أُنيط إليه منصب “وزير الدفاع” (1989-1990) خلفاً لـ”الفريق أول الطيار عدنان خيرالله” بعد مصرعه المعروف في حادث طائرة سمتية (هليكوبتر) مساء يوم (4/5/1989) قبل أن يعود وزيراً للدولة للفترة (1991-2003).
يفتخر “الفريق شنشل” كونه قد أسس كلية الأركان للمملكة الأردنية الهاشمية وقتما كان برتبة “مقدم ركن” (1956-1957)، كما كان أحد الخبراء الأقدمين المشرفين على تأسيس كلية مشابهة لدى “المملكة الليبية السنوسية”.
وجهاً لوجه مع “شنشل”
رغم مشاهداتي لـ”شنشل” عن بعد عام (1966) وقتما كان بمنصب “رئيس أركان قيادة قوة الميدان” المسؤولة عن إدارة العمليات القائمة في شمالي الوطن، فإني لم أتقابل مع سيادته وجهاً لوجه، ولم أعمل تحت إمرته المباشرة مطلقاً، فضلاً عن الفارق الكبير مع رُتَبه ومناصبه، حتى وقع ذلك يوم تخرج دورتنا/40 في كلية الأركان والقيادة عام (1974)… فبعد تسلّمنا -نحن الخريجين العشرة الأوائل على الدورة- شهاداتنا من بين يدي “الفريق صدام حسين” نائب رئيس مجلس قيادة الثورة أوانئذٍ، فقد سلّمَنا السيد رئيس أركان الجيش “الفريق شنشل” هدايا رمزية بسيطة وفقاً لتسلسل الناجحين الأوائل.
الفريق “شنشل” في عمليات الشمال (1974-1975)
تكرر لقاءاتي معه كثيراً بعدما أمسيتُ بمنصب “ضابط ركن الحركات بمقر لواء المشاة الآلي/8” -الذي كان التشكيل المدرع الوحيد المشارك بهذه العمليات من دون ألوية الفرقة المدرعة/3- وبالأخص في حرب الشمال الضروس التي دارت رحاها الأعظم على محور “أربيل- شقلاوة- حرير- سبيلك- خليفان”، وفك الحصار المفروض على “جحفل لواء المشاة/20” في جبل “نواخين”، وإجتيازنا لـ”مضيق كلي علي بك” المنيع وصولاً إلى المعارك الأسخن في “حوض ديانا- راوندوز” وجبل “كرو عمر آغا” المسمّى عسكرياً بـ”ظهر السمكة”، قبل تسلّق لواء المشاة الجبلي/5 “جبل زوزك”، ولواء المشاة/23 لـ”جبل تاتان”، حتى توقفنا عن التقدم بدءاً من (1/11/1974) -بأمر القائد العام للقوات المسلّحة ووزير الدفاع “المهيب أحمد حسن البكر- لهطول الثلوج وصعوبة الحركة في هذه المناطق الهائلة المغطاة بها، حيث تعرضنا لعمليات قصف هائل بالعشرات من المدافع الإيرانية التي إتخذت مواضع لها بالقرب من مقر “ملاّ مصطفى بارزاني” في بلدة “كلالة” الحصينة، حيث كانت القنابل الثقيلة والمتوسطة الإيرانية تنهمر على قطعاتنا في تلك المناطق بواقع المئات وبمعدلات يومية، حتى بيّنت الإحصائيات الرسمية أننا كنا نضحي بـ(600) جندي وضابط في غضون الشهر الواحد طيلة الأشهر الأربعة العجاف (ت2/1974-شباط/1975) من دون أن تتطرّق أية وسيلة إعلامية عراقية أو أجنبية إلى مجرد ذكر خبر ولو عن معركة واحدة.
ورغم التوقف الذي حصل، فقد كان السيد ر.أ.ج “الفريق أول شنشل” يحضر لتفقّدنا في قواطع فرقة المشاة/8 وبمعدل كل أسبوعين على أقلّ تقدير للإطمئنان على أوضاع القطعات والمعنويات حتى يبلغ الخطوط القصوى لإنتشار جنودنا، مع التشديد على آمري (قادة) التشكيلات وكتائب المدفعية بضرورة الإقتصاد بقنابل مدفعيتنا لمعاناة “العراق” في إستيراده من “الإتحاد السوفييتي” الذي علّق تعاونه العسكري في هذا الشأن نصرة للأكراد فور المباشرة بالعمليات القتالية في (نيسان/1974).
أما الذي جعلني أجلس إلى جانبه للمرة الأولى في حياتي العسكرية ولمرات عديدة وأيام متلاحقات، فقد حدث في مطلع (آذار/1975) لـمّا غدونا متهيئين للمباشرة بتقدم سريع بـ(5) جحافل ألوية متنوعة تقتحم تلك البقاع الجبلية الوعرة للغاية إبتغاء الوصول إلى بلدة “كلاله” حيث مقر “ملاّ مصطفى بارزاني” قبل بلوغ بلدة “حاج عمران” لمسك الحدود العراقية-الإيرانية.
ولـمّا كان جحفل لوائنا الآلي بأفواجه الثلاثة المجهزة بأكثر من (200) عجلة قتال مدرعة و(48) دبابة، قبل أن يلتحق بإمرتنا الفوجان الأول والرابع من القوات الخاصة، مكلّفين بإقتحام الوادي الفاصل بين جبلَي “زوزك-تاتان” وجبل “سر حسن بك”، وهو المهمّة الأعظم ضمن الخطة العامة، فإن “الفريق شنشل” بشخصه -وبصحبته كل من قائد قوة الميدان”الفريق سعيد حمّو التلعفري” و”اللواء الركن إسماعيل تايه النعيمي” معاون ر.أ.ج للعمليات- ظلّوا منذ صبيحة يوم (7/3/1975) ملازمين لمقر لوائنا طيلة ساعات النهار لأسبوع كامل، حيث كان السيد “شنشل” يشرف على المعارك الدائرة من مرصد أمامي خطر للغاية، ولا يتركوننا حتى يحلّ المساء مغادريننا بطائرة سمتية صغيرة أتوا بها إلينا منذ الصباح الباكر، إذْ كان لوجودهم بين ظهرانَي الجنود وصغار الضباط وكبارهم أبلغ الأثر في الإندفاع بمعنويات هائلة، ناهيك عن قرارات فورية لحلّ المعضلات وتدارك المواقف الصعبة.
مع الفريق “شنشل” في وزارة الدفاع
وقتما ترفّعتُ لرتبة “مقدم ركن” فقد شغلت منصب “ضابط ركن الإسكان” لدى “شعبة إعداد الدولة للحرب” بمديرية الحركات العسكرية/دائرة العمليات (1977-1978) المرتبطة برئاسة أركان الجيش، فقد كان ((الموعد المُحَدّد الأوحد)) -الذي أعرف توقيته الأسبوعي مُسْبَقاً وأستحضر له- هو تمام الساعة (10,30) من كلّ يوم أربعاء لكل أسبوع مع شخص السيد رئيس أركان الجيش “الفريق شنشل” بمفرده، ولمدة يجب أنْ لا تتجاوز نصف ساعة، فأعرض أمام أنظاره خرائط مُؤشّرة عليها تفاصيل المواقع ذات الشأن، ومُرْفِقاً بها مطالعات تفصيليّة عن جميع التجاوزات الفعليّة أو المُحتَمَلَة على القرارات الصادرة من أعلى المراجع بالدولة العراقية، مع وجوب عرض أكثر من مقترح واحد أمام ناظريه لكل حالة بغية تفادي إشكالاتها وذيولها، إذْ كان سيادته مُؤمِناً أنْ يستدعي ضابط الركن المُختَصّ ليستوضح الأمور بشكل مباشر وليس عن طريق مديري الدوائر وكبار القادة الأقدمين المرتبطين به في وزارة الدفاع، كون الضابط المختص ذا إطلاع أفضل من رؤسائه في دقائق أموره وأعماله وواجباته اليومية، فيما كان على سيادته أنْ يُقَرّر:-
إمّا غضّ الطَرف عن بعضها.
أو إتّخاذ إجراءات معيّنة والدخول في مكاتبات مع الوزارات والأطراف ذات العلاقة.
أو تشكيل لجان مشتركة بحقها يشترك فيها آخرون.
أو الخوض في مناقشات إضافيّة مع شخصيات أخرى بصدد أُخْرَيات.
أو رفض عدد منها بشكل مُطلق.
كان “شنشل” الشخص الوحيد المُخَوّل بصلاحيّات واسعة في هذه المضامير، مُدَقِّقاً -بشكل مُزعج- في كلّ صغيرة وكبيرة ومن دون إكتراث حيال أي ضابط يقف أمامه أو إلى جنبه لعشرات الدقائق، فلا يدعوه للجلوس إلاّ نشازاً أو إستثناءً، ولا يُبدي أيّ تقدير أو حتى مجرد إبتسامة رضى لما بذله هذا الضابط من جهد في تهيئة خرائط وشفافات مُتقنة وأشّرها وأعدّ مطالعات ومقترحات قبل عرضها أما سيادته… لقد كان يضع حاجزاً ليس حيال ضباط الركن من ذوي الرتب والمناصب المتوسطة، بل وحتى بينه وبين معاونيه ومرؤوسيه ومديري دوائر الوزارة.
ذاكرة وقابلية بدنية يُحسّد عليهما
تمتع السيد الفريق بقابلية بدنية عالية على العمل ربما لـ(18) ساعة باليوم -إن إستوجب الأمر- من دون كلل أو ملل، مصحوبة بذهنية مُفْرَطة وذاكرة يُحْسَد عليها، لم نستغربها من ضابط كفء ومتدرج بشكل مثالي في الرتب ومناصب الركن والقيادة في أوقات السلم والحرب، ومُدرّساً في كلّية الأركان وآمراً (عميداً) لها عام (1963)، فقد كنتُ أتلمّس لديه بعد أنقضاء أسبوع كامل على مقابلتي المُنْصَرِمَة معه، وعلى الرغم من مشاغله الهائلة والخطيرة وبريده اليوميّ وإلتزاماته وإجتماعاته ومقابلاته ومهاتفاته ومتابعاته وتعاملاته مع المطالبات والمتطلبات، أن كان يُذَكّرني بصغائر الأمور ويستفسر بدقة متناهية عن تفاصيل ما كَلَّفَني به يوم الأربعاء الماضي قبل أنْ أبدأ بالحديث عمّا تهيّاْتُ له خلال أسبوع لعرضه، وما أنْ يجد أمراً شائكاً خارج صلاحيّاته فإنه يبعثني ليحددوا لي موعداً لأعرضها أمام أنظار “المَهيب أحمد حسن البكر” الذي كان شاغلاً لمنصب وزير الدفاع طيلة أربع سنوات (1973-1977) إضافة لمناصبه العديدة الأخريات، ولكن هذا الإستثناء لم يحدث سوى (3) مرّات في غضون تلك الفترة التي قضيتُها بهذا المنصب.
تدرجه المثالي في الرتب والمناصب
حسب متابعاتي للبعض من السير الشخصية للقادة العسكريين العراقيين والأجانب في القرن/20، فلا أعتقد أن أحدهم قد تدرّج كالذي حصل للسيد “الفريق شنشل”، بدءاً من طالب بالدورة/18 في الكلية العسكرية، فضابط مدفعي شاب شارك بإخماد الحركة المسلّحة في “قاطع بارزان” عام (1945)، ثم في “حرب فلسطين” (1948) قبل أن يُقبَلَ تلميذاً برتبة “رئيس/نقيب” بدورة الأركان/15، فضابط ركن بمقرات ألوية، ومعلماً ثم معلّماً أقدم لدى كلية الأركان والقيادة، فآمر فوج مشاة جبلي، ثم آمر لواء مشاة جبلي، ثم رئيس أركان فرقة، فقائد فرقة، ثم قائد قوة الميدان (بمستوى فيلق)، فمعاون حربي (عمليات) لرئيس أركان الجيش، قبل أن يتوّج كل تلك الخدمة رئيساً لأركان الجيش لـ(14) سنة متتالية، هذا المنصب الرفيع الذي يتمناه أي ضابط.
وعوضاً عن تمتعه بالبعض من الراحة مع عائلته من بعد ذلك العناء عام (1984)، فإن القيادة السياسية العراقية لم تشأ الإستغناء عنه، فأضحى “وزيراً للدولة للشؤون العسكرية” يعرض كامل خبرته الطويلة أمامها بكل أمانة وإخلاص ونكران ذات، قبل أن يُكلّف ليغدو “وزيراً للدفاع” بعد مصرع سلفه “الفريق أول الركن عدنان خيرالله” يوم (4/5/1989) بحادث الطائرة الذي تحوم حوله الشكوك والظنون، قبل أن يعود عام (1990) إلى وزارته السابقة ليضيف إليها (13) سنة أخرى فيغدو مجموع ما قضاه مرتدياً قيافاته العسكرية المتنوعة ما يزيد على (64) سنة متواصلة من دون إنقطاع يُذكَر.
تصرفاته غير الإيجابية
الكمال لله -سبحانه- لوحده، فلا إنسان متكامل طيلة حياته، لذا سأسرد البعض من سلبياته التي تعدّ بسيطة إذا ما قارنّاها حيال إيجابياته… فقد كانت من ملحوظاتي الرئيسة حيال السيّد “الفريق شنشل” -من تلك التي قد يُحْرَج بها ضابط الركن المرؤوس كثيراً، ولربما تستجلب عليه البعض من المعاضل- هي تبليغه شِفاهاً بقرارات ذات خطورة وأهمّية تخصّ قضايا مستقبليّة ذات حساسية عالية مع دول الجوار ورئاسة الدولة ومجلس الوزراء وعدد من الوزارات ذات العلاقة، فالسيد “شنشل” لم يكن يوضّح على الأوراق أو يُثَبِّت قراراته بهامش على ما يعرضه كبار القادة ومديري دوائر الوزارة وضباط الركن بين يديه، في حين كان يتمنّى أنْ ينتهي أيّ من الأعمال التي بمخيّلته خلال ساعة واحدة فقط في شأن قد يتطلّب يوماً كاملاً أو أياماً.
وقد عانيتُ من ذلك مراراً وفي مواقف عديدة، ففي أوائل (حزيران-يونيو/1977) -مثلاً- طلبني بمكتبه في آخر الدقائق من الدوام الرسمي، وبحضور معاونه السيد “الفريق الركن عبدالجبار عبدالرحيم الأَسَدِيّ” ليبلّغني بالتوجّه فوراً إلى معسكر “أبي غُرَيْب” لأستطلع موقعاً مُلائماً لمقر قيادة الفرقة المدرّعة/9 التي صدر أمر تشكيلها ظهيرة ذلك اليوم، وقد دَلَّني على الخريطة المُفَصّلة نحو الأماكن الصالحة -حسب رأيه- على أنْ أعرض أمامه بالساعة السادسة مساءً من اليوم نفسه تقريراً متكاملاً عمّا سأتوصّل إليه، وأيّ المواقع أفضل من سواها… وحتى لمّا تدخّل “الفريق الأسدي” لصالحي مُذَكّراً سيادته بأن القضيّة ليست عاجلة لتلك الدرجة التي يتطلّب إنجازها اليوم وبهذه السرعة ولاسيّما أن ليس أمامي سوى (3) ساعات، فردّ عليه الفريق “شنشل”:- ((حسناً، ثمّ ماذا؟؟ ألا تكفي ثلاث ساعات؟؟)).
وبعد أن تعرضتُ لحادث سيارة عسكرية بمهمة رسمية وأُصِبتُ بكسر في عمودي الفقري، وحالما إنقضت إجازتي المرضية وتسنّمتُ منصب “ضابط ركن القضايا الحدودية” ضمن الدائرة نفسها، فقد طلبني السيد ر.أ.ج بمكتبه ليبلّغني أن لا أُباشر في منصبي الجديد إلاّ بعد إنجاز مهمة ستطال شهراً كاملاً، وهي زيارة المئات من المخافر الحدودية القائمة حوالَي كل حدود العراق مع (ست) دول جارة بإستخدام سيارة عسكرية ذات دفع رباعي مع طائرة سمتية (هليكوبتر) تكون بإمرتي لزيارة المخافر التي لا تستطيع تلك السيارة من بلوغها لوعورة المنطقة، شريطة وضع تقرير موسّع ومتكامل أمام أنظاره -في اليوم الحادي والثلاثين- عن كل مخفر على حدة بسلبياته ونقاط ضعفه إلى جانب إيجابياته ومكامن قوته… ومن الطبيعي كعسكري ملتزم أن لا أذكّر سيادته أني في فترة نقاهة ولم أتماثل للشفاء التام.
ولكن تلك المهمة -التي عانيتُ فيها الأمَرَّين من الأوجاع- فإنها إستهوتني كثيراً، فلا ضابط ركن سبقني ولا أعقبني في هذا المنصب قد كُلِّفَ بمثلها في تلك الدائرة الحساسة، كونها أتاحت لي الإطلاع عن كثب على مئات الأمور الغريبة والخطرة وغير المستساغة وسط تلك البقاع التي تحتضن تلكم المخافر في مناطق نائية تنعدم فيها الحياة البشرية السوية، وتمتلئ بالضواري المفترسة والأفاعي والعقارب والحشرات الضارة والجرابيع والضباء -ناهيك عن عصابات التهريب بين الدول ومجاميع المافيات البدوية المسلّحة والمتصارعة فيما بينها أو المتوائمة- بما لا يتصوّره أحد سوى أولئك الذين كُتِبَ عليهم العيش الشاق في أوساطها لإستحصال رواتب بسيطة يُسيّرون بها حياتهم وأفراد عوائلهم.
ومن بين سلبيات السيد “شنشل” والتي أُشتُهِرَ بها ودار من ورائه لغط بحقه، أنه كان يعتبر كل أمر أو توجيه صادر سواء من المكتب العسكري لحزب البعث أو مجلس قيادة الثورة أو ديوان رئاسة الجمهورية أو رئاسة مجلس الوزراء أمراً مسلّماً به لا جدال ولا نقاش ولا إعتراض عليه، بل واجب التنفيذ حتى إن كان ضمن الصلاحيات القانونية وأوامر الجيش المخولة لمنصب رئيس أركان الجيش.
هل كان بعثياً؟؟؟
قد لا يصدّقني العديد من القراء الكرام إذا ما زعمتُ أن “الفريق شنشل” لم ينتَمِ لحزب البعث الحاكم برغبته رغم قيادته جيشاً وُصِفَ كونه ((عقائدياً)).
وقد علمتُ من أقرب الأصدقاء الذين عملوا بمكتبه أو قريبين، أن “قيادة قطر العراق لحزب البعث أصدر قراراً منذ عام (1974) بمنح “الفريق شنشل” درجة (عضو) في الحزب… ولكنه أوضح لصديقه “المهيب أحمد حسن البكر” -الذي يسبقه بدورة واحدة فقط في الكلية العسكرية- أنه لا يتقبّل أن يكون تحت إمرة أي شخص يسمّى بـ”المسؤول الحزبي” ما دام هو على قمة هرم الجيش والقوات المسلّحة… ويبدو أن “الرئيس البكر” قد تفهّم ما طرحه “الفريق شنشل” وغضّ الطرف عن الموضوع مُعتبِراً عضويته المقررة في الحزب ((شرَفياً)) لا أكثر.
ولكنه عُرِفَ بكونه ذا حذر ودقة في تعامله مع “المكتب العسكري لحزب البعث” الذي تمتع بصلاحيات شبه مطلقة على الجيش والقوات المسلّحة بشكل لا يُقاوَم، رغم كون أعضائه ليس ((تلاميذ- تلاميذ)) “الفريق شنشل” فحسب، بل أن عدداً من المتنفذين في شؤونه وإدارته كانوا -يوم إستحواذ حزب البعث على السلطة في (17/تموز/1968)- إما “نواب ضباط” أو “ضباط صف” أو ضباطاً برتب صغيرة للغاية، وقد ظلّت سطوة أعضاء المكتب العسكري خلال عموم عقد السبعينيات هائلة حتى تبوّأ “عدنان خيرالله” منصب وزير الدفاع ونائب القائد العام للقوات المسلّحة ومُنِحَ رتبة “فريق أول ركن” وفقاً لمرسوم جمهوري قضى أن يُعتبَر أقدم من “الفريق أول شنشل”، فإستطاع “عدنان” -بقوة شخصيته وكونه عضواً لدى القيادة القطرية للحزب، ناهيك عن الدعم اللامتناهي له جراء القرابة مع إبن خاله وقرين أخته “صدام حسين”، ووالد زوجته “أحمد حسن البكر”- الحدّ كثيراً من سطوة ذلك المكتب وسحب الكثير من صلاحياته وإدراجها ضمن صلاحياته الوزارية.
عدم إيمانه بالحمايات
كان “الفريق شنشل” شجاعاً لا يؤمن بإحاطة نفسه بهالة من الحمايات والمسلّحين، فما عدا حضيرة مؤلفة من (10) جنود يحرسون مسكنه فإنه كان يتنقل منفرداً في “بغداد” والمحافظات بسيارته الرسمية وبصحبته مرافقه العسكري المخضرم “اللواء أكرم شاكر محمود الراوي” الذي عُرِفَ بالتواضع والأخلاق السامية ومراضاة الجميع من دون تكبّر، وبسيارته الشخصية يقودها لوحده ما بعد الدوام الرسمي أو أيام العُطَل، فيما يمتطي سيارة “لاندكروزر” ذات الدفع الرباعي ((غير مصفحة)) لدى تجواله بميادين القتال في شمالي الوطن وقواطع العمليات أثناء الحرب مع “إيران”.
إشرافه على “موسوعة العسكرية العراقية”
وحتى بعد إنقضاء بـ(12) سنة على إحالتي على التقاعد برتبة “عميد ركن”، وحصولي على شهادة الدكتوراه في التأريخ منذ عام (1995)، فقد شاء القدر أن أعمل للمرة الأخيرة تحت إمرة “الفريق شنشل” وقريباً منه، وقتما كُلّفتُ خلال عام (2000) وسط (4) ضباط ركن متقاعدين من أصحاب شهادات “الدكتوراه” إلى جانب (16) أستاذاً جامعياً لخوض بحوث عديدة عن تأريخ العراق العسكري وجيشه وقواته المسلحة ومؤسساته التعليمية والتدريبية لغرض إعداد مجلّد خاص موسوم بـ”تأريخ العسكرية العراقية” تحت إشراف “الفريق أول الركن عبدالجبار خليل شنشل” وزير الدولة للشؤون العسكرية في حينه، والذي أناط لي مهمة إعداد (13) بحثاً عن المؤسسات العسكرية العليا وقوانين الجيش العراقي ومحاكمه وإسكانه وأرزاقه وقيافاته الرسمية.
ولكن مجهودي الضخم المكوّن من (444) صفحة بخط يدي -والذي قدّمته بعد (6) أشهر من بدء العمل- بين يدي معالي الوزير، وقد أمر بإيراده رسمياً في سجل خاص لدى “هيأة التأريخ العسكري” بوزارة الدفاع أواسط عام (2001)- قد صُودِرَ مني -في الخفاء- وطُبِعَ بإسم أحد كبار الضباط وسط مجلّد ضخم… ولكن “الفريق شنشل” لم يحرّك ساكناً للدفاع عني وإسترداد حقوقي.
ويزعم ذلك ((الضابط الكبير)) مؤخراً أن “ديوان رئاسة الجمهورية” هو من حذف إسمي من بين (20) باحثاً لكوني ((طورانياً- أي تركمانياً))!!!
وبينما لا أصدّق هذا الزعم ولو 1….% لإنعدام معقوليته ومنطقيته، فإن نسخاً من “موسوعة العسكرية العراقية” أُهدِيَت -حسب علمي- إلى الدائرة العسكرية التابعة لجامعة الدول العربية (ومقرها في “تونس”) قبل أشهر معدودات من غزو “العراق” وإحتلاله في (نيسان/2003)، فضاعت مني جهودي من الناحتين المعنوية قبل المادية قبل أن يضيع “العراق” برمّته.
مختصر صفات “الفريق شنشل”
الحقّ يجب أن يُقال، فالسيد الفريق “عبدالجبار خليل شنشل” بإختصار، كان:-((مُحتَرِفاً، مِهنياً، عِلمياً، حاذقاً، دقيقاً، جِدّياً، صارماً، لا يكلّ من العمل ولا يملّ، مُربّياً، مُوجِّهاً، مُعلّماً، مُدرِّباً، ناصِحاً، مُرشِداً، مُقدِّساً للمواعيد والمواقيت، صاحب قرار لا يتراجع عنه، لا يتَقبَّل نَقداً أو تصحيحاً أو مناقشة من مرؤوسيه، مُنَفِّذاً لتوجيهات القيادة السياسية بحذافيرها ومن دون إبداء أي إعتراض وحتى مجرد رأي إلاّ حين يطلب ذلك، لا يؤجّل عمل اليوم ليس إلى غدٍ بل لا يُرجئه حتى لبعد ساعة، مُرهِقاً لمرؤوسيه ومن بمعيته بطلباته وأوامره وتوجيهاته، غير مُستَهضِم للأعذار والذرائع، حريصاً على أموال الدولة والموازنة المخصصة للقوات المسلّحة إلى درجة ما يوصف بـ”البخل”)).
وقبل ذلك وبعده كنت قد تقابلت مع سيادته عشرات المرات في مناسبات مختلفة، سواء حين عملي في شمالي العراق (1966-1967)، أو على الجبهتين الأردنية والسورية مع “إسرائيل” (1967-1971)، أو في عمليات الشمال مرة أخرى (1974-1975)، وفي غضون الحرب العراقية-الإيرانية، فالرجل لم يكن قابعاً في مكتبه وبين الدوائر العليا المرتبطة به، بل ظل طوال ترؤسه لأركان الجيش لعقد ونصف من الزمان قريباً من مواقع التشكيلات الميدانية في تلكم البقاع الشاسعة التي ينتشر فيها الجيش العراقي محاولاً الإطلاع عن كثب على إمكانات الوحدات القتالية ومعنويات منتسبيها وإستحكاماتها وإستحضاراتها للعمليات القائمة أو المزمع إجراؤها، مستهضماً ذلك من أفواه صغار الضباط وعيون المراتب وليس من شخوص القادة والآمرين فحسب، فلا أستذكر أن إنقضى شهران بين زيارة للفريق “شنشل”ولاحقاتها للوحدات والتشكيلات والقيادات والمقرات التي عملتُ فيها طيلة ما يقارب (3) عقود من خدمتي العسكرية، فقد كنا جميعاً نراه بين ظهرانينا في المقرات والقيادات المنفتحة في ميادين المعارك بقامته المهيبة وجسده الممتلئ، ليس عن بعد فحسب، بل نتلمّسه في أوساطنا وعلى مقربة منا وسط أحلك الظروف وأصعب المواقف وأسخن المعارك ضراوة، حيث يتعمد الوصول بشخصه لغاية أقصى ما يمكن في الأمام ليس بطائرة سمتية أو سيارة مصفحة بل حتى بسيارة جيب إعتيادية أو حتى سيراً على قدميه، معرّضاً ذاته -ومن بصحبته- لمخاطر ومصاعب ليُعاين الموقف القائم بأم عينيه قبل أن يقدم على إتخاذ قرارات صعبة وحاسمة وحازمة بعد تفكير وتقدير موقف آني ولكنه معمّق، إذْ لا يتراجع عنها قيد أنملة وبشكل مطلق حال إتخاذها… فقد كان “شنشل” قائداً هصوراً وصاحب قرار يهابه الجميع من دون إستثناء ويسيرون خلفه وينفذون توجيهاته عن إحترام وقناعة وثقة وإيمان.
كان آخر لقاءين مع سيادته وقتما زرته مرتين بمسكن إبن عمّه وصهره الأستاذ “ضياء شنشل” في “عَمّان”، حالما علمتُ بإصابته بجلطة دماغية أقعدته في الفراش وحرمته من النطق بكلمات واضحة، فلم أتمالك مشاعري فإنهمرت دموعي أسفاً على هكذا بطل يرقد في فراش خارج وطنه رغم نيله أرفع الرتب وتبوّئه أعلى المناصب، واللذان يعدّان تاجاً يوضع فوق رأس أي ضابط يحلم بهما في كل جيوش العالم، عدا جيشنا.
فوداعاً يا قائدنا القدير ورئيس أركان جيشنا العريق “الفريق أول الركن عبدالجبار خليل شنشل”، ومن العليّ المقتدر والواحد الأحد على روحك الطاهرة المعطاء مليون مليون رحمة، داعين -جلّ في علاه- أن يغفر لك ويسكنك فردوس جناته.