بالتفاتة لها من الإيجابيات النصيب الأكبر، دأبت القنوات الفضائية المحلية على عرض حالات لعوائل عراقية تعيش وضعا معيشيا مزريا، حيث الفقر المدقع يحيقها ويحيط بها من كل جانب، وهو أمر مؤلم كونه يحدث في بلد يعوم على بحر من النفط. وقد تفاعل العراقيون مع حالات كهذه قبل أن تعرضها شاشات التلفاز، إذ ما من حي وزقاق في مدن العراق، إلا وفيه عشرات العوائل ذات الدخل المتدني دون حد الكفاف بكثير. الأمر الذي كان سببا بانفجار صبر العراقيين وخروجهم عن نطاق التحمل، وهو أمر متوقع بما لايقبل الشك، لاسيما بعد أن طفح الكيل بالمواطن المسكين، من جراء مايراه ويعيشه من سلب لحقوقه، وغبن لحقوقه وغمط لمستحقاته في بلده. فبعد عقود الجور والقمع والبطش.. والحروب والحصار والحزب الواحد والقائد الدكتاتوري الأوحد، التي كانت بمجملها سببا في شظف العيش الذي يمر به المواطن، حل عليه عام 2003 فكان به -على ما ظن وتوقع- الخلاص من تلك السنين، إلا أن كابوس الدكتاتورية قد استبدل بشبح الاحتلال، وأعقبه دستور أعرج، وحكام كسيحون، وأحزاب معوقة لاتكاد تزحف إلا على بطونها في سبيل جيوبها، فانقلب ذاك العام من عام سعد الى بداية ماراثون زاخر بالهموم والمآسي والفظائع، ومع هذا وذاك وبتحصيل حاصل، فقد أنعم علينا العم سام بتخليصنا من ذاك الكابوس.
اليوم بعد مضي أربعة عشر عاما على انقشاع الكابوس، كذلك انقشاع النظام بحزبه الدموي النازي، وأزلامه ومجرميه وأدوات إجرامهم، من المفترض أن يلمس المواطن انفراجا في كل تفاصيل حياته، ويشهد البلد الذي كان يئن تحت نير الدكتاتور وسياط حزبه الفاشي، انبثاق فجر جديد لحياة مشرقة بعيدا عن الاضطهاد والتمييز، لاسيما وقد تغير الحزب والقيادة والوجوه، كذلك تغير لدينا نمط الحياة السياسية، حيث يشير المواطن الى الشخص المناسب بسبابته البنفسجية، لينتخبه ويضعه في المنصب المناسب. لكن واقع الحال عكس غير ماكان مؤمل، فتلاشت الآمال بعين المواطن شيئا فشيئا على مر السنين العجاف سنة تلو أخرى، بعد أن اتضح له زيف الشعارات التي رفعها أشخاص، رفعهم بدوره الى مناصب مرموقة وسلمهم وكالة (عامة مطلقة) بحاضره ومستقبله وثروات بلده، فكان الخذلان حصيلة ماحصده في تجارب انتخابية ثلاث، مضت من عمره وعمر العراق، فقد أساء فيها اختيار المكان المناسب بوضع علامة صح، فكان اختياره غير ملائم بتاتا من حيث يشعر او لايشعر، إذ خذلته مصداقية المرشحين الذين جاهد في انتقائهم، رغم تغييره شيئا من المواصفات التي وضعها على مقاساتهم، وهو اختبار ومحك لهم، يتبين فيه معدنهم ان كان خالصا او صدئا، فكان الأخير بجدارة واستحقاق عاليين.
وما زال دأب المنتخبين خذلان ناخبيهم ما استطاعوا، من خلال منصبهم ومكانتهم في سلم الوظيفة والمسؤولية، وهذا ديدن رؤساء الكتل وزعماء الأحزاب، في مسيرة المليون ميل في العملية السياسية، والتي لاندري متى تبدأ الخطوة الأولى فيها بالاتجاه الصحيح، إذ ان الأعوام الأربعة عشر غير كافية على مابدا لتصويب الخطى وتسديد الرؤى، حيث بات مانراه من تقدم في المسير بضع خطوات، يعقبه تقهقر فيها وفي اتجاهها أضعافا مضاعفة، حتى بلغ ما يلده رحم ساستنا من خروقات بحق الوطنية والمهنية فضلا عن الإنسانية والأخلاقية، حدا يصعب معه الترقيع والتصحيح والتصليح. ولعلي أصيب إن شبهت حال ساستنا في تسببهم بتدني الوضع المعاشي للعراقيين، ومحاولاتهم البائسة في إيجاد حلول بمثلنا الدارج: (الشگ چبير والرگعة صغيرة) وما عرضته قنواتنا التلفازية خلال الأعوام الماضية، من حالات تعكس مستوى الفقر والبؤس لعوائل عراقية، سيقابله في السنوات المقبلة عرض أضعاف كثيرة دون انقطاع، ودون فواصل.