يبدو للوهلة الاولى انهما ( ماياكوفسكي وتشيخوف) بعيدان جدا عن بعضهما , وبالتالي , فان الكتابة عنهما معا غير واردة في اطار الخطوط الاساسية لعلم الادب المقارن , فماياكوفسكي ولد عام 1893 , عندما كان تشيخوف في قمّة مجده الادبي , وتوفي تشيخوف عام 1904 , عندمت كان عمر ماياكوفسكي (11) سنة , ورغم انهما عاشا معا في روسيا القيصرية احدى عشر سنة مشتركة , الا ان العصر الذي تألّق فيه ماياكوفسكي ( وهو بداية القرن العشرين ) يختلف جذريا وكليّا عن العصر الذي تألّق فيه تشيخوف ( وهو نهاية القرن التاسع عشر ) , وباختصار, فان الصورة الفنيّة المتكاملة لماياكوفسكي قبل كل شئ في وعينا تقول , انه كاتب ثوري مندفع و بحماس هائل في مسيرته الابداعية , أما الكاتب تشيخوف , فانه بعيد جدا جدا عن اي ثورة وعن اي اندفاع و عن اي حماس .لكنني اكتشفت صدفة ( اثناء اطلاعي الدائم على مصادر الادب الروسي ) , ان ماياكوفسكي – مع ذلك – قال عنه مرة , ان تشيخوف – (…واحد من سلالة ملوك الكلمة …) , وهذا موقف واضح المعالم جدا للكاتب ماياكوفسكي تجاه ( صاحب الجلالة !) الكاتب تشيخوف , وهذه الكلمة , او هذا الموقف الصريح والواضح بتعبير ادق , هو الذي جعلني افكّر بالكتابة حول ماياكوفسكي وتشيخوف معا في مسيرة الادب الروسي رغم كل هذا التباعد الفكري والتباين الواضح في المفاهيم بينهما ( بما فيها القضية المركزية , وهي – عن دور الادب والفن في الحياة ) , اذ اني اعتقدت جازما , ان هذا الموقف الصريح والواضح لماياكوفسكي تجاه ( صاحب الجلالة !) تشيخوف لم يأت من فراغ حتما , وهكذا بدأت فكرة هذه المقالة عن ماياكوفسكي و تشيخوف معا.
حاولت قبل كل شئ ان أجد المصدر لكلمة ماياكوفسكي عن تشيخوف , ووجدت تلك الكلمة فعلا في مقالة كتبها ماياكوفسكي ونشرها عام 1914 بعنوان – (تشيخوفان ) في مجلة ( الحياة الجديدة ) الروسية بمناسبة الذكرى العاشرة لوفاة تشيخوف . لم يكن ماياكوفسكي آنذاك شهيرا جدا في الاوساط الادبية الروسية ( ظهر اسمه في النشر لاول مرة عام 1912 فقط ليس الا , وصدر ديوانه الاول بعنوان (أنا) عام 1913 ) , ولكن تلك المقالة كانت تحمل كل سمات ماياكوفسكي , التي ستتبلور بعدئذ , وقد أشارت مجلة ( الحياة الجديدة) الى انها لا تتفق مع بعض طروحات هذه المقالة , رغم انها تنشرها باكملها على صفحاتها . مقالة ماياكوفسكي عن تشيخوف ليست قصيرة , وشغلت في المجلة حيّزا كبيرا , وكذلك في المؤلفات الكاملة له ( المؤلفات الكاملة في 13 مجلّدا / موسكو 1958 – 1961) . مقالة ماياكوفسكي عن تشيخوف فريدة في تراث ماياكوفسكي , اذ اننا لا نجد عنده مقالات مشابهة لها عن ادباء روس كبار آخرين من السابقين او المعاصرين له, رغم ان علاقات ماياكوفسكي بهم كانت واسعة جدا , اذ ان افكاره عنهم انعكست في قصائده او رسائله او في أقواله للمحيطين به , والذين كتبوا ذكرياتهم عنه, اي انه لم يكتب مقالات محددة عن الادباء الآخرين مثل تلك المقالة عن تشيخوف ( انظر مقالتينا , مثلا, بعنوان – ماياكوفسكي وبوشكين , و , ماياكوفسكي وغوركي).
تبدأ المقالة بشكل غير اعتيادي جدا , اذ يكتب ماياكوفسكي رأسا وبهذا الترتيب للكلمات بالضبط , واقدمها للقارئ حسب الترجمة الحرفية قلبا وقالبا , وكما جاءت عند ماياكوفسكي –
(طبعا , ستنزعجون , اذا سأقول –
– انتم لا تعرفون تشيخوف !
– تشيخوف؟)
وهكذا تسير بنية المقالة وكأنها قصيدة من قصائد ماياكوفسكي , قصائده التي تثير القارئ رأسا , او بتعبير أدق , تستفزّ هذا القارئ رأسا , اذ ان ماياكوفسكي هنا يستفز القّارئ فعلا في مقالته عن تشيخوف منذ السطور الاولى , ويصيغ مقالته على شكل حوار مباشر مع هذا القارئ , ويسخر من اجاباته , التي يكرر فيها تعريفه لتشيخوف على انه – نصير المذلين والمهانين , او , مغنّي العتمة والغسق , او , الساخر اللاذع , او..او..او.. , ويصرخ ماياكوفسكي بهؤلاء القراء قائلا لهم – ( …اسمعوا ..اني اريد ان اتكلم عن تشيخوف الآخر …عن تشيخوف الكاتب ..واود ان احييه باعتباره واحدا من سلالة ملوك الكلمة ..)
مقالة ماياكوفسكي عن تشيخوف لا يمكن تلخيصها بعدة كلمات , ولا أدري اذا كانت هذه المقالة مترجمة الى العربية ( شخصيا لم أطلع عليها بالعربية ), ولكني أرى – حسب رأي المتواضع – بضرورة ذلك لانها مهمة جدا. لقد اراد ماياكوفسكي ان يقول فيها , ان تشيخوف اعطانا صيغة جديدة في الادب , صيغة الافكار القصيرة المضغوطة دون استخدام الكلمات الفائضة , ويرى ماياكوفسكي ( وهو على حق ), ان هذه هي صيغة الفن المستقبلي , ولهذا فان تشيخوف من وجهة نظر ماياكوفسكي هو استاذ الكلمة وفنّانها …