20 ديسمبر، 2024 1:02 م

ماهية واشكاليات العلاقة بين العرب والغرب والحضارة والتقدم

ماهية واشكاليات العلاقة بين العرب والغرب والحضارة والتقدم

يعتقد الغرب أن قوة العرب تكمن في عقيدة الدين الإسلامي، تلك هي الإجابة “الشافية” التي توصل إليها الغرب، بعد أن انكبّ على دراسة أسرار تفوق العرب حضاريا ومادياً في غضون قرن من ظهور الإسلام، بعد أن كانوا شعوباً ضعيفة متفرقة، لا تجمعهم وحدة ولا قوة، وبعد أن شكّل انتشار الإسلام “صدمة” فجائية للغرب المسيحي؛ فالعرب أرسلوا “صدمة عفوية” للغرب، في إطار دعوتهم للدين الإسلامي، لكنهم تلقوا “صدمة مقصودة”([2]) من الغرب وفق نهج عسكري وسياسي وثقافي، في غضون مراحل الصراع التاريخي آنفة الذكر.

لقد حاول الغرب ومن خلال الاستعمار الأوروبي المباشر على الشعوب العربية، فرض ثقافته واستعراض تفوقه العلمي والمادي والحضاري على المنطقة، ما شكل “صدمة” فكرية وثقافية لدى الشعوب العربية التي استنجدت في القرنين التاسع عشر والعشرين بمبادئ وقيم الحضارة الغربية الجديدة للخلاص من حالة “الركود” الثقافي والحضاري والعودة إلى سكة النهضة والعمران.

وتمثلت تداعيات الصدمة في ثلاثة تيارات فكرية عربية؛ أولها دعا إلى التغريب لمواكبة التقدم الغربي، وثانيها نادى بالأصالة الإسلامية والعودة إلى ماضي السلف، وثالثها تيار قومي ركّز على الوحدة العربية، بعد سقوط الخلافة العثمانية. وبعد أن استيقظ العرب والمسلمون على عصر ما بعد النهضة في أوروبا، “أخذتهم الحيرة في شأن التعاطي مع الآخر، حيث تراوحت ردود الفعل بين الاعتزال والخصام والتمرد والمقاومة”، فيما حاول توجه معتدل الدعوة إلى “الأصالة والحداثة” في نفس الوقت، أي التمسك بالثوابت الثقافية للإسلام والعرب، والاستفادة من التطور الحضاري المادي للغرب، دون انفصال أو انفصام.

يرى الكثير من الغربيين أن التهديد العربي ازداد قوة نحوهم بسبب ارتباطه بالتطرف الديني، بعد ظهور حركات إسلامية متشددة في المنطقة العربية

والأسئلة المطروحة في هذا الصدد، بعد استعراض تاريخية العلاقة الجدلية بين الطرفين، هل الصراع والنزاع بينهما “صراع حضارات ونزاع ديانات؟ أم صراع مصالح وسياسة تحت غطاء ديني ثقافي؟ أم هو مجرد “سوء تفاهم” تغذيه أيديولوجية ثالثة؟ أم هو صراع “جهالة” أبعد الطرفين عن حوار “الحضارة والثقافة والمنفعة المتبادلة؟!!

إن أية قراءة مستفيضة للجدل القائم على كافة المستويات الثقافية والفكرية بين العرب والغرب، منذ قرن مضى وحتى اليوم، تكشف لنا بما لا يدعُ مجالاً للشك، أن ثمة تيارات فكرية، دينية وثقافية وأكاديمية، وبعض من دوائر صنع القرار، خاصة في الغرب، تحاول أن تصدّر الصراع وتغذيه باستمرار تحت عناوين “الصدام الحضاري والثقافي” و”الخطر الإسلامي على الحضارة الغربية” أو “الخطر الغربي على الحضارة العربية” وإنتاج مفاهيم من نظير “الإرهاب” الأصولية العربية، الإسلام فوبيا، التخلف العربي.. إلخ، أو “الغرب الملحد، الأصولية المسيحية، الحروب الصليبية الجديدة، المؤامرة على العرب والمسلمين ..إلخ”، كله يأتي في إطار نزعة تيارات في (الغرب والعرب) إلى إلغاء الآخر، حيث يرى الكثير من الغربيين في أوروبا والولايات المتحدة، أن التهديد العربي ازداد قوة نحوهم بسبب ارتباطه بالتطرف الديني، بعد ظهور حركات إسلامية متشددة في المنطقة العربية، ترفض بشكل مطلق الوجود الغربي في الأراضي العربية، وأن هذا التطرف هو الذي أنتج أحداث سبتمبر الأمريكية عام 2001م، لكن سرعان ما اتسعت دائرة الخطر الإسلامي تجاه الآخر، من وجهة نظر الغرب، فأصبح الخطر يأتي أيضا من دول عربية وإسلامية (إيران، العراق، أفغانستان).

لقد كان الاتجاه السائد في كافة النقاشات بين العرب والغرب، يشير بوضوح إلى سوء فهم في محاولة معرفة الآخر بشكل متميز، أو معرفة “الأنا” بداية قبل محاورة الآخر؛ فكلاهما يعتقد أنه يفهم الآخر بناء على ما يتوهمه خطراً عليه؛ فالغرب وضع الإسلام برمته في موقع الخطر المباشر على الحضارة الغربية، ونظر إلى الإسلام والمسلمين في قالب مصنوع، سلفاً، اسمه “الإرهاب])

لقد بات العربي أو المسلم في نظرهم “مشروع إرهابي” حتى يثبت العكس، حيث أصبح “الإرهاب” صفة ملاصقة للعرب والمسلمين، ويعتبر بعضهم أن العرب هم مصدر العنف والإرهاب في الشرق الأوسط، حسب استطلاعات رأي تجريها مراكزهم في المنطقة، بنتائج مسبّقة.علما أن أحدث الدراسات العلمية التحليلية والصادرة عن جامعة لويس فيل الأمريكية، والتي درست العلاقة بين الأديان والجرائم البشرية خلال ألفي عام، خرجت بنتائج رقمية مذهلة، احتل فيها الدين المسيحي الرقم الأول وبنسبة (30.7%) من الجرائم البشرية الكبرى، فيما احتل الدين الإسلامي المرتبة السادسة وقبل الأخيرة بنسبة (5%) فقط])

ويرى الغرب أيضاً، أن العرب والمسلمين لا يقدرون على ممارسة الديمقراطية ولا يستحقون حقوق الإنسان، كما في الدول المتمدنة، فيما يعتقد بعض المنظّرين في الغرب أن حقد العرب مرجعه الاستقرار السياسي والتقدم التكنولوجي والاقتصادي وحياة الرفاهية الغربية، وأن العرب والمسلمين وقعوا أسرى ماضيهم، ولم يبذلوا الجهد المطلوب لمواكبة الحداثة والتقدم، ما زادهم نقمة على الغرب.

كما يجد بعض المتشددين لدى الغرب صعوبة في تقبّل وتصنيف الإسلام كعقيدة سماوية كاملة لها رؤيتها المحددة تجاه الحياة والكون، ويصف البعض عقيدة المسلمين بـ”الهرطقة”! ويفعل بعض المتشددين من العرب والمسلمين الشيء ذاته، حيث “يصنفون الإنجيل على أنه كتاب مقدس محرّف، وأن الإسلام هو الدين الصحيح])

ولا مناص من القول، إن الحداثة التي وصلت إليها أوروبا والولايات المتحدة بعد عصور النهضة المعروفة، وصولاً للرأسمالية والليبرالية والعولمة، شكلت لدى الفرد الغربي إطاراً مرجعياً يدور في داخله. ويقول الدكتور عبد الوهاب المسيري في هذا الخصوص: “الحداثة الغربية .. تقدم رؤية مادية ترى العالم باعتباره مادة، وقد عرَّفت هذه الرؤية الهدف من وجود الإنسان في الكون بأنه تعظيم المنفعة واللذة، وعرَّفت التقدم بأنه تصاعد معدلات الإنتاج والاستهلاك، مما ولد شراهة استهلاكية عند الإنسان الغربي ليس لها نظير في التاريخ”.])

ويعتقد المسيري أن الحداثة جعلت العالم في نظر الغرب متجردا من أية قيمة سوى المادة، ومنها ينطلق لتفسير فكرة تمركز الغرب حول ذاته، سواء تجاه العرب أو الحضارات الأخرى، حيث جعل نفسه – أي الغرب – المرجعية النهائية والمعيار الوحيد الذي يحكم على كافة الظواهر والأحداث والحضارات، فنظر إلى الشعوب العربية نظرة “توظيفية استغلاليه”، للاستفادة من ثرواتهم وتسخيرهم لتنفيذ “مشاريعهم الإمبريالية”.

ولا يمكن إنكار حالة التنظير التي قام بها بعض المفكرين الغربيين حيال العالم الآخر، وزادت من ضراوة “نزاع الجهالة” بين الطرفين؛ فالكاتب المعروف وأستاذ جامعة برنستون “برنارد لويس” كان أول من كتب مقالة في مفهوم “صدام الحضارات” عام 1990م، أكد فيها أن القيم الغربية تتعارض مع القيم الإسلامية، ويستحيل التعايش بين الإسلام والغرب، علماً أن لويس مؤرخ ومستشرق متخصص في شؤون الشرق الأوسط، وسبق أن اتهم العرب والمسلمين بأنهم “أبطال روايات” في طوال تاريخهم، وأنهم كانوا دوما في موقف المعتدي على الغرب، وكان الأخير في موقف المدافع عن نفسه ومقدساته!

التيار الأصولي المتشدد في الوطن العربي، يرفض فكرة الحداثة الغربية أو حداثة الإسلام، وما زال ينادي بمفاهيم عفا عليها الزمان

ثم يعيد لويس إنتاج أفكاره بعداءٍ أكبر بعد عام على حادثة سبتمبر الأمريكية، حيث يتهم في كتابه (ما الخطأ؟ 2002م) الإسلام بأنه السبب وراء تخلف المسلمين، وبدل أن يبحث عن الأسباب الكامنة وراء العداء العربي للغرب، بصفته مستشرق ومتخصص في الشرق الأوسط، يمارس سياسته بـ”الشحن العدائي” ضد العرب والمسلمين، حتى نال المسلمون في الغرب نصيباً من هجومه على الإسلام.

وهو ما تصدى له مبكراً المفكر العربي ادوارد سعيد – أمريكي الجنسية فلسطيني الأصل – الذي سبق وأن انتقد في عام 1979م أهداف الاستشراق الاستعمارية في كتابه (الاستشراق 1979) ، وانتقد الظلم الكبير الذي تعرض له العرب والمسلمون في الإعلام الغربي في كتابه (تغطية الإسلام 1981)، لكنه أول وأكثر العرب المناظرين لـ”برنارد لويس”، حيث انتقد سعيد دراسات لويس عن المسلمين والعرب، والتي ، برأي سعيد، لا تمت للعلم والموضوعية بصلة، حتى قال سعيد في إحدى مقالاته : “إن لويس جزء من سلسلة فضائح أكاديمية”، ودار بينهما سلسلة حوارات واتهامات متبادلة، لم تفض إلا “لجدال عبثي” و”صدام ثقافي” داخل “بنية الخطاب العلمي الغربي نفسه]).

أما المفكر “فرانسيس فوكوياما” صاحب فكرة وكتاب (نهاية التاريخ 1992م)) فيدعو الرأسمالية الغربية – بوصفها النموذج التاريخي الأمثل والنهائي لحياة البشر – إلى التخلُّص من أصحاب الأفكار والنظريات الأخرى كالإسلام.

ثم ينشر المفكر صامويل هنتنجتون كتابه (صدام الحضارات 1996م) ، الذي يركز فيه على الخطر القادم من الشرق، خاصة من الحضارتين (الإسلامية والكنفوشية) ويرى أن الأصل في العلاقات بين الحضارات هو الصراع والنزاع.

أما الكاتب الفرنسي المعروف “جون روفان”، فقد ألَّف كتابًا عنوانه (الإمبراطورية الرومانية والبرابرة الجدد 1991م) يعيد فيه صورة الإمبراطورية المسيحية الرومانية الجديدة، والتي تتمثل في الشمال، حيث الحضارة الغربية، ويصّور حضارات الجنوب بـ”البرابرة”، خاصة العرب والمسلمين، ويؤكد الكاتب فكرته مرة أخرى في عام 2015م، حيث يقول: “سيكون على الغرب في نهاية المطاف اختيار عدوه الأول، سعيا لهيكلة الجدلية القائمة ما بين الشمال والجنوب.. يعتبر الإسلام الراديكالي العدو الأمثل. يكفي بعد ذلك أن يتم تأجيج مشاعر العداء للإسلام والمسلمين (الإسلاموفوبيا) حتى ينشأ الصراع])

ويتصوّر العرب، في ردود فعلهم السلبية المبنية على “صراع الجهالة” المضادة، أن الغرب بنموذجه الاستعماري الجديد، يشكل عليهم خطراً ويهدد الإسلام، وما زالت فئة من عامة العرب تصّور الغرب في نموذج “مشوّه” شاذ؛ ونص غريب وثقافة غريبة عصيّة عن القبول لدى العقل العربي!!

 

كما يحاول بعضهم تفسير “سر” العداء العربي للغرب، بالقول إن اللوبي الصهيوني- الأمريكي، هو الذي يحرّض الغرب ضد العرب، وهناك من يرى أن الغرب “لا يزال صليبياً يحاول تحطيم الإسلام وإذلال المسلمين وربما تنصيرهم])!

ولا شكّ أن التيار الأصولي المتشدد في الوطن العربي، يرفض فكرة الحداثة الغربية أو حداثة الإسلام، وما زال ينادي بمفاهيم عفا عليها الزمان (دار الإسلام ودار الكفر)، ويرفع شعار “السلف الصالح منفذ النجدة من الانحطاط ومخرج الطوارئ من التخلّف وسبيل النهضة”، وبيانه المعلوم: “لا يصلح حال الأمة إلاّ بما صلح به أوّلها”، أي “الخلافة الإسلامية”، “ولم يترك السلف للخلف أمرا يخوض فيه” …إلخ من الأفكار المنغلقة على الذات.

فشلت الكثير من الأوساط العربية والغربية، على المستويين، الثقافي العام والفكري الخاص في فهم خصوصية وطبيعة “المشكلة المركّبة” بين العرب والغرب

وترى نسبة لا بأس بها من العرب أن الثقافة الغربية تتعارض مع القيّم العربية والإسلامية، وأن قبول قيم وأفكار الغرب ستقضي لا محالة على الهوية العربية الإسلامية، فيما يروّج البعض لأهداف الغرب السريّة الرامية إلى التبشير بالمسيحية ونشر لغته وثقافته وطمس لغة وثقافة الشعوب العربية المسلمة.

للأسف، إن الكثير من الأوساط العربية، وكذلك الأوساط الغربية، على المستويين، الثقافي العام والفكري الخاص، فشلت في فهم خصوصية وطبيعة “المشكلة المركّبة” بين العرب والغرب، أو بين الإسلام والمسيحية، تجاوزاً، حيث وقعت تلك الأطراف “المتحاورة والمتصارعة” في فخ “سوء الفهم” أو “صراع الجهالة”، كما يسميه الدكتور “علي آساني” الأستاذ في جامعة هارفارد، “بسبب ذلك الإدراك الثابت وذلك الإجحاف الذي قد وضع “الآخر”، سواء أكان هذا “الآخر” هو الغرب أو الإسلام، في تركيبة أنه شرّ وبربري وغير متحضر])

ونظرة متفحصة لتحليل أفكار الغربيين، توضح بجلاء أنهم نظروا إلى العرب والمسلمين “نظرة سطحية أحادية البعد” تبتعد عن النهج العلمي الموضوعي، وتدخل في خانة “تبويب المصالح” بحثا عن “عدو جديد، كما تبيّن آنفاً، وفي الجهة المقابلة، فإن نظرة بعض المتشددين العرب، خاصة الحركات الأصولية الإسلامية والمتطرفة منها، نظرة جامدة رجعية، شاملة في حكمها، فيما نظرة “طبقة النخبة” منهم متباينة بين الاعتدال والمبالغة في توصيف حقيقة العلاقة مع الغرب، لاسيما من ينتمون إلى تيارات “الإسلام السياسي”.

كما أن غالبية العرب والمسلمين ألقوا بمسؤولية التخلف الأخلاقي والمادي على الغرب دفعة واحدة، وفنّدوا أسباب ضعف بلادهم وتراجعهم التاريخي والحضاري تحت أقدم عنوان نظرية عرفتها البشرية؛ “نظرية المؤامرة” على العرب والمسلمين، فرفضوا كل أشكال الإنتاج الغربي الإنساني في مجال الحرية والديمقراطية والانتخاب وحقوق الإنسان ..إلخ، إلا ما ندر، لكنهم كانوا – وما زالوا – أكبر سوق مستهلكة للمنتج الغربي، في ذات الوقت!

لذلك كله، نتفق والرأي القائل بـ”خرافة تهديد الآخر” سواء للعرب أو للغرب، وأن كل ما جرى ليس أكثر من “سوء فهم” و”صراع جهالة” تحت غطاء “حروب المصالح” والسياسة، كما يذكر ذلك العالم “جون ل. إسبوزيتو” أستاذ العلاقات الدولية في جامعة جورج تاون، والذي تحدث في كتابه (التهديد الإسلامي: أسطورة أم واقع؟ 2002)() عن أساطير وخرافة تهديد الإسلام للغرب أو العكس، وتناول الوجه الحضاري للإسلام تاريخياً ونقاط تقاطعه مع الحضارة الغربية المسيحية، بل لقد وضع الكرة في ساحة قادة العالم الغربي حينما قال: “إذا ما احترم الغرب شكاوي المسلمين وآلامهم، فإن الحركات الإسلامية ستكون شريكة في بناء النظام الدولي العادل.. أما إذا استمر الغرب في الدفاع عن مصالحه في الشرق الأوسط باسم الاستقرار، فإنه يمكن أن يجعل الإسلام كله عدواً له”

أحدث المقالات

أحدث المقالات