مدخل:
من بين اهم المشاكل الحيوية التي تواجه الموقف العسكري السياسي المعاصر وفي ضوء التفكير السياسي الجديد في مجال العلاقات الدولية احتلت التسوية السلمية للصراعات الاقليمية مكانا بارزا ضمن جوهر فكرة ايجاد عالم مسالم خال من هذه الصراعات على مختلف مستوياتها (الحروب بالنيابة Proxy War الصراعات واطئة الشدة Low Intensive conflicts) حيث هناك رفض للحرب كوسيلة لحل المشاكل المتنازع عليها والاقرار بحق كل شعب في اختيار طريقه في التقدم الاقتصادي والاجتماعي.
ولهذا فقد شدد الكثير من الساسة والعسكريين التقدميين في العالم على ضرورة تنشيط البحث المشترك لايجاد حلول مناسبة لاوضاع الصراعات في اسيا وافريقيا وامريكا اللاتينية.. وفي جميع النقاط الساخنة المختلف عليها بين القوى الاقليمية نفسها وبين القوى الدولية ذات المصالح الاستراتيجية بعيدة المدى طارحين ذلك باعتبار المنهج الرئيسي لنشاطهم المحموم في الساحة الدولية للكفاح من اجل حماية جميع شعوب العالم من اشعال الصراعات الاقليمية المسلحة التي تعد الوجه الثاني لسياسة القوة العسكرية للقوى الدولية الكولونيالية التي لم تغير من طبيعتها وسعيها في الانتقام الاجتماعي خدمة لمصالحها الاقتصادية.
ففي المجال السياسي/ العسكري كان الرهان في السابق على المجابهة النووية وتسميم الاجواء الدولية على المستوى العالمي لن يقلل من خطر الصراعات الاقليمية بل على العكس فانه زادها وان هذه الصراعات بدورها اثرت بشكل ملموس في الحالة العامة للعلاقات الدولية خالقة جواً من التوتر على المستوى المحلي او الاقليمي.
ماهية الصراعات الاقليمية:
يمكن تعريف الصراعات الاقليمية من ناحية مضمونها على انها: ابداء التناقض والاختلافات ذات الطبيعة السياسية والاقتصادية والايديولوجية بين الدول –مجموعة الدول- على المستوى الاقليمي. وهي تعكس في الوقت الحالي الصراع المتقابل بين قوى الكولونيالية والقوى المتحالفة معها من جهة وقوى التحرر الوطني من الجهة الاخرى.
وتتجلى الصراعات الاقليمية اما على شكل صدامات واسعة النطاق او على شكل تواجد بؤر توتر عسكري. ولغرض اشعال نيران الصراعات الاقليمية تتشابك المشاكل العسكرية مع المشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية… وتسعى الاوساط الكولونيالية ذات المصالح الاستراتيجية وبقوة السلاح الى تجريد الشعوب من حقوقها في تقرير المصير متخذه اسلوب العقوبات والضغوط الاقتصادية ونشر التمييز العرقي والديني تحت ذريعة حماية الحرية والديمقراطية او بحجة تقديم المساعدات لما يسمى بـ (المناضلين من اجل الحرية).
ان الصراعات الاقليمية كما وضحها احد فلاسفة العلاقات الدولية: جروح دامية ملائمة لتكوين بؤر مرض عدم تخثر الدم – الغانغرينا – في جسد الانسانية. وهنا لا بد ان نسأل: من الذي سيربح من هذه الصراعات؟ الجواب – لا احد، ما عدا تجار الاسلحة ومختلف مستويات الدوائر الكولونيالية التوسيعية والمتعودين على تدفئة ايديهم والاثراء على حساب تعاسة وفقر الشعوب.
وقد تحمل الصراعات الاقليمية عادة صبغات الاستمرارية والتواصل، وقد نشأ بعضها وتبدو في حينها كأنها من الامور الداخلية البحت الا انها ونتيجة للتدخلات الخارجية ومحاولات توجيهها تكون ضد البلدان المجاورة وهي بذلك لا تكتفي باطالة امدها فحسب وانما تسعى الى اتساعها بشكل اكبر.
فمن الواضح تماما ان اي صراع مسلح حتى ولو كان داخليا فانه قادر على تعكير اجواء المنطقة المحيطة به ويخلق لدى المجاورين له حالة من الطوارئ وعدم الاستقرار دون الحديث عن المعاناة والخسائر التي تحيق بشعب تلك الدولة.
اسباب نشوء الصراعات الاقليمية:
ان لكل صراع اقليمي جذوره وتاريخ تطوره ومميزاته السياسية والقومية والدينية المقترنة بالتمازج الشاذ بين تلك المميزات بما يناسب الدول او المناطق. وبرغم ان الصراعات الاقليمية غير متشابهة من حيث طبيعتها لكنها عادة ما تنشأ على ارض وطنية في اعقاب تناقضات داخلية او اقليمية تولدت اما من مدة الاستعمار السابقة، واما نتيجة التحولات السياسية والاقتصادية، واما من جراء تكرار سياسة الاحتلال او قد تكون لاسباب اخرى.
ولو القينا نظرة الى الماضي واستقرأنا التاريخ لغرض مناقشة تلك الاسباب فانه لا بد من ملاحظة ان مدة تكون النظام الاستعماري قد شهدت ولادة الكثير من الصراعات الاقليمية التي تراكمت على اثرها حروب الاحتلال المتواصلة والحملات التأديبية والقرصنة وتجارة الرقيق.
وحتى مطلع القرن العشرين كان العالم كله بشكل عام موزعا بين ما يعرف بالدول الاستعمارية الكبرى وكان الصراع بين هذه الدول بشأن حصصها في العالم الذي تمت تجزئته ما بينها هو احد الاسباب الرئيسية لنشوب الحربين العالميتين الاولى والثانية.
مخاطر الصراعات الاقليمية واسباب عدم تسويتها:
لا يمكن ان ننسى مدى النمو المطرد بالعلاقات الدولية المتبادلة في ايامنا هذه، بحيث ان اي صدام مسلح في اية بقعة من العالم، حتى لو بدا عاديا للوهلة الاولى، فانه ما يلبث ان يؤدي الى ازمة حادة من الموقف الدولي ويصبح بؤرة خطر كامن لصراع مسلح عنيف تتسع حدوده بشكل خطير. وما لم تتخذ التدابير الضرورية له وفي الوقت المناسب فانه يتسع اكثر فاكثر علما اننا لو اضفنا ان هنالك دولا صغيرة تمتلك، او في
طريقها لامتلاك، السلاح النووي، فان خطر الصراعات الاقليمية سيزداد اكثر من ذلك، لان مسألة انتشار السلاح النووي الاقليمي يعد من اكبر التهديدات في الظرف الراهن، ومنها يمكن تقدير عظم المخاطر التي تحملها مشاكل الصراعات الاقليمية في النظام العام للعلاقات الدولية.
ان كل حالات الصراع المتراكمة في الوقت الحاضر قابلة للتسوية السلمية، وهنا ستتأثر حتى عوامل الظرف الداخلي من ناحية اية جهة لها علاقة مباشرة بالصراع وعوامل الظرف العام، كالواقع ولمن اصبحت الغلبة في المجتمع الدولي. وفضلا على ذلك لا يمكن الا ان لا تعزى تلك الصراعات الى المحاولات الدؤوب للدوائر العسكرية الكولونيالية التي في حقيقتها تعمل على نسف اية تطورات ايجابية منذ ولادتها، وذلك باحاطة اية وفاقات ممكنة بظروف وشروط واضحة بانها غير واقعية مما يؤدي الى اسقاط فكرة المصالحة الوطنية ذاتها.
ان النزعة الراجحة عمليا في العلاقات الدولية نحو تسوية حالات الصراع بما فيها الصراعات المسلحة بالوسائل السلمية، قد اصبحت فعلا هي السائدة لو ان الدوائر الكولونيالية لم تداوم على خلق العقبات على هذا الطريق. وتتمثل الخطورة بشكل خاص بالنيات المكشوفة بوضوح على سبيل المثال للادارة الامريكية التي اخذت تقدم المساعدات العسكرية لتجمعات المعارضة المسلحة التي تخوض حروبا ضد الحكومات الشرعية كما هو جار مع عدد من بلدان افريقيا واسيا وامريكا اللاتينية.
ومما يزيد في عدم احتمال ما يجري هو ان العديد من تلك المجاميع اما انها لا تبدي اي اكتراثات للاتفاقيات التي يجري التواصل اليها بصفة مطلقة، واما انها تعمل كل ما في وسعها من اجل ان تحافظ بشكل او باخر على التوتر القائم. وواضح ان هذا ليس هو السبيل الذي يمكن ان يقود الى تحقيق السلام بكونه من اهم الشروط اللازمة لمعالجة المهمات الكبيرة التي تقف امام الدول المعنية. ومن غير الجائز عدم ملاحظة ان اولئك الذين يشغلون مواقع المجابهة هم الذين يسعون الى تحسين الصراعات القائمة، وهم بذلك يسكبون الزيت على النار فعلا مما قد لا يؤدي الا الى زيادة تفاقم الموقف.
ان الوقائع لتشهد ان سياسة الدول ذات المصالح الستراتيجية وعلاقتها مع عالم الدول النامية هي عبارة عن استعمار جديد من حيث الاهداف، وارهاب دولي من حيث الاساليب. اما الدعاية الرئيسية لتلك السياسة فانها كالسابق تقوم على ضغط القوة العسكرية.
وفضلا على استخدام سياسة (ضغط القوة العسكرية) فان الاستعمار الجديد يستخدم وعلى نطاق واسع اساليب فرض الصفقات المنفردة واحداث الانشقاقات بين القوى الوطنية المتحررة.
وفي اطار سياسة (التوسع الجديد). فانه لا يزال يتزايد الاهتمام الذي يخصص لاعتداء القوات المسلحة المشتركة للدول ذات المصالح الستراتيجية في الصراعات الاقليمية والتي من خلالها يمكن الالمام بمختلف اشكال العنف المسلح الذي يجب ان لا يتعدى على وفق تصورات الاستراتيجيين الاميركان (الحرب المحدودة) اضافة الى استعراض العضلات ودعم العناصر الانفصالية وما شابه ذلك.
لقد اظهرت خبرة السنوات الماضية مدى ضرر وعدم جدوى محاولات ايجاد حلول للصراعات عن طريق القوة العسكرية، لكنها اثبتت ان الاسلوب الصحيح الوحيد هو البحث عن الحلول السياسية، وبعبارة اخرى العمل على خلق ذلك الموقف الدولي القانوني بشأن بؤرة الصراع الذي لا يعطي امكانية التدخل الخارجي (الزيت الساخن) اولا ويضمن عدم اتساع هذه البؤرة الى بلدان او مناطق اخرى ثانيا، ويؤمن حق اختيار النظام السياسي والاجتماعي لشعب ذلك البلد بالذات وليس لغيره وبدون اية مداخلات اجنبية ثالثاً. وفي غضون ذلك فان هذا الحق بالاختيار يجب ان لا يستخدم كحجة او باعث لنشوء احداث او ميول في العلاقات الدولية يمكن ان تسفر عن صراعات جديدة او مجابهة عسكرية.
ان تطور الموقف السياسي/ العسكري في الساحة الدولية يبرهن بشكل مقنع على ان معالجة حالات الصراع في مختلف المناطق تكون ممكنة فقط عندما تكون مستندة الى الواقعية وارادة الشعوب وبالتوفيق بين المبدئية والصمود من جهة والمرونة والاستعداد للقبول بالحلول الوسطى المعقولة من جهة اخرى.
وفي ذلك يتجلى على الخصوص احد اوجه منطقية النضال في اقامة سلام دائم وتطور اجتماعي واقتصادي ينبذ الحرب باشكالها.. وهذا بشكل خاص يمثل احد اوجه وضوح التفكير السياسي الجديد.
ـــ
ــــــ الفت نظر القاريء الكريم الى اني للاسف لم اجد ضمن ارشيف ترجماتي نص الدراسة الاصلي بلغته الاجنبية حتى اتمكن من باب التوثيق ايراد اسم المطبوع المنشور فيه ورقمه وتاريخه كما هو متعارف عليه في الكتابة المنهجية التي احرص عليها.