اقتصر الرعيل الأول من المفسرين على مجموعة من الشبهات تعتمد جلها على اثبات الغث من الروايات التي شفعت بالإسرائيليات، وذلك إرضاءً لمجموعة من الناس على حساب كتاب الله تعالى، حتى بانت أضرار هذا النهج وتبعاته عبر الأجيال، ومن هنا أخذ المحدثون هذا الاتجاه بين منقح لما أفسده أسلافه وبين متقبل للأمر على استحياء، علماً أن الصنف الثاني قد يقع في المحدثات من الشبهات إذا ما أراد قول الحقيقة التي بدونها يكون قد وضع نفسه بين أحد أمرين، إما التسليم والانقطاع لمن سبقه، وإما التجديد، ولا يخفى على أصحاب الشأن مدى الصعوبات التي يتعرض لها الباحثون عند انتقالهم إلى الحداثة في التفسير، بسبب أن اثبات المستجدات لا يحاكي العقول التي ألفت المأثور حتى أصبح ملازماً لها في جميع ما تؤول إليه استنتاجاتها الروائية.
من بعد هذه المقدمة نريد أن نبين بعض الأضرار التي وصلت إلينا من لدن أصحاب الاتجاه الروائي الذين امتدت علومهم لتكون أشبه بالقاعدة للمتأخرين إلا ما رحم ربي، ولهذا نسبت للأنبياء بعض الأخطاء البريئة التي لا أصل لها في مسيرتهم العامة أو الخاصة، وهذا ما يظهر عن طريق الدلائل العقلية والنقلية، باستثناء ما صرح به القرآن الكريم من ترك الأولى، أو مخالفة الأمر الإرشادي دون المولوي، الذي لا يحسب على النوعية الكلية للأخطاء المتعارف عليها لدى عامة الناس، وعند المقارنة بين ما ذكره المفسرون الذين اعتمدوا الروايات الدخيلة في تفسيرهم وبين كتاب العهد القديم، لا نجد كثيراً من الفروقات، ومثالاً على ذلك ما صرح به جمع من المفسرين بشأن ما نسب إلى داود (عليه السلام) من خطيئة لا أصل لها إلا في خيالهم وتفكيرهم الساذج، إضافة لفهمهم القاصر لقوله تعالى: (قال لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه وإن كثيراً من الخلطاء ليبغي بعضهم على بعض إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم وظن داود أنما فتناه فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب) ص 24.
وكذلك ما نسب إلى سليمان (عليه السلام) في قصة الجسد الذي ألقي على كرسيه والتي ورد ذكرها في قوله تعالى: (ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسداً ثم أناب) ص 34. وما يبطل ادعاء أصحاب النسب الخاطئة أن الآيات التي تلت هذه الآية تشير جميعها إلى الفترة التي
وهب الله تعالى فيها لسليمان الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، فكيف يمكن الجمع بين الخطيئة وبين ما سخر الله تعالى له من ريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب، وكذلك تسخير الشياطين وتقسيم الأعمال بينهم، إضافة إلى تعليمه منطق الطير، كما في قوله تعالى: (وورث سليمان داود وقال يا أيها الناس علمنا منطق الطير وأوتينا من كل شيء إن هذا لهو الفضل المبين) النمل 16. وهذه الحقائق التي أصبحت موضع بلاء وفتنة لكثير من الناس، جعلت ما حدث آنذاك أشبه بالقضية المبهمة، بسبب عدم تكرارها أو حصولها لنبي آخر، أو إنسان مقرب.
وعند التسليم بهذه الشبهات نجد أن ما ذكر صريحاً في القرآن الكريم من تعليم آل داود منطق الطير، قد حرف إلى غير حقيقته العلمية الناتجة عن القضايا الصادقة، سواء عرضت على التجربة أم لم تعرض، كما هو الحال في تفقد سليمان للهدهد وحواره معه، إضافة إلى تفهمه لمقاصد النملة، وغير ذلك مما ورد في سياق الآيات ذات الشأن. وبناءً على ما مر يمكننا الإشارة إلى السؤال الذي يراود أناس كثر، وهو هل أن الهدهد الذي وجد ملكة سبأ وقومها وما جرى من قصتها، ممكن أن يطابق تفهم الطير لهذه الأحداث، أم أن ذلك الهدهد له شأن خاص لا يمكن أن يهبه الله تعالى لغيره؟.. وعند التسليم بالفرضية الثانية فإن الأمر لا يتوقف على الطير، وإنما يجري في النملة، وفي تسخير الجن، والريح التي غدوها شهر ورواحها شهر، وصولاً إلى إسالة عين القطر، أما إذا اعتمدنا الفرضية الأولى، فسوف نظل نبحث عن أسباب لا حصر لها ولا يمكن التحقق من صحتها أو اثباتها بالتجربة.
ولهذا فإن الطريق الأمثل لإثبات حقيقة ما حصل هو اعتماد الفرضية الثانية، باعتبار أن المسلمات القرآنية كفيلة في اثبات ما نبحث عنه، ومن هنا نعلم أن تسخير الجن والإنس والطير لسليمان، إضافة إلى المصاديق الأخرى التي تتفرع على ملكه الذي لا ينبغي لأحد من بعده، كل هذه المسلمات لا يمكن أن تكون في متناول إنسان آخر سواء كان من الأنبياء أو من الملوك، وبناءً على هذا نفهم أن النملة التي نصحت قومها في أن يدخلوا مساكنهم، كما في قوله تعالى: (حتى إذا أتوا على وادِ النمل قالت نملة يا أيها النمل أدخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون) النمل 18. لا يمكن أن تكون ظاهرة متكررة عبر الزمان، بل هي حالة خاصة أراها الله تعالى لسليمان دون غيره، وما يثبت ذلك ممكن الرجوع به إلى المفاجأة التي حصلت لسليمان جراء حديثها مع قومها، مما جعله ينتقل من التبسم إلى الضحك
إلى شكر الله تعالى، كما في قوله: (فتبسم ضاحكاً من قولها وقال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين) النمل 19.
ولو كان النمل يتفهم ما يحدث أمامه في كل زمان ومكان ويعلم لطائف ما حوله بما في ذلك الأسماء، فقد يتلاشى نوع الغرابة التي حصلت لسليمان من خلال ما جرى، وبهذا نصل إلى أن الهدهد الذي كلف بمهمة البحث عن الماء كما قيل، لا يمكن أن نجري ما قام به على فصيلته الخاصة دون أن نغفل الوجوه المجتمعة بين نظائره التي لا يمكن أن تصل إلى نوع المهمة التي ألقيت على عاتقه، باعتبار أن أمر ذلك الهدهد من الأمور التي لا يمكن تكرارها، فهو أشبه بإسالة عين القطر، وتسخير الجن وغير ذلك من مصاديق حكم سليمان التي ذكرناها آنفاً، أي أن هذا الهدهد قد مكنه الله تعالى من تفهم القيام ببعض المهمات التي كلف بها دون غيره، وهذا ظاهر من السياق الذي قال تعالى فيه: (وتفقد الطير فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين***لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين***فمكث غير بعيد فقال أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين***إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم***وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون***ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السماوات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون***الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم) النمل 20-26. هذا ما لدينا وللمفسرين في الآيات آراء أعرض لها:
الرأي الأول: قال الفخر الرازي في التفسير الكبير: اعلم أن سليمان (عليه السلام) لما تفقد الطير، واختلفوا فيما لأجله تفقده على وجوه، أحدها: قول وهب أنه أخل بالتوبة التي كان يتوبها فلذلك تفقده، وثانيها: أنه تفقده لأن مقاييس الماء كانت إليه، وكان يعرف الفصل بين قريبه وبعيده، فلحاجة سليمان إلى ذلك طلبه وتفقده، وثالثها: أنه كان يظله من الشمس فلما فقد ذلك تفقده، أما قوله: (فقال مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين) فأم هي المنقطعة، نظر إلى مكان الهدهد فلم يبصره، فقال مالي لا أراه، على معنى أنه لا يراه وهو حاضر لساتر يستره أو غير ذلك، ثم لاح له أنه غائب، فأضرب عن ذلك، وأخذ يقول: أهو غائب؟ كأنه يسأل عن صحة ما لاح له، ومثله قولهم: إنها لإبل أم شاء.
أما قوله: (لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين) فهذا لا يجوز أن يقوله إلا فيمن هو مكلف أو فيمن قارب العقل فيصلح لأن يؤدب، ثم اختلفوا في قوله: (لأعذبنه) فقال ابن عباس إنه نتف الريش والإلقاء في الشمس، وقيل أن يطلى بالقطران ويشمس، وقيل أن يلقى للنمل فتأكله، وقيل ايداعه القفص، وقيل التفريق بينه وبين إلفه، وقيل لألزمنه صحبة الأضداد، وعن بعضهم أضيق السجون معاشرة الأضداد، وقيل لألزمنه خدمة أقرانه. انتهى كلام الفخر الرازي. وقوله: فهذا لا يجوز أن يقوله إلا فيمن هو مكلف أو فيمن قارب العقل.. دليل على ما قدمنا من أن الهدهد له أمر خاص.
الرأي الثاني: ذكر الطوسي في التبيان: من أن ابن كثير قرأ (أو ليأتينني بسلطان مبين) بنونين، الأولى مشددة والثانية مكسورة، الباقون بنون واحدة مشددة مكسورة، وقرأ (مكث) عاصم وروح بفتح الكاف، الباقون بضمها، وهما لغتان، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو (من سبأ بنبأ) غير مصروف، الباقون مصروفاً منوناً. ثم يضيف الطوسي: من لم يصرفه فلأنه معرفة ومؤنث، لأنه قيل: إن (سبأ) هي من أحياء اليمن، وقيل هو اسم أمهم، وقد قال الزجاج: (سبأ) مدينة تعرف بمأرب من اليمن، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام، فإذا صرفته فعلى البلد، وإذا لم تصرفه فعلى المدينة، وقيل: من صرفه جعله اسماً للمكان، ومن لم يصرفه جعله اسماً للبقعة، قال جرير:
الواردون وتيم في ذوي سبأ……قد عض أعناقهم جلد الجواميس
وقال آخر في ترك صرفه:
من سبأ الحاضرين مأرب إذ……يبنون من دونه سيله العرما
ثم ينتقل الطوسي إلى قوله تعالى: (فمكث غير بعيد) فيقول: أي لبث غير بعيد، وفي ماضيه لغتان، فتح الكاف وضمها، ثم جاء سليمان فقال معتذراً عن تأخره واخلاله بموضعه (أحطت بما لم تحط به) أي علمت ما لم تعلم، وعلم الإحاطة هو أن يعلمه من جميع جهاته التي يمكن أن
يعلم عليها تشبيهاً بالسور المحيط بما فيه. انتهى. وما بينه من علم الإحاطة يدل على أن الهدهد له شأن خاص به دون أقرانه.
الرأي الثالث: قال ابن عجيبة في البحر المديد: قوله تعالى: (فمكث غير بعيد) أي تفقد مكث سليمان حين تفقد الهدهد، وأرسل من ورائه غير زمان بعيد، وهو من الظهر إلى العصر.. ثم يضيف ابن عجيبة: ولما قدم من غيبته أحضر بين يديه ثم سأله عن غيبته فقال (أحطت بما لم تحط به) أي أدركت علماً لم تحط به أنت، ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام، مع ما أوتي من فضل النبوة والعلوم الجمة، ابتلاءً له (عليه السلام) في علمه، وتنبيهاً على أن في أدنى خلقه وأضعفهم من أحاطه الله علماً بما لم يحط به، لتتصاغر إليه نفسه، ويصغر في عينه وعلمه، في جانب علم الله، رحمة به ولطفاً في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء. انتهى.
وما ذكره من إلهام الله تعالى للهدهد ليكافح سليمان، دليل آخر يبين أن لام الهدهد للعهد، وكل ما قام به لا يتحقق في أقرانه على مر العصور.