23 ديسمبر، 2024 8:30 ص

مالك بن نبي طبيب الحضارة

مالك بن نبي طبيب الحضارة

مفكر مُختلفٌ لايكاد يُشبه أحدا في خطابه ومنهجه ومصطلحاته ومعادلاته ، مسكون بهاجس النهضة والحضارة، وكيف تستعيد الأمة حضارتها في هذا العصر. وكيف تستأنف دورتها التاريخية من جديد. جعل من مشكلة الحضارة قضية القضايا لديه ، وأعتبر في مفتتح كتابه (شروط النهضة) إن مشكلة كل شعب هي في جوهرها مشكلة حضارية ، ولايمكن لشعب أن يفهم أو يحل مشكلته مالم يرتفع الى الأحداث الإنسانية ، ومالم يتعمق في فهم العوامل التي تبني الحضارات أو تهدمها.
هكذا قرأ (زكي الميلاد) الباحث في الفكر الإسلامي ( مالك بن نبي )أكثر المفكرين إرتباطا وإشتغالا بفكرة الحضارة، وإبن خلدون الثاني ، ، فمراميـه ومـقاصـده حضارية بإمتياز، موسوعي كتب في علـم الاجتمـاع والسيـاسة الاقتـصادية، وفــي فلسفة التـاريـخ وأصـول الحضـارة والثقـافة تُصنف أفكاره على الإتجاه  الحضاري  في الفكر الإسلامي ومؤلفاته تصلح أن تكون تدريبا لبناء القدرة التفكيرية ، وتوسيع آفاق الذهن ، وتدريب الفكر على التركيز ، ومن يرغب أن يكون مفكرا عليه مطالعة مؤلفاته وينهل منها.
ولد في الجزائر سنة 1905م،انغمس في الدراسة وفي الحياة الفكرية، واختار الإقامة في فرنسا وتزوج من فرنسية ثم شرع يؤلف الكتب في قضايا العالم الإسلامي، فأصدر كتابه الظاهرة القرآنية في سنة 1946 ثم شروط النهضة في 1948، الذي طرح فيه مفهوم القابلية للاستعمار، ووجهة العالم الإسلامي 1954، وكتاب مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي1970.
 انتقل إلى القاهرة سنة 1954م وهناك حظي باحترام كبير، فكتب فكرة الإفريقية الآسيوية 1956. وتوالت أعماله الجادة ، وبعد استقلال الجزائر عاد إلى أرض الوطن، فعين مديراً للتعليم العالي ، حتى استقال سنة‏ 1967 متفرغاً للكتابة، بادئاً بكتابة مذكراته، بعنوان )مذكرات شاهد القرن( توفي في الجزائر1973م مخلفا وراءه مجموعة من الأفكار القيمة والمؤلفات النادرة.
تسعة وثلاثون عاما مرت على رحيله إلا أن أفـكاره مـا تـزال حـية نابـضة،  لتتحقق الكلمات  التي أسرّها لزوجته، وهو على فراش الموت يئن، وإلى غد مشرق وسعيد يحِن: “سأعود بعد ثلاثين سنة؛ علّني أجد من يفهمني”.
إتجاهات مختلفة  في عالمنا العربي تعاطت مع فكر مالك بن نبي أبرزها هذه الثلاثة :
1- الإتجاه التبجيلي  الذي كتب عنه وعرّف بفكره ودافع عنه .
2- الإتجاه المعارض / المتحامل الذي قلل من شأن طروحاته وحاول  التشويش عليها.
3-  الإتجاه المتجاهل الذي لم يشر الى إبداعاته في نظرية الثقافة ومشكلة الحضارة وغيرها.
تفرّد  مالك بن نبي بتوجيه انتـباهـنا إلى  قضايا المشكلة الحضارية فتحدث عن الإرادة الحضاريـة والإمـكان الحضـاري، وأنه مـن المنـطق العملـي أن الإرادة الحضـارية لها الأولـوية،وأنها هـي التـي تـصنـع الإمـكان الحضـاري، وأن(الإنـسان و التـراب و الوقـت) إمـكانات لا تـتحول إلى قيـم حضاريـة، إلا بالإرادة الحضـارية، و هـذه الإرادة لبـها و جـوهـرها هـو الجـذوة الروحـية الدينـيـة، التـي تـُحرك كـوامـن الإنـسان و تـضبـط غـرائـزه، و تـدفعه فـي طريـق الحضارة، و مناهج صنـعـها و إبـداعـها في معادلة رائعة موجزها ناتج حضاري = إنسان + تراب + وقت.
 من روائع مالك بن نبي:
–  – غيّر نفسك يتغير التاريخ.
– لا يُقاس المجتمع بكميَّة ما يملك من (أشياء) ، بل بمقدار ما فيه من أفكار .
– يحدث أن تلم بالمجتمع ظروف أليمة ، كأن يحدث فيضان أو تقع حرب ، فتمحو منه (عالم الأشياء) محوًا كاملاً ، أو تفقده إلى حين ميزة السيطرة عليها ، فإذا ما حدث في الوقت ذاته أن فقد المجتمع السيطرة على (عالم الأفكار) كان الخراب ماحقًا . أمَّا إذا استطاع أن ينقذ (أفكاره) فإنَّه يكون قد أنقذ كلَّ شيء ، إذ أنَّه يستطيع أن يعيد بناء (عالم الأشياء ) .
– إن الذي ينقص العربي ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، وهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاماً مجرداً ، بل إنه أكثر من ذلك يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيراً مؤثراً ويقولون كلاماً منطقياً من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط .
– إن العلوم الأخلاقية والاجتماعية والنفسية تعد اليوم أكثر ضرورة من العلوم المادية فهذه تعتبر خطراً في مجتمع مازال الناس يجهلون فيه حقيقة أنفسهم أو يتجاهلونها ومعرفة إنسان الحضارة وإعداده ، أشق كثيراً من صنع محرك أو تقنية متطورة ، ومما يؤسف له ان حملة الشهادات العليا في هذه الاختصاصات هم الأكثر عدداً في البلدان المتخلفة لكنهم لم يكونوا إلا حملة أوراق يذكر فيها اختصاصهم النظري ، فصاروا عبئاً ثقيلاً على مسيرة التنمية والإصلاح ، فهم القادة في المجتمعات المتخلفة على الرغم من عجزهم عن حل أبسط المشكلات بطريقة علمية عملية ، وإلا لما تخلف مشروع النهضة حتى الوقت الحاضر ، ونحن بحاجة إلى دروس في منهجية العمل في سائر مستويات عملنا .
– إن الشعب الثرثارلايسمع الصوت الصامت لخطى الوقت الهارب.
فما أحوجنا في – رحلة تيهنا الفكري الذي طال –  الى العودة الى طبيب الحضارة مالك بن نبي وأن نبني على أفكاره وفلسفته ، رجاء أن نكتسب مهارة التعامل الحضاري مع أدوات العصر.
إضاءة:  لـقد استـجمـعـت عقلـي و سمـعي لأتابع الأفـكار الجديـدة لهذا الكاتـب الجزائــري فإذا به يـغـوص فـي الأعـماق و يدعنـي أطفـو على السطح ومـع ذلك فإنـي قـد أستـطيـع أن ألخص أفـكار الرجل: فهـو يـرى أن العالـم العـربي ظل يحارب الاستـعمار عـشرات السنـيـن لكنـه أغـفل قابليـتـه هـو للاستـعـمار، كان يـجب عليـه أن يـحارب تلـك القابليـة التـي هـي المـرض الحقيـقي، أما الاستـعـمار فهـو عرض وعلامـة لذلك المـرض.( إحسان عبـد القـدوس، الأديب المـصري (1919م-1990م) من مـقال له، صدر سنـة 1956م ، بعنـوان ( الاستعمار في نفوسنا ).