أثار التقرير النهائي للجنة الوزارية العليا للتحقيق في كيفية سقوط شهداء تظاهرات تشرين الأول أكتوبر، موجة من الاستياء الشعبي كونه لم يكن منصفاً للضحايا من المتظاهرين. و سنحاول من خلال عرض مبسط لهذا التقرير التعرف على بعض الأمور الخفية التي يبدوا واضحاً أنه أخفاها أو أراد أن يطمسها.
فالتقرير يتحدث عن ضعف في قيادة بعض القادة الأمنيين أدى إلى فوضى و إرباك و عدم سيطرة على الرمي. و هذا اعتراف صريح بوجود أوامر بالرمي من دون الإشارة إلى الجهة التي أصدرت تلك الأوامر.
كما يتهم التقرير بعض المتظاهرين بأنهم هم من ابتدأوا بحرق عدد من الممتلكات العامة و الخاصة و مقرات الأحزاب و كنتيجة لذلك أطلقت “حمايات تلك الأحزاب” النار عليهم. و مع اعتراضنا على تسلسل هذه الرواية و مبرراتها إلا أن ذلك اعتراف صريح بإطلاق حمايات الأحزاب الرصاص على المتظاهرين.
و على الرغم من اعتراف التقرير بالطابع السلمي للتظاهرات إلا أنه كشف أن “خطط تفريقها لم تجر بشكل سليم”، و ذلك في محاولة لتحميل القادة الميدانيين المسؤولية و تبرئة القيادات العليا ذلك. و لتثبيت هذه البراءة يعود التقرير ليؤكد عدم صدور أية أوامر رسمية من “المراجع العليا” إلى القوات الأمنية بإطلاق النار اتجاه المتظاهرين أو استخدام الرصاص الحي مطلقا، بل إن التعليمات كانت مشددة بعدم استخدام القوة ضد المتظاهرين، محملاُ الوكالات الأمنية مسؤولية عدم إيصالها المعلومات إلى القادة و الآمرين.
و مع الاعتراف الخطير باستهداف سيارات الإسعاف و منعها من إخلاء الجرحى إلا أن التقرير لا يشير لأي جهة مسؤولة عن ذلك، حيث يكتفي بالإشارة إلى (قيام البعض) بذلك من دون تحديد من هو هذا (البعض). السؤال الذي يطرح نفسه، إذا كان المتظاهرون هم الحلقة الأضعف و القوات الأمنية هي من يحمل السلاح و يسيطر على الساحات و الشوارع فكيف تمكن ذلك (البعض) من تنفيذ هذه الجريمة الإنسانية التي أدت بحسب التقرير لارتفاع أعداد الضحايا.
يشير التقرير أيضاُ إلى أمر خطير جداً، و هو أن “القوات الماسكة للأرض غير مختصة بمكافحة الشغب والتعامل مع المتظاهرين”، و هو أمر جداً مستغرب و يتناقض مع القول بوجود خطط مسبقة لتفريق التظاهرات بشكل سلمي. هذا إن دل على شيء فهو يشير إلى تعمد نشر قوات مسلحة تجابه المتطاهرين بدلاً من قوات مختصة بمكافحة الشغب. و هنا لم يحمل التقرير أي جهة عليا المسؤولية عن ذلك، في حين أن هذا الأمر دليل على مؤامرة لإيقاع القوات المسلحة في فخ التصادم مع المتطاهرين الذين كانوا يعتقدون أن الجيش متواجد لحمايتهم.
و في اعتراف بوجود القناصين تحدث التقرير عن تحديد مواقع بعينها في بغداد من دون الإشارة إلى المحافظات الأخرى و ذلك في محاولة للتقليل من التنظيم و التخطيط العالي لنشر القناصين الذي استمروا بجريمتهم لأكثر من يوم واحد. و لم يفصح التقرير عن أية محاولات أخرى للكشف عن القناصين أو عن محاولات القوات الأمنية للتعرف عليهم أو تحميل أي جهة القصور عن ذلك. و هذا يعتبر مؤشراً خطيراً لوجود ثغرة أمنية كبيرة قد تستغل في أية تظاهرة أو فعالية لتجمعات بشرية سواء أكانت احتجاجات أو مناسبات وطنية و دينية.
و ما يؤكد أن عملية قتل المتظاهرين منظمة و أن من يقف وراءها جهات محددة و وفق طريقة معينة للقتل، هو أن إصابات الشهداء التي يشير إليها التقرير كانت (70% منها في الرأس و الصدر).
و ما يعزز هذا الأمر، ما أشار إليه التقرير ذاته من “غياب واضح للحكومات المحلية في المحافظات وترك القوات الامنية تواجه الاحداث طيلة أيام التظاهرات”. الأمر الذي يثبت أن هناك خطة معدة لزج القوات الأمنية في مواجهة المتظاهرين و دق إسفين بينها و بينهم. و لإخفاء أي أثر للقناصين و طمس الحقائق فقد تم التأخر في “اتخاذ الاجراءات اللازمة لنصب الكاميرات لمراقبة الساحات ومراكز المدن والطرق الرئيسية المؤدية اليها والمنشآت الحيوية”.
و على الرغم من أن التقرير حاول بشكل أو بآخر إبعاد التهمة عن القيادات العليا إلا أنه شخص وجود مخطط معين لوضع القوات الأمنية في واجهة المدفع. كما أنه ألقى التهم على بعض القيادات الميدانية من دون التطرق و التدقيق في هوية القناصين الذين هم أساس المشكلة.
بعد هذا العرض السريع الذي استند على حقائق أوردها التقرير ذاته، نستنتج أن هناك جهة محددة أصدرت تعليماتها للقيادات الميدانية و القناصين بقتل المتظاهرين في الرأس و الصدر و منعت انتشار قوات مكافحة الشغب و جمدت عمل الحكومات المحلية و أخرت نصب كاميرات المراقبة. السؤال من هي هذه الجهة التي لها سلطة التحكم بكل مفاصل الدولة هذه ؟ و من هي الجهة التي مدت مطلق الرصاص بالعتاد الذي استمر إطلاقه ساعات طويلة دون انقطاع؟ و هل يعني هذا أن هناك جهة بعينها تحكم القرار الأمني في العراق و تسعى لتصادم بين الجيش و الشعب؟ و إذا كانت هذه الجهة غير تابعة للقائد العام للقوات المسلحة فلمن تكون تبعيتها و لماذا تعمل على تسقيط المؤسسة العسكرية؟ و هل يعني هذا أن العراق محتل من قوة غامضة تتحكم بقراره العسكري و الأمني؟