أعلن حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي عن نهاية ما أسماه “دولة داعش” في العراق بعد مرور نحو 8 أشهر على إطلاق معركة ” قادمون يا نينوى” . وجاء هذا الإعلان بعد تفجير الإرهابيين ” جامع النوري الكبير” وهو صرحٌ تاريخي بُني قبل 850 عاماً. وكان أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم قد أعلن في خطابه الذي ألقاه فيه ” قيام الدولة” قبل ثلاث سنوات (29 يونيو/ حزيران العام 2014)، ليس هذا فحسب، بل إن داعش قام بتفجير منارة الحدباء التاريخية التي توصف ببرج بيزا العراقي نسبة إلى برج بيزا الإيطالي المائل . وهذا يعني حسب تفسير الخبراء العسكريين أنه قرّر الانسحاب بعد أن مُني بهزائم شديدة، لم يستطع معها البقاء في الموصل ” عاصمته”.
I
تتباين الإجابات على سؤال ما بعد الموصل، وتختلف التقديرات بدرجات حادة أحياناً، وهي تتفاوت بين الرغبة والقدرة، وبين المشروع والممنوع، وبين الممكن والمحال، فهناك أسباب أدّت إلى تمدّد داعش وانتشار الداعشية وهذه ما تزال موجودة، وهي تحتاج إلى خطوات جذرية وإجراءات فعّالة لمعالجتها، إذا ما أريد إلحاق الهزيمة بالإرهاب.
فهل حسمت معركة الموصل مصير التنظيم الإرهابي “داعش” أم أن المسافة بين تحرير الموصل وهزيمة الداعشية ما تزال شاسعة، لاسيّما وداعش ما يزال في الحويجة وتلعفر وحديثة والقائم وعلى امتداد الشريط الحدودي العراقي- السوري: ثم ماذا عن داعش في سورية، لاسيّما في الرقة “المحاصرة” وفي منبج وضواحي الباب وضواحي تدمر والبوكمال والميادين والبادية السورية وصولاً إلى دير الزور؟.
لقد كانت هزيمة داعش العسكرية كبيرة جداً وربما مفصلية، سواء في محافظتي صلاح الدين والأنبار وتحديداً في مدينة الرمادي وكذلك في محافظة ديالى التي انحسر فيها التنظيم في الأشهر الأخيرة وبعد ذلك في الموصل، إلّا أن ذلك لا يعني نهاية له ، خصوصاً وإن الأسباب التي أدّت إلى نشوء الداعشية ما تزال تجد تربة خصبة تتغذّى منها، الأمر الذي يحتاج إلى اقتلاعها من جذورها ونشر القيم النقيضة لها.
وإذا كانت الداعشية فكرة تعصّبية متطرّفة وإرهابية، تقوم على إلغاء الآخر كلياً بزعم امتلاك الحقيقة وادعاء الأفضليات، فإن أفكار التسامح والتعايش والسلام واللّاعنف هي ما يمكن مواجهته بها، وذلك للحيلولة دون تمكّنه من غسل أدمغة الشباب اليائس والمحبط ، خصوصاً بالقضاء على البطالة والفقر والجهل والأميّة والتخلّف وتحقيق المواطنة السليمة القائمة على إشاعة الحرّيات والمساواة والعدالة، ولاسيّما الاجتماعية، والشراكة والمشاركة وعدم التمييز لأي سبب كان.
وقد دلّت الكثير من التجارب مع المنظمات الإرهابية، لاسيّما تلك التي تتذرّع بالدين وتستخدمه سلاحاً لتغطية أهدافها السياسية، إنها على الرغم من تعرّضها لهزائم، فإنها تمتلك قدرات لا يمكن الاستهانة بها أو الاستخفاف بإمكاناتها اللوجستية والتعبوية. يكفي أن نشير إلى أنه حين لحقت الهزيمة بتنظيم القاعدة الإرهابي، وهو “التنظيم الأم” في أفغانستان وصولاً إلى اغتيال أسامة بن لادن الشخصية الكارزمية القيادية للتنظيم في 2 (مايو) أيار 2011، فإنه استمرّ وأنتج وفرّخ تنظيمات أخرى، لعلّ أهمها هو “تنظيم داعش” و”جبهة النصرة ” (جبهة فتح الشام – لاحقاً) وغيره من التنظيمات الإرهابية.
وقبل ذلك حين قُتل أبو مصعب الزرقاوي في 7(يونيو) حزيران 2006 في العراق، إلاّ أن التنظيم لم ينتهِ. وقد نقلت وكالات الأنباء خلال الأيام الأخيرة لمعركة الموصل مقتل أبو بكر البغدادي (لكنه لم يتأكد حتى الآن) ، إلّا أن التنظيم على الرغم من خسارته الفادحة وهزيمته الموصلية، فإنه لا يزال يشغل مساحة ليست بقليلة من أرض العراق وسوريا، ناهيك عن وجوده في النيجر ونيجيريا (بوكو حرام) والمغرب العربي (ليبيا وتونس والمغرب والجزائر وموريتانيا)، فضلاً عن قيامه بعمليات إرهابية في العديد من البلدان الغربية وغيرها.
وإذا كانت خسارة داعش للموصل مختلفة نوعاً ما، وذلك لأنها هي العاصمة بعد احتلال داعش للموصل في 10 يونيو (حزيران) 2014، فهذا يعني أنه خسر معها أهم مصادره المالية، تلك التي كان يحصل منها على مبالغ طائلة لاسيّما من الآتاوات ، إضافة إلى بيع النفط بعد وضع يده على بعض الآبار لتغطية عملياته واجتياحاته ورواتب العاملين معه، مقاتلين وغيرهم.
لم ينشأ الإرهاب من فراغ، بل جاء نتيجة للتطرّف وهذا الأخير يقوم على التعصّب، وهو متغلغلٌ أحياناً في العقول ومعشش في الرؤوس بسبب أوضاع اجتماعية واقتصادية وثقافية، خصوصاً في ظلّ الانغلاق ورفض الآخر والميل إلى التفرّد والتماثل وعدم الإقرار بالتعدّدية والتنوّع وحق الاختلاف، وحسب داعش: كل آخر، هو غريب وأي غريب مريب، وبالتالي: أما عليه الخضوع ودفع الجزية إنْ لم يكن مسلماً أو الرحيل وإلاّ فإن الموت ينتظره، وهو ما حصل مع المسيحيين والإيزيديين في العراق ، هذا إذا كان رجلاً، أما إذا كانت امرأة، فالسبي هو ما تناله، وهذا ما حدث للإيزيديات بشكل خاص، حيث تم بيعهن في سوق النخاسة. وكانت عمليات داعش أقرب إلى حرب إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية وتطهير عرقي يجرّمه القانون الدولي.
لقد ابتكر الإرهاب الداعشي عمليات نوعية في السابق، وليس مستبعداً بعد هزيمته الموصلية أن يبتدع أساليب جديدة، فمن ابتكار مهاجمة مبنى التجارة العالمي في نيويورك بواسطة الطائرات، العام 2001، إلى حوادث دهس وقتل بواسطة سيارات، كما حدث مؤخراً في عدد من المدن والبلدان مثل نيس (فرنسا) وبروكسل ( بلجيكا) ولندن (بريطانيا) وغيرها، وهذه لا تكلّف كثيراً، لكن المال يبقى عموداً فقرياً له وعنصراً مهماً في رفده، مثلما يرفده استمرار البطالة والفقر والتمييز والتهميش والطائفية وهدر حقوق الإنسان.
وإذا ما اجتمع المال و”العقيدة” والأوضاع العامة والخاصة، للإرهابيين فإن عملهم المتوحّش، سوف لا تكون له حدود ، خصوصاً بتوفّر أرضية مناسبة لنمو بذور الإرهاب وتفقيس بيضه، الأمر الذي يحتاج إلى تجفيف المنابع وقطع خط الإمدادات والتواصل، وردم الهوّة التي تشجع على استمراره وانتعاشه، وهذا يتطلّب مواجهة الفكر بالفكر أيضاً، فالوسائل العسكرية والأمنية، وإنْ كانت ضرورية أحياناً – وآخر العلاج الكي كما يقال – لكنها لوحدها لا تكفي للقضاء عليه.
II
إذا كان العراق في نهاية السبعينات قد أوشك على التخلّص من الأمية باعتراف منظمة اليونسكو، فإنه بسبب الحروب والحصار والاحتلال والطائفية والإرهاب والفساد، عاد القهقري حيث انتكست التنمية، ووجد الإرهاب مرتعاً خصباً له في ظل تخلّف المناهج الدراسية وعدم مواكبتها للتطور، ناهيك عن اعتمادها على أفكار ماضوية واحتوائها على الكثير من الآراء التي تقوم على الكراهية ولا تقبل التنوّع وترفض التعددية، الأمر الذي يشكل أرضية صالحة لنمو الإرهاب.
لقد مرّ العراق بأطوار خمسة للتنمية، أولها حين تأسست الدولة في العام 1921، لاسيّما بعد انطلاق حقل بابا كركر النفطي في كركوك العام 1927، ثم تأسيس مجلس الإعمار العراقي العام 1950 ولغاية ثورة 14 (تموز) العام 1958، وهي مرحلة شهدت نجاحات تنموية إيجابية وإن كانت محدودة.
أما المرحلة الثانية فكانت بعد الثورة، حيث توسّعت الخدمات التعليمية والصحية وشملت قطاعات سكانية واسعة وشعبية، إضافة إلى تعزيز شبكة الطرق والجسور والهياكل الإرتكازية والبنى التحتية .
أما المرحلة الثالثة فكانت بعد تأميم النفط العام 1972 والطفرة النفطية عقب حرب اكتوبر (تشرين الأول) العام 1973، حيث ارتفعت أسعار النفط بشكل كبير، وشهدت هذه المرحلة توسّعاً كبيراً في ميدان التنمية وتراكم الموارد، لاسيّما في القطاعات المختلفة وارتفاع مستوى المعيشة والرفاه الاقتصادي.
أما في المرحلة الرابعة فقد رزح العراق تحت وطأة انكماش لعملية التنمية بسبب الحرب العراقية – الإيرانية العام 1980-1988، وفيما بعد غزو الكويت 1990، وحرب قوات التحالف ضد العراق 1991، والحصار الدولي الذي فُرِضَ عليه حتى احتلاله العام 2003،حيث تعرّضت التنمية إلى انهيار شامل، خصوصاً مع تفكّك بنية الدولة وحل الجيش العراقي واستشراء الطائفية والإرهاب والفساد، ولعلّ المرحلتين الأخيرتين مهدتا لنشر بذور الإرهاب، سواء بإسقاطه خارجياً أو بانتعاشه داخلياً.
وإذا ما أضفنا إلى هذه العوامل عدم عدالة العلاقات الدولية والشعور بالغبن والإجحاف الذي تعاني منه شعوب الأمة العربية ولاسيّما الشعب الفلسطيني، الذي تعرّض للظلم والاحتلال والعدوان لما يقارب من سبعة عقود من الزمان، فإننا نستطيع أن ندرك أن بيئة حاضنة لنشوء الإرهاب لا تزال موجودة، بل إنها شكّلت مرتعاً له حيث أخذت تتكوّن على نطاق واسع لاسيّما بعد الاحتلال، وهذه وجدت ذرائع عديدة لممارسة الإرهاب باسم الدين أو المذهب، وذلك كغطاء شرعي لتبرير جرائمها، بالضد من الدين ذاته وتعاليمه السمحاء ورسالته الإنسانية.
III
إذا كانت معركة الموصل قد ألحقت خسارة فادحة بداعش وبمستقبل الداعشية في العراق، فإن انعكاساتها ستعود أيضاً على العالم العربي، لكن المعركة مع داعش والإرهاب الدولي سوف لا تنتهي سريعاً، حسبما صرّح به الجنرال الأمريكي ستيفن تاونسند بقوله “إن الحرب بعيدة كل البعد عن نهاياتها. وكانت بعض المخاوف قد عبّرت عن نفسها باحتمال وجود “خلايا نائمة” قد تقوم بتنفيذ بعض العمليات الهجومية الانتحارية، إضافة إلى قلق من احتمال اندلاع صراعات طائفية وإثنية على مراكز النفوذ، وقال يان كوبيش ممثل الأمم المتحدة في العراق :” إن سحق داعش في الموصل لا يعني نهاية الحرب على الإرهاب وأمام العراق المزيد من العمل للتعافي الكامل وإرساء السلام الدائم”.
يمكن القول إنه من السابق لأوانه اعتبار هزيمة داعش في الموصل هزيمة للداعشية، فالمعركة قد تطول لفترة غير قصيرة ، لأن التنظيم الذي عُرف بالمكر والخداع واستخدام تاكتيكات متنوّعة وبارعة ومفاجئة، قد يستخدم خططاً جديدة وبديلة، تعويضاً عن قيام الدولة والركون إلى بناء مؤسساتها، بالعودة إلى ضرب المواقع لمنعها من الاستقرار وإعادة البناء، وسيستغل الخلافات حول مصير المناطق المحرّرة وعائديتها، خصوصاً وهناك مناطق متنازع عليها في الموصل وبشكل خاص في كركوك، إضافة إلى ديالى، فضلاً عن الخلافات بين ما يسمّى بالسنّية السياسية، حول مناطق النفوذ، وبدا الأمر واضحاً من انعقاد مؤتمرين للسنّة بدلا ً من واحد واختلافات حول التمثيل، إضافة إلى خلافات حادة بين الشيعية السياسية، حول مصير الحشد الشعبي وقياداته ومحاولة توظيف النصر العسكري لصالح هذه الجماعة الشيعية أو تلك، فضلاً عن اختلافات وصراعات كردية- كردية، ساهم في اندلاعها الموقف من الاستفتاء الذي دعا له رئيس الإقليم مسعود البارزاني في 25 سبتمبر (أيلول) القادم.
الأمر لا يخص العراق وحده، فسوريا والتسويات التي ستجري فيها، لاسيّما بعد لقاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على هامش قمة العشرين، إضافة إلى مخرجات الأستانة “5”، وارتباط ذلك بتركيا وإيران،والأطراف الإقليمية الأخرى، كلّها ستكون مطروحة في إطار مواجهة المجتمع الدولي لداعش وللإرهاب الدولي.
IV
ولعلّ من الاستخلاصات المبكرة لذلك، القول بأنه ليس من المعقول والمنطقي أن تستمر الصيغة السياسية في العراق ذاتها، تلك التي تأسست بعد الاحتلال وفقاً لنظام المحاصصة الطائفي- والإثني، وقادت إلى اختناقات وردود فعل وتوترات وأعمال عنف وإرهاب وفساد، بسبب الشعور بالتهميش والتمييز وعدم المساواة. وقد يحتاج الأمر إلى إعادة النظر بالدستور ذاته المليء بالألغام، ولكن ذلك يحتاج إلى وحدة وطنية حقيقية وثقة وتوافق وطني ورغبة في التغيير الحقيقي.
كما لم يعد معقولاً أو منطقياً ما بعد الموصل أيضاً، ممارسة سياسات ترقيعية وتسويات ظرفية على أساس “ترضيات” بعقد المؤتمرات الصاخبة والخطابات الرنّانة وترديد الأناشيد الحماسية حول الوحدة الوطنية المزعومة في غياب المصالحة الوطنية والمجتمعية وتفاقم المشاكل بين بغداد وإربيل، بل وصولها إلى استعصاءات أحياناً في أجواء عدم الثقة والتهديد بانشطارات قد تكون خطرة على صعيد المنطقة كلها.
ولم يعد مناسباً أو ممكناً غضّ الطرف من جانب الدول الإقليمية والمجتمع الدولي الذي كانت سياستهما تقوم على اللّامبالاة أو حتى التشجيع غير المعلن أو المبطّن ببقاء الحال طالما بقيت ظواهر العنف والإرهاب خارج حدودهما، دون أن تدركا أن المنطقة متّصلة ومتواصلة مع دول الإقليم والعالم، وإن الإرهاب يمكن أن ينتقل إليهما وهو ما حصل فعلاً، فلم يعد درءه ممكناً، حيث لم ينجُ منه أي مجتمع أو دولة، سواء أكانت إيران أم تركيا أم غيرها مهما ادعت الحصانة والوقاية.
إن الخروج من دوامّة داعش ما بعد الموصل وتحرير جميع الأراضي العراقية يتطلّب مصارحة ومكاشفة بالأسباب التي أدت إلى ظهور داعش وقيام الداعشية، لأن ما يواجه العراق والمنطقة ما بعد تحرير الموصل، قد لا يقلّ أهمية إنْ لم يزدْ خطورة عمّا سبقها، خصوصاً لإعادة بناء ما خربته الحرب وإعادة النازحين واللاجئين إلى مناطقهم وتعويضهم والشروع بوضع خطط تنموية مستدامة وإنسانية وشاملة في جميع المجالات إستناداً إلى مبادئ المواطنة الأساس في الدولة العصرية الدستورية، وعلى أساس حوار مجتمعي ومصالحة حقيقية بعيداً عن المغالبة ووصولاً إلى عقد اجتماعي جديد يقوم على احترام حقوق الجميع.
وقد دلّت الكثير من التجارب الدولية إن التصدي للإرهاب لن يتم بمثله أي بالضد النوعي، ولكن بوسائل مختلفة، فالغايات الشريفة تتطلّب وسائل شريفة، والوسيلة العادلة هي من صلب الغاية العادلة، وإذا كان الظالم يستخدم وسائل ظالمة، فعكسه ينبغي للعادل أن يستخدم وسائل عادلة، وهذه كثيرة ومتنوّعة، وذلك لأن الجريمة لا تحارب بالجريمة، فجريمتان لا تنتجان عدالة.