هذا هو المقال الثالث والأخير في سلسلة مقالات ( ثقافة النزول إلى الشوارع ) الذي خصصناه للإجابة على سؤال : لماذا لا ينزل العراقيون إلى الشوارع ؟ تعمدنا تأخيره حتى يبرد المعلِّقون من تعليقاتهم الفورية الحامية على الحدث المصري , وينتهي الجميع من الإدلاء بآرائهم , ولنأخذ فسحة من التأمّل والإستراحة , ثم بعد ذلك نعرض رأينا للنقاش والتداول .
لنجاح أي تظاهرة عارمة في العراق – أو حتى في أي بلد بالعالم – يجب توّفر الشروط التالية :
أولا : القيادة
لا يمكن إنزال الملايين , أو حتى الإلوف من الجماهير العراقية إلى الشوارع من دون قيادة , وإلاّ سوف يصبح التظاهر عملاً إعتباطياً غوغائياً تخريبياً , لا يؤدي إلى الإصلاح والنجاح .
فالقيادة بحكم مسؤوليتها السياسية تكون مسؤولة أمام الشعب العراقي والمتظاهرين والحكومة , تدلل على قدرتها على قيادة الجماهير من جهة , ودرجة إنضباط وإلتزام المتظاهرين بها من جهة أخرى .
ففي حالة حصول أي إختراق أو تعدّي أو تخريب لمؤسسات الدولة أو ممتلكات الناس , تستطيع السلطات مساءلة القائمين والداعين إلى التظاهر . ولدينا نحن في العراق منذ سقوط الديكتاتورية وإلى اليوم سجل حافل من التخريب والإعتداءات على مؤسسات الدولة وممتلكات الناس . حيث يستغل المتهورون والمتربصون وأصحاب النوايا السيئة فرص الإضطراب , للإنقضاض على الغنائم والفرائس , والإقتصاص من الآخرين .
أما في حالة غياب القيادة المسؤولة والحقيقية, فإن الإنفلات يبلغ أقصى مدياته ودرجاته . ونحن في العراق لا نملك حتى هذه اللحظة قيادة بتلك المواصفات , لديها لقدرة على إخراج الناس إلى الشوارع .. نعم شهدنا ولاحظنا خروج التيار الصدري للتظاهر خلال السنوات السابقة , ولكن هذا الخروج يحتاج إلى تحليل خاص نعالجه بمعزل عن هذا العنوان , لأننا عند إستخدام أدوات التحليل العلمي سنجد إن المسألة أبعد وأعمق من موضوعة القيادة القادرة على إنزال الناس إلى الشوارع .
يتساءل كثيرون : هل من المعقول خروج الملايين سنوياً لزيارة كربلاء المقدسة في محرّم وصفر , بينما الآخرون لا يستطيعون إخراج تظاهرة من بضعة آلاف ؟ الجواب هو : أن جميع العوامل التي نذكرها هنا متوفرة في قصة المسير إلى كربلاء . فالهدف كبير والقضية أكبر , والمال يُصرَف من دون حساب , والأجهزة الأمنيّة والمسلّحة تتحوّل إلى حامية للزوّار وليست متصديّة لهم , فضلاً عن توّفر عنصر القيادة . فالزوّار كلهم ينتظمون في مواكب , والمواكب لديها قادة ورؤساء , وحتى ذاك الذي لا ينتظم في موكب ويخرج سائراً إلى الحسين ( ع ) على حسابه الخاص , ينتظم في الأخير في موكب , أما مناماً أو إستراحة أو أكلاً أو شرباً أو ترديداً لشعار أو رَدَّة حسينية .
إنها قيادة , وقد لاحظنا – منذ عقود – محاولات بائسة وتافهة لأحزاب وتنظيمات حزبيّة تدّعي الإسلام إستغلال هذه المناسبة لرفع شعاراتها , أو إلقاء الخطب السياسية المخزية خلالها , بينما الزوّار لا يستمعون إليها ولا يلتفتون إلى ملقيها .
ثانياً : الهدف ( القضيّة )
ما هو الهدف ( القضيّة ) من النزول إلى الشوارع ؟ هل مثلاً لتحقيق مكسب آني أو مطلب جماهيري معيّن , أم لإسقاط الحكومة ؟
إذا كان الأول , فعلامَ هذا النزول والتكلّف ؟ تحقيق المكسب الآني تقوم به الأطراف المشاركة بالحكومة من خلال لقاءاتها واجتماعاتها المستمرة في مجلس الوزراء , ومن خلال إشغالها للوزارات ومؤسسات الدولة , فهي تتفاوض يومياً مع سائر الأطراف لتحقيق المكاسب والإمتيازات لجماعاتها والمرتبطين بها .
أما المطلب الجماهيري , فليس لدينا حتى الآن منظمات مجتمع مدني ومؤسسات فكرية ومعاهد دراسات وأحزاب ديمقراطية فاعلة بالعراق , تتكفل أمر تبني المطالب الجماهيرية بصورة جديّة وناجحة , بحيث تتمكن من الإيعاز إلى أعضائها بالنزول إلى الشوارع , وهؤلاء يمتثلون لأوامرها ونشاطاتها .. نعم لدينا على الورق آلاف ( الرقم آلاف وليس مئات ) من المسميات الكاذبة والمزيّفة للمنظمات والمعاهد والمؤسسات وغيرها , من تلك التي أسست لأغراض الفوز بالمُنَح الأميريكية , التي خصصتها الولايات المتحدة لتطوير الدول الديمقراطية والخارجة من الأنظمة الإستبدادية , سيما في بلدنا العراق بعد 2003م .
لكن هذه توزعت بين هاربة إلى الخارج , أو متخفيّة عن الأنظار , أو فاشلة في عملها , أو متوزعة على الأحزاب والتنظيمات الحاكمة , أو … إلى آخره . ولم يبقَ لدينا منها إلاّ القلة القليلة التي تعمل وسط بيئة نافرة وغير ملائمة بالمرة , فضلاً عن أحزاب صادقة ومناضلة , لكنها تتعرّض إلى أبشع حملة تشويهية وتسقيطية لأدوارها .
أما إذا كان الهدف ( القضيّة ) من إنزال الجماهير إلى الشوارع هو إسقاط الحكومة ( الثاني ) فالسؤال الفوري الذي يتبادر إلى الذهن هو : ما هو البديل ؟ وما هو مشروع الحكم التالي ؟
الجواب أيضاً على هذه التساؤلات هو : لا يوجد حتى هذه اللحظة مشروع حكم جاهز ومعّد , يحظى بقبول الأحزاب خارج السلطة , وبتفهم شعبي وتأييد له , بحيث يستطيع أن يحلَّ فوراً بعد إسقاط الحكومة .
على إفتراض إن مجموعة ما نجحت في إخراج التظاهرات العراقية إلى الشوارع , مطالبةً بإسقاط الحكومة الحالية , فمَنْ الذي سيأتي أو سيحلّ مكانها ؟ الجواب بمنتهى البساطة : الحكومة نفسها , والوزراء ذاتهم , والتنظيمات والأحزاب المتقاسمة للسلطة عينها , وليس أحد من خارجها .. إذاً ما الفائدة من التظاهر ؟
ليس لدى العراقيين إتفاق على تحديد الهدف ( القضيّة ) وهنا يلعب العامل الطائفي دوراً كبيراً في تعدده واختلافه . ففي الوقت الذي يطالب سُنَّة الوسط , الأنبار وصلاح الدين بإسقاط الحكومة في إعتصام وتظاهرات مستمرة , إكتفى شيعة الجنوب بتظاهرات متقطعة وصغيرة بمطالبات من الحكومة , مثل توفير الكهرباء وزيادة رواتب المتقاعدين وتوفير التعيينات للعاطلين عن العمل ومحاكمة قتلة المدرّب محمد عباس .. هذه المطالبات لو وفرتها الحكومة , أو حققت بعضها لساهم ذلك في بقائها واستمرارها , وليس إسقاطها .. معنى هذا إن الهدف هنا غير موّحد .
ثالثاً : المال
المال أو الدعم اللوجستي هو مقوِّمُّ أساس لنجاح أي تظاهرات تنزل إلى الشوارع , فمن دونه لا يمكن إقناع الناس بالتظاهر فقط بمبادىء وشعارات , ومن دونه لا يمكن إدامة التظاهرات وتواصلها لحين تحقق الهدف ( القضيّة ) أو المطلب الرئيس . المال أو الدعم اللوجستي هو عماد أي مشروع أو نشاط سياسي . لا نتحدث هنا عن شراء المواقف والنشاطات , على الرغم من إننا نعيش في سوق نخاسة سياسية وصفقات بيع وشراء فاضحة , إنما نفترض من باب أننا نجحنا في إقناع الناس وتحشيدهم . فالتظاهرات تحتاج إلى مصاريف ( نقل , لافتات , أعلام , إعلام , إستضافات , تغذية , مياه , خيام … الخ ) فمَنْ يتكفل بكل هذه ؟
لعل مَنْ يتصوّر بأنه في الإمكان القيام بتظاهرات عارمة وملفتة للإعلام والرأي العام العالمي بتكاليف وجهود بسيطة , وليس إلى أموال وجهود جبّارة فهو على وهمٍ كبير , وهو يتغافل عن الحقيقة ويهرب من الواقع .
إنّ كل ما نشاهده من مظاهر إحتجاجات وتظاهرات عارمة في دول عربية – وحتى غربيّة – يقف خلفها تمويل ضخم وهائل , تقوم به دول أو تجّار كبار أو مؤسسات تمتلك ثروات طائلة , يضاف إليها في بلدنا العراق وزارات محاصصة تابعة للأحزاب تقتطع حصصا من الأموال والعقود المخصصة للدولة , وتصرفها على نشاطاتها الخاصة .
إن مشكلة المال مشكلة مزمنة في العمل السياسي , وليس أمام السياسي إلاّ أحد طريقين , أما أن يعتمد على التمويل الوطني الخاص , وهو غالباً ما يكون شحيحاً , أو يطرق أبواب الدول لدعمه , وهذه يترتب عليها مصادرة قراره السياسي واستقلاليته , فضلاً عن الإنتقاص من مصلحة وطنه العليا .
ثمة رأي ثالث أكثر براغماتية يقول : عليك أن تعمل بمالك الوطني , وبعد أن تقطع شوطاً وتؤسس وجوداً وكياناً , سيكون باستطاعتك التفاهم مع الدول . هذا من شأنه أن يقلل من التأثير على القرار السياسي , أو إبداء المزيد من التنازلات , أو ما إلى ذلك من إخلال بالمواقف الوطنيّة . بيد إن هذا الرأي يتطلب تحقيقه زمناً طويلاً وصبراً أطول وأشّد .
في العراق حتى الآن المشاريع الوطنية فقيرة لشُّحِّ المال , أما المشاريع التي تُدار من الخارج , أو تعمل لمصلحة الخارج فهي غنيّة ومليئة مالياً للأسف .
رابعاً : السند الأمني ( المسلّح )
لا يمكن لأي شعب في العالم أن ينزل إلى الشوارع يتظاهر ضد السلطة السياسية لتحقيق مطالب سياسية , ما لم يكن مطمئنا إلى حمايته من بطش السلطة وتهوّر أو إنفلات أجهزتها الأمنية والعسكرية المسلّحة . وإذا ما إعترض أحد قائلاً : بأن هذا هو ما يجري في الدول الديمقراطية , أو الدول التي لديها تقاليد عسكرية محترمة , وليس بالدول الديكتاتورية .
الجواب على هذا الإعتراض بأن في الدول الديكتاتورية تكون الغاية من التظاهرات مواجهة السلطة الحاكمة , أي بمعنى إن المتظاهر يكون إنتحارياً أو فدائياً , وليس متظاهراً سلمياً لديه مطالب سياسية سلمية .
نحن نتحدث عن الدول الديمقراطية , أو النازعة نحو الديمقراطية , فضلاً عن الدول الإستبدادية , ولكنها التي تمتلك تقاليد عسكرية معتبرة . ولعله من المؤسف القول بأن بلدنا العراق لا يُصنّف ضمن هذين التصنيفين . وإذا أردنا أن نتجاوز على بعض الحقائق ونضعه في خانة الدول النازعة نحو الديمقراطية , فإننا سنواجه جيشاً ناشئاً جديداً ليس لديه أية تقاليد عسكرية معتبرة .
جيشنا السابق جيش الإنقلابات العسكرية , الذي يشهد تاريخه على قتله لمؤسسه ( جعفر العسكري ) وقيامه بأول إنقلاب عسكري بالمنطقة ( إنقلاب بكر صدقي عام 1936م ) وتوالي الإنقلابات الملكية والجمهورية لاحقاً ( 1941, 1958, 1963, 1968) حتى وصلنا إلى عهد صدّام حسين عام 1979م , فحاول مستميتاً تحويله إلى جيش مدّجن مرعوب من نفسه .. بيد أن محاولات التدجين وزراعة الرعب لم تمنعا الجيش من محاولات إنقلابية واغتيالات عدة قام بها , لكنها كلها باءت بالفشل الذريع , ولهذا لم تُذكر .
حتى وصلنا أخيراً إلى عهدنا الحالي . وبدلاً من أن نبني جيشاً عقائدياً محترفاً قوياً نزرع فيه تقاليد الإخلاص للشعب والوطن , راح مَنْ يتصدّر الحكم يكرر أخطاء الماضي البغيض , ويتبنى إشاعة مفاهيم الإبتزاز والإخواء بين قادته وجنوده , ليجعل منهم مشاريع إخلاص وامتثال لشخصه وقيادته .
إنّ جيشاً وأجهزةً أمنيّةً تُبنى على هذه الأُسس والمفاهيم والمعاني المشوَّهَة , لا يطمئن إليها الشعب , ولا يثق بها , بل ولا يحترمها , ولا نستبعد إذا ما استمر القائد العام للقوات المسلّحة بهذه السياسة , سيأتي اليوم الذي سينتقم فيه الشعب العراقي من جيشه وأجهزته الأمنيّة ويثور ضدها , وليس فقط ضد الحكومة .
لا أحد يفهم حتى هذه اللحظة , بأن هذا الجيش وهذه الأجهزة الأمنيّة هي ملك الشعب وليست ملكاً لأحد , وليس لأحد فضل له عليها .. لا أحد يريد أن يفهم , لا من الحكومة ولا من القوات المسلّحة ولا من بسطاء الناس للأسف الشديد .
ولكي ننتهي من كل ما تقدّم أعلاه نقول : لا نرى في الوقت الحالي أو القريب إن بإستطاعة العراقيين النزول إلى الشوارع على غرار المصريين أو غيرهم لإسقاط حكومتهم , لا بل ولا حتى للمطالبة بأدنى حق من حقوقهم والإصرار على نيله . فنحن نحتاج إلى وقت طويل , ربما بعدد السنين التي مضت منذ سقوط صدّام وإلى اليوم , كي تتبلور القيادة الصحيحة , ونحدد الهدف ( القضية ) ويتوفر المال , وتعي القوات المسلّحة دورها الحقيقي .. وقبل هذا كله أن يزداد وعي الشعب بحقوقه , واحترامه للتظاهر والإحتجاج .