2 نوفمبر، 2024 8:31 م
Search
Close this search box.

ماذا علمنا درس مصر ؟

ماذا علمنا درس مصر ؟

كنت قد كتبت مقال سابق عن نتائج الانتخابات في مصر وليبيا ، اذ كما هو معروف تصدر الاسلام السياسي نتائج الانتخابات التشريعية  في مصر ، ومعها بدا مشروع اسلمة الدولة على الطريقة الاخوانية. بينما تصدر المعتدلون القريبون من الدولة المدنية  المشهد السياسي  في ليبيا .
في حينها عتبت على المصريين اختيارهم اصحاب اللحى ـ او ما يسمى النفاق السياسي ،عفوا ، الاسلام السياسي ؟  واشرت  فيه كيف يقع  شعب حي  مثل الشعب المصري، الذي يحب الحياة  من خلال ابداعه  في مجالات  الفنون و الادب والعلوم والثقافة  والنكتة ،ويصنع من احزانه افراحا  ومن يأسه او هزيمته انتصارات (نكسة حزيران ـ حرب اكتوبر العبور )  ، بخطيئة كبرى، ويسمح لقوى الظلام ان تطفأ سراج الحضارة فيه ؟ وفي ذات الوقت هنأت الشعب الليبي على اختياره لقوة سياسية قريبة لمفهوم الدولة المدنية .
 وعلقت في حينها على المفارقة  ما بين الشعبين المصري والليبي ،اذ كان من المتوقع ان الشعب الليبي قد يختار الاسلام السياسي ليحكمه ، بسبب سيطرت الاسلاميين المتشددين على مشهد الاطاحة بنظام القذافي ، وان يختار الشعب المصري قوة سياسية تؤمن بالمجتمع المدني  لكن الذي جرى هو العكس .
اليسار والاحياء الفقيرة، ذات الكثافة السكانية العالية
 في القرن الماضي كانت الشيوعية عنوانا  سياسيا كبير، يحسب له الف حساب . فقد  كان لها  رصيدا سياسيا وثقلا شعبيا كبيرا ، اذ تمكنت من الانبساط افقيا  والانتشار عبر القيادة عموديا . فالمعروف ان قواعدها وحواضنها المهمة تتواجد في المناطق الشعبية الفقيرة ، ولا يخفى ان في كل دول العالم تقريبا ، لا سيما الفقيرة منها ، تمتازهذه المناطق بكثافة سكانية عاليا . اذ ان معادلة الفقر والجهل ترتبط  ، عادة  ، بموضوع زيادة الانجاب . ومما يزيد الطين بلة ان اسر تلك المناطق لا تعطي اي اعتبار او اهتمام لموضوع تنظيم الاسرة والحد من زيادة عدد افرادها ، كي يكون متناسبا او مقاربا قدر المستطاع  بين ما تحصل عليه ، وفي الاغلب يكون شحيح، من دخل مادي وبين عدد افراد الاسرة ، لا بل نجدها  تطبق نظرية التناسل الارنبية . فالمرء ما ان يدخل الى هذه الاحياء او العشوائيات البائسة  ، حتى يفهم ان جزء كبيرمن البؤس الذي يعانون منه  سببه عدم تنظيم الاسرة لموضوع الانجاب . وهذا الامر ينقلب عكسيا اذا ما قورنت مع الشرائح او الطبقات الثرية او المتوسطة ، اذ بالرغم من انهم يمتلكون  الوفرة المالية الا ان هناك تحفظ كبير على زيادة النسل, أي بدرجة اهتمام اكبر بتنظيم الاسرة .
 بقدرة تخطيط كبيرة ونتيجة طبيعية جدا لمفاهيم الايدلوجيا الشيوعية ، التي تعتمد اعتمادا كليا في بنيتها العقائدية على الطبقة المسحوقة والفقيرة ، وخير من يمثلها ، اصحاب الياقات الزرق الطبقة العاملة  ، تغلغلت احزاب اليسار بكل نماذجها ، وكان الاحزاب الشيوعية صاحبة الكعب العالي ، كما يقال ، والحضوة الكبيرة لدى هذه الطبقة ، وهي تتمترس في الاحياء والعشوائيات ، لتشكل كثافة سكانية كبيرة جدا قياسا لطبقات وشرائح المجتمع الاخرى، والتي تمتلك المال والنفوذ لكنها تفتقر افتقار كبيرا  للكثافة العددية . بما ان نظام وشكل الحكم السياسي  في اغلب دول العالم الفقيرة ، وفي مقدمتها الدول العربية  ، كان دكتاتوريا ومستبدا ولا يسمح باجراء اية انتخابات ديمقراطية حقة ، لذا لم يؤثر هذا التدفق والكثافة السكانية العالية في تغير المعادلة والتركيبة السياسية ، وبالتالي لم تتاح الفرصة للاحزاب الشيوعية بأن تستثمرهذه الميزة الخطيرة سياسيا ، كي تتبوأ الحكم من خلال الاصوات ذات الوفرة العالية.
الاسلام السياسي  والاحياء الفقيرة، ذات الكثافة السكانية العالية
مع انكفاء الاحزاب الشيوعية  في ثمانينات القرن الماضي ،في تلك الدول، نتيجة البطش والتنكيل ، وايضا الجمود العقائدي والتبعية الصماء للاتحاد السوفيتي  ، وسقوط الاخير في تسعنيات القرن ذاته، وتفككه الى دويلات ومعه  ما كان يعرف بدول اوربا الشرقية . نكست رايات الاحزاب الشيوعية  في المنطقة ، واحيل اتباعهم الى التقاعد في المقاهي والحانات الرخيصة يتغنون بامجاد الماضي التليد ويتسلون بمدى معرفتهم لاسماء زوجات وابناء قادة الحزب الشيوعي الكبار.
هنا سوف تخلى الساحة ، ذات الكثافة السكانية العالية المتواجدة في المدن والعشوائيات الفقيرة ، لا سيما في ثمانينيات القرن الماضي ، من حضوة اليسار ، ومع تأسيس جمهورية ايران الاسلامية ، التي  لعبت دورا كبيرا في تعزيز الثقة بالنفس لدى لاحزاب الاسلامية في المنطقة ، بأن تتبوأ هي ايضا السلطة  في بلدانها. فبدأت تتحرك لملء الفراغ السياسي  الذي خلفه تقهقر الشيوعيين سياسيا وعمليا في هذه المناطق . وبدا جليا سعيها للتوسع افقيا بشكل كبير لتؤسس لنفوذ قوي بين جماهير المناطق الفقيرة المحرومة التي تحلم برغيف الخبز والعيش بكرامة . وهذا ما كانت توعدها به الاحزاب الشيوعية ، سابقا ، عبر شعار وطن حرة وشعب سعيد (مثلا ), وتحقيق العدالة الاجتماعية والقضاء على الفقر وجعل الارض جنة لساكنيها من خلال تطبيق النظام الشيوعي.  ليقوم الاسلام السياسي باستبدال هذه الشعارات و الاحلام بشعار  (الاسلام هو الحل ) وان البلاء كل البلاء كان  بسبب ابتعادنا عن حكم الله وعدم تطبيق الشريعة الاسلامية على العباد والبلاد . وإذا ما تم تطبيقها فسيتم توفير السكن ومن المأكل ما لذ وطاب وانهرا من الخمر والعسل وحور العين ، اي سيجعل الاسلام السياسي الناس تعيش في جنة ما بعدها جنة، لكن اين؟ فوق، في السماء وليس، تحت ، اي على الارض بعكس الشيوعية التي حاولت ان تجعل من ،التحت ، الارض جنة من دون ، الفوق ، السماء. 
ديمقرطية الاحياء الفقيرة ، ذات الكثافة السكانية العالية
تسعى تنظيمات الاسلام السياسي الى بناء قواعد شعبية واسعة وكبيرة ، ومحاولة السيطرة التامة على تفكير الناس، وفرض نمط معين للحياة يبدأ من الملبس مرورا بأستخدام الفاظ ومصطلحات محدده. وهكذا اصبح للاسلام السياسي بنية قوية ، مثلما كان لليسار . و كان اهمال الحكومات لهذه المناطق الفقيرة من وسائل الخدمات ومعالجة تفشي البطالة والحرمان والبؤس الذي يعيشه سكانها واحدا من العوامل والاسباب التي شجعت على نمو هذا النفوذ بقوة وسرعة . اذ كان البحث جار ، من قبل سكان تلك المناطق المعدمة والمسحوقة ، على قدم وساق عن منقذ يخرجهم من جحيم العوز والفاقة والمهانة ، الى جنة العيش ورغيدها ، وطبعا .. كان الشعار السحري الاسلام هو( الحل )  .
   مثلها مثل الاحزاب الشيوعية ، فان احزاب الاسلام السياسي لم تتح لها الفرصة الحقيقية  ، بالرغم من بروز نجمها في نهايات القرن الماضي وبداية القرن الحالي ، من استثمار هذه الكثافة الجماهير ،بسب شكل ونظام الحكم الفردي المستبد في المنطقة ، كما نوهنا بذلك سابقا  ، وتحويلها الى ارقام ورصيد انتخابي .
 اليوم ، وبعد حلول فصل الربيع العربي ، وتعميم فكرة الديمقرطية عبر صناديق الاقتراع، فان الحظ و الظروف ونتيجة لتنظيم صفوفها جيدا ، فان شمس احزاب الاسلام السياسي ستشرق لكنها ستحرق الاخضر واليابس كما يقال ، بسبب ارتفاع درجات حرارتها العالية ، مستغلة اليات ومعايير الفوز في النظام الانتخابي الذي يعتمد اعتمادا كليا على اعداد الاصوات كأعداد جامدة تسير كما يسير القطيع ، من دون النظر الى الكفاءة الفكرية والعلمية والادارية والبرنامج التنموي للمرشح ، هكذا تكون الديمقراطية في  النامية او المتخلفة ،  سمها ما تشاء ، ديمقرطية الاعداد الصماء الجامدة ، فيها يتحول الانسان الى رقم جماد حقيقي بهذا المعنى ، من دون ان يكون فاعلا حقيقيا في التغيير نحو الاحسن بل قل نحو الاسوأ .
اذن تمكن الاسلام السياسي من السيطرة على النظام السياسي في عدد من الدول العربية من خلال تنظيم صفوفه جيدا وانتشاره الواسع في الاماكن ذات الكثافة السكانية العالية الفقيرة ، وتوجيه خطابه المنتج سابقا والمعد حاليا لتغير بنية وشكل ومضمون فكرة الدولة والمجتمع لدى الشعوب العربية ، وتحويلها من فكرة المواطنة  والحكم للشعب ، الى فكرة  الاسلمة  والحكم لله .

الدرس المصري و انكفاء المجتمع المدني
سبب نجاح الاسلام السياسي في تسلق سلم السلطة هو انكفاء قوى المجتمع المدني ، مثلما انكفأ اليسار ما بين ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي عن قواعده الشعبية ، وانكفاء التيارات اللبرالية والعلمانية التي تؤمن بالمجتمع مدني،عن التمترس في الاحياء والمدن الفقيرة، وعدم رص صفوفها بكتلة واحدة ، وعزوف الكثير منهم عن المشاركة في الانتخابات ، وبالتالي تم تغيير كفة الميزان لصالح اصوات الاسلام السياسي .
في الانتخابات الاخيرة التي جرت في مصر،  شكلت نسبة اعداد المشاركين في التصويت بحدود 50% من اعداد الناخبين ، نالت احزاب الاسلام السياسي  25,5 %منها  ، بينما حصلت الاحزاب اللبرالية والعلمانية  على 24,5 تقريبا ، وهذا يعني عزوف 50% ممن يشكلون ثقلا حقيقيا في تغيير نتائج الانتخابات . واذا ما علمنا ان احزاب الاسلام السياسي في مصر كانت تنتظر الفرصة للاستيلاء على السلطة م يربو على الثمانين عام ،وقد جاءتها الفرصة الذهبية الان ، ومن اجل تحقيقها ،  فانها استنفرت كل طاقاتها المادية والمعنوية وقامت بتعبئة قواعدها الشعبية للزحف نحو صناديق الاقتراع باعتباره واجبا شرعيا ، لذا يعتقد ان جماهير الاسلام السياسي قد استنفرت كلها تقريبا ، وهذا يعطينا مؤشرا ، جد مهم ، لمعرفة اعداد والحجم الحقيقي للاسلام السياسي ومدى ثقله سياسيا في مصر، اذ اتضح انه لا يتعد ، في الانتخابات الاخيرة ، في احسن الحالات الـ 30% من الناخبين ، بينما المتبقي هو 70% اغلبهم من دعاة الدولة المدنية تقريبا ، وهكذا تتضح الصورة اكثر فاكثر انهم يشكلون اقلية في مجتمعاتهم واكثرية فقط بصراخهم ونعيقهم المزعج العالي .
لعزوف 50 % من الناخبين عن المشاركة في الانتخابات التي جرت في مصر، فانهم قد سمحوا وساهموا ، من دون ان يعوا ، بصعود الاسلام السياسي الى الحكم  والذي سيسعى جاهدا لتغيير جينات المجتمع المدني المصري.
في هذه المنعطف الخطير  ، شعر هذا الـ 70 % من المجتمع المصري ان هويته المدنية سوف تمحى ، وتحل بدلا منها هوية دخيلة عليه  لا تمت له بأية صلة،  فانتفض بمظاهرات كبيرة جدا قدرت بعشرات الملايين ، جزء كبير منهم كان هو من نسبة 50% التي عزفت عن المشاركة في الانتخابات ، وشعرت بالذنب الكبير ، وبالنتائج الكارثية التي نجمت عن عدم المشاركة في الانتخابات. لذا حشدت ورصت صفوفها من جديد ، وانطلقت لتغيير كفة الميزان لصالحها ، لصالح المجتمع المدني ، وليس الاخواني ، وقالت كلمتها لن يتأسلم المجتمع المصري لانه اساسا مسلم  لكنه مجتمع مدني عنوانه المواطنة ،والحرية والعدل الاجتماعي والمساواة هي الحل ، وليس الاسلام ،السياسي ، هو الحل .
 العبرة ، كل العبرة  ، للشعوب التي تحررت من مخالب وانياب الاستبداد والدكتاتورية والى كل من يعشق الحرية ومبادىء حقوق الانسان والى كل من يعشق العدالة الاجتماعية والمساواة ، شكلوا كتلة قوية تكون صمام الامان لبناء مجتمع مدني حر ، وذلك من خلال المشاركة الحقيقية الفاعلة  ، وبكثافة عالية جدا  ،في اية انتخابات  قادمة ، كي لا تتركوها ، للذي اذا استلمها فانه ( لا يعطيها ).

أحدث المقالات

أحدث المقالات