إنحدارنا من الطبقة الوسطى، وفر لنا بيتاً يؤوينا، وعيشة مريحة، وتعليماً مقبولاً، لذا كنا على خطى آبائنا أن نكون كما كانوا في سلك الوظيفة الذي تمرغنا في ترابه، متوقعين أن نبني كما بنوا، ونترك لأولادنا كما تركوا لنا، وفاتنا أن التقلبات التي شهدتها البلاد في ظل فوضى طبقية المجتمع، وظهور طبقة محدثة “أخذت الجمل بما حمل”، بما في ذلك الطبقة الوسطى الذي ضاع حقها في العيش الطبيعي المتمثل بقول نبينا عليه الصلاة والسلام ” من كان آمناً في سربه ، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا”، ولكم أن يطبقوا ذلك على واقعنا لتروا ماذا بقى لنا، وماذا أبقينا لأولادنا؟
فالأسرة الكبيرة انشطرت داخل البيت الواحد، وتقاسمت حصصها، واختفت الحدائق الزاهرة، وتناصفت الغرف، ووضعت العوازل من الجدران، وسط رضى الورثة الذين لم يفتأوا يذكرون فضل آبائهم عليهم، ويدعون لهم بالرحمات إن لم يتركوهم بلا سكن.
أزمة السكن تعاظمت من دون حل حقيقي، سوى انها كانت مادة مؤثرة في الدعايات الإنتخابية، لدغدغة مشاعرالناخبين، حتى كان شعار “بيت لكل مواطن” يتراءى مع كل حملة، ثم يُضم في الأدراج للدورة اللاحقة، ولعلكم تذكرون شقق “بسماية” التي كان يبقشش بها أحد المرشحين الكبار من دائمي العضوية في السلطة والصولجان في أثناء برنامجه الإنتخابي!!
وسط هذه الأزمة الكؤود، أخذ “حيتان الصدفة”، يتصيدون في الأحياء الراقية، ليشتروا فيها، ويرفعون أسعار العقارات الى حد أن المتر المربع الواحد في العراق بات الأغلى من بين دول العالم المتقدم، ولعل هذا مادفع ملاك البساتين في ظل تراجع الزراعة، الى توزيعها كقطع سكنية، غير آبهين بالقانون الذي يمنع تحويل الطابو الزراعي، الى طابو سكني، لكن مراكز القوى كفيلة بتبديد مخاوفهم، كما أن الهبات كفيلة بتطويع الزراعي الى سكني.
الغريب أن أمانة بغداد لاتراعي جسامة هذه الأزمة، التي وصل العجز فيها الى (4) ملايين وحدة سكنية، إضافة الى أن 9% من العراقيين يسكنون في عشوائيات، بإحصائيات حكومية، إذ تمنح الإجازات بلا ترو لهدم الدور داخل الأحياء السكنية، لبناء مولات وأسواق تجارية، وعمارات مكتبية، تجاوزاً على التصنيف السكاني .
بصفتي مواطن من الطبقة الوسطى المسحوقة، شريحة المتقاعدين، لا أعد أولادي بأن أترك لهم كما ترك أبي!!
كما لاأمل لي بوعد حكومة السوداني، بإنشاء خمس مدن سكنية جديدة بأسلوب الإستثمار، لأن وعود سابقة جربناها وحلمنا بها مثل مشروع بسماية، ومشروع داري، وهلم جراً، لكن ” وما حيلة المضطر الا ركوبها”، لعل بعض ” الطفولة”، أن التنفيذ والتمويل سيكون عبر الإستثمار غير الحكومي، الأمر الذي سيحفز القطاع الخاص غير المعتمد على الأموال الحكومية، مما قد يجعل إمكانية تلكؤه أقل بكثير مما لو كان التنفيذ حكومياً، بيد أن الخوف من مراكز الإبتزاز التي لها اليد الطولى في عرقلة أي مشروع إن لم يكن لها نصيب، وهنا تكمن المشكلة!!