” كل نص هو في موقع انجاز الكلام”
بول ريكور، من النص إلى الفعل،
الوحي هو كلام الله المطلق المتعالي وقد تم إرساله إلى البشر تنزيلا وينتظر التبليغ والتفصيل والتطبيق، ولم يتم تدوينه والانتقال به من المستوى المقروء الشفوي إلى المستوى المكتوب والسجل المرقون إلا بعد الحفظ في القلوب والذكر بالأبصار والترتيل بالألسن والتجويد بالأنفس والتدبير بالأفهام والتفسير بالوقائع.
يوجد فرق كبير بين الوحي والنص، فليس كل وحي تم حفظه في نص وليس كل نص هو وحي منزل، بل هناك وحي تحطمت ألواحه التكوينية وهناك نصوص بشرية تضمنت أشياء طبيعية وعدة معطيات دنيوية.
لكن النص هو حكاية مترابطة وقصة مهيكلة تتكون من مجموعة من العناصر اللغوية التي تم نسجها وفق نظام لكي تعبر عن عالم متماسك ويشهد الارتفاع من جهة والانخفاض من جهة أخرى والحركة والسكون والإظهار والصمت وتوجد فيه كذلك القوة والضعف ويتم إسناده تارة وإلحاقه بغايته ويبلغ منتهاه طورا.
المعنى الحرفي هو عبارة النص، وما يقصد من السياق الذي يتنزل فيه يعد إشارة النص، أما المعقول منه بالروح والمدرك بالفكر منه فيسمى دلالة النص، بينما ما يستقيم الكلام عنه إلا بتقديره فهو مقتضى النص.
يجوز الحديث عن مكونات ثلاثة للنص: المكون اللفظي وما يتضمنه من الأصوات والمكون الدلالي وما يحيل إليه من معان والمكون التركيبي وما يقتضيه من تشبيك متسق للعلاقات والروابط اللغوية والمنطقية.
ليس هناك نص بكر يمثل اللحظة التأسيسية للكتابة وإنما كل نص هو تناص أو تقاطع بين نصوص سابقة، ولا يمكن الحديث عن ولادة نصية تامة دون كتابة وتدوين ودون انتقال الوجود من الشفوي إلى المرقون.
إن الوحي خطاب مقروء وبيان للناس بينما النص فضاء يختزن الوقائع والمفاهيم ناتج عن سبك وحبك. يكشف التأويل عن مقامات الوحي وأسباب نزوله وقصده ومستوى القبول به وطاقة الإخبار والإعلام فيه بينما يظهر التفسير عن توافق النص مع الواقع ومستويات التخيل وأشكال التداول وطرق الاستعمال.
ينبني الوحي على التكرار والاستمرار والإعجاز البياني والتفاعل مع المتلقين ضمن فضاء التجربة وآفاق انتظار، على خلاف ذلك يتجدد النص من خلال الترابط والتواصل وإعادة الإنتاج عن القراءة والاقتباس.
لا يتجدد الوحي إلا بانقطاع التراسل بين الفوق والتحت وبتدبير العقل للنقل واعتبار النظر للتجارب العملية فيه، بينما يفقد النص خزائنه الدلالية وهالته الجمالية وطاقته الإبداعية ورونقه بمرور سياقه وأفول مؤلفه وتبدل الحقبة التاريخية والظروف الاجتماعية المحيطة وإنهاك القوى المادية والرمزية التي أنتجته. هكذا الوحي حمال أوجه وتصارع الناس حول تنزيله وتأويله بينما النص يفقد صلته بمؤلفه يوم ينتهي منه.