18 ديسمبر، 2024 5:50 م

ماذا تبقى من الرئاسيات الفرنسية

ماذا تبقى من الرئاسيات الفرنسية

مهما كانت نتيجة الاقتراع الرئاسي فقد تضاعف من شدة الانقسامات وتربك مبدأ ‘العيش معا’ وتخلق جوا مكهربا قد تتسلل من بابه مارين لوبن إلى قصر الإيليزيه.

قبل أسابيع قليلة فقط، لم يكن يخطر على بال أحد أن يفكر ولو للحظة واحدة في طرح سؤال حول مدى شرعية الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة. ففي فرنسا ديمقراطية راسخة ومنذ الجنرال شارل ديغول أصبح ينظر إلى الرئاسيات في هذا البلد على أنها لقاء بين رجل وشعب، فالفرنسيون هم الذين يختارون رئيس جمهوريتهم مباشرة عن طريق اقتراع عام شفاف تضمنه إدارة محايدة تحت رقابة قضاء مستقل.

ولكن كل هذا ذهب في خبر كان، وبات الطعن في شرعية الرئيس المنتخب في 5 مايو القادم واقعا بعد المأزق الذي وقع فيه مرشح اليمين فرنسوا فيون في ما بات يعرف بـ“بينيلوب غايت” وعجز حزبه حتى الآن عن إبعاده بعد أن رشحه أكثر من 4 ملايين من أنصار اليمين في اقتراع تمهيدي قبل أن يناط اللثام عن وجهه السياسي الميكافيلي. هو الذي فاز بثقة الناخبين تحت يافطة “أخلقة” الحياة السياسية.

فبغض النظر عما إذا كان فرنسوا فيون قد مارس الفساد المالي أم لا، فإن تعنته في البقاء كمرشح رغم أنف حتى المقربين إليه، سيضع الحياة السياسية الفرنسية على كف عفريت، وستترك مغامرته في تحدي رجال الإعلام وجهاز القضاء والتقاليد السياسية الفرنسية آثارا كارثية متعددة، أخطرها العبث بالاستقرار السياسي في البلد، إذ مهمـا كانت نتـائج الانتخابات المقبلة فسيكون الـرئيس المنتخب المقبـل مطعـونا في شرعيته من قبل قطاع كبير من الفرنسيين.

وقد فات الأوان لاستدراك الوضع، وحتما ستعيش الجمهورية الخامسة عهدة رئاسية من أحلك عهداتها: فإن فاز فرنسوا فيون نفسه، وإن أصبح ذلك من الأمور المستبعدة بعد كل الـذي حدث، فستكون سلطته محدودة، سيكون رئيسا مغلول اليد ومتلعثم اللسان.

لقد صرح فيون في ندوة صحافية أنه سينسحب ولن يترشح لمنصب رئاسة الجمهورية، في حـالة ما إذا تم توجيه تهمة له من طرف العدالة، معتبرا أن ذلك سيكون مسا بشرفه، ثم ضرب بذلك الشرف عرض الحائط، وصمم أن يبقى مترشحا حتى وإن حدث ذلك. وهكذا يضعف كل الخطاب السياسي الفرنسي، ويخلع عنه المصداقية التي عرف بها.

وليس هذا فحسب، بل دخل فيون في حملة شرسة ضد القضاء والإعلام، فاتهم الأول بعدم الاستقلالية، والثاني بالتحامل عليه. وبدأ يستنجد بالشعب ويـؤلبه ضدهما. فكيف يمكن أن يفرض احترام العدالة كرئيس في حالة فوزه بعد أن مرّغ شرفها في الوحل وهو مترشح؟

وإن فاز أحد المنافسين الآخرين، فسيكون بدوره مرفوضا من قبل الشعب اليميني الذي سيستنكر “الرئاسة المسروقة” و“الاغتيال السياسي” و“الانقلاب القضائي” الذي كان ضحيته بطله فرنسوا فيـون، وهي نفس التهم التي يطلقها هو نفسه في حملته الانتخابية إن لم تكن أصبحت جوهر حملته بعد أن تيقن أن كلمته لم تعد تجد آذانا صاغية.

في بلد يعيش أزمة معنوية جراء المصاعب الاقتصادية والاجتماعية وخطر الهجمات الإرهابية، ويتصاعد فيه الغضب تجاه النخب السياسية، فمهما كانت نتيجة الاقتراع الرئاسي فقد تضاعف من شدة الانقسامات، وتزيد من توسيع الهوة بين المواطنين، وتربك مبدأ “العيش معا” والاختلاف، وتخلق جوا مكهربا مقيتا قد تتسلل من بابه زعيمة الجبهة الوطنية مارين لوبن إلى قصر الإيليزيه، وستكون بذلك الضربة الشعبوية القاضية التي تطيح بالجمهورية الخامسة أو ما تبقى منها، وستفتح الأبواب مشرعة على كل الأخطار، إذ سيتغلب الهوى والأحقاد على العقل والتبصر.
نقلا عن العرب