إعتاد البارعون في فضاء التشويش في العراق منذ عقود عديدة على تزييف الحقائق وتغيير الوقائع لصالح أجندات ومصالح حزبية وسياسية تارة، أو قومية وطائفية ومذهبية تارة أخرى، أو خدمة لأجندات إقليمية ودولية على حساب منع رؤية الصور الواضحة.
في عراق ما قبل 2003، عندما وصل النفاق الى ذروته، حولوا الإنقلاب والمؤامرة الى ثورة، ونزوات الرئيس الى أفكار البطل القومي، وقراراته ورغباته الى ضرورات تاريخية، والمنهاج الحزبي وقرارات مجلس قيادة المؤامرة الى دستور وقوانين. وبعد 2003 ونتيجة لقراءات خاطئة غيروا التحرير الى إحتلال، والفساد المأساوي غير المنتظر الى شطارة غير مسبوقة، ومن خلال وسائل الإعلام والتواصل الإجتماعي دمروا التفاهمات وأطلقوا على ممارسات خرق الدستور تسمية فرض القانون، وغيروا الهزائم والكوارث المكتملة الأركان الى إنتصارات وهمية، والتضليل المرفوض الى صمود مقبول ومنظم يدفع ثمنه العراقيون من دمائهم وأرواحهم وأموالهم. كما شنوا الحروب الشعواء كل الذين يطرحون الأسئلة الجادة، حول نواياهم وما يريدون تحقيقه، وما حققوه إلى الآن؟ وإتهموه بالتخوين والتهييج وبمحاولة إجهاض الجهود التي تراهن على الخروج من المخانق والطريق المجهول وإنهاء الأزمات والإخفاقات، ومشاهد التراجيديا الإنسانية التي تذل وتهين.
وبالنسبة الى شعب كوردستان، وخلال عقدين من الزمن، كررت حكومات العراق المختلفة والعائشين في هوس وشهوة السلطة ومراكمة المال والثروات عبارات وبيانات وتصريحات على مسامع الكوردستانيين، ك (نحرص على تنفيذ الدستور ونلتزم بالشراكة والمساواة والديمقراطية)، ولكن، على المستوى الميداني مارسوا بحقه كل السياسات المعيبة القاسية التي بدأت بالترهيب والإقصاء والتهميش والحصار الاقتصادي ووصلت الى التجويع، وخلال الأيام الماضية تحولت الى القصف بالدرونات المستوردة من الخارج والمدفوعة اثمانها من أموال العراقيين.
يفسر الكوردستانيون بكل مشاربهم ما نفذتها جماعات مشبوهة ضدهم، بحجة متغيرات سياسية وعسكرية تواجهها حلفائها، ولهجة الآخرين في الاعلام التقليدي التي تعد قبولاً بفكرة التجويع والقصف، بأنها إشارات واضحة إلى إحتمالات التفكير بشن حرب واسعة على كيانهم، وإجابة لسؤال:
ماذا بعد سياسة التجويع التي أسفرت عن أضرار جسيمة؟
وماذا بعد التهديدات المبطنة لكل من سبق أن ألب المشاعرالشوفينية والعنصرية البغيضة وبات يبحث عن أرض بديلة لاستمرار الصراع والإبتزاز؟
أما الفاعل السياسي الكوردستاني الذي يتفهم دوافع القوى المعادية ويدرك تكتيكات تبادل وتوزيع الأدوار بين بعض أطراف الاطار التنسيقي، ويدرك ان ثقافة معاداة الكورد متأصلة في عقول الكثيرين ولا تموت، فإنه ما زال متحفظاً، لاعتبارات سياسية وأمنية وإقتصادية، في خطابه الدبلوماسي وحذرا في تعامله مع السلطات التنفيذية التي لا تمتلك سوى المناورة، ومع الأحزاب السياسية الشيعية التي لها مجموعات مسلحة موالية للخارج ولا تستطيع تغيير استراتيجية إرتباطاتها، كما لا يريد أن يقطع الخيط الرفيع بينه وبينها، ولا يريد أن يتقاطع مع موقف محمد شياع السوداني الذي يواجه أزمة الدور المزدوج، إذ يدفعه طموحه في إنجاح حكومته الى تنفيذ الدستوروالإتفاقات السياسية والإيفاء بالألتزاماته التي طالما أعلن عنها، وخلق الأجواء الهادئة والمستقرة ووقف سياسة التجويع والترهيب التي تصاعدت وتيرتها في العام الماضي ضد الكورد من جهة، والظهور بمظهر القوي المستقبل غير المكبل بالضغوط الخارجية والنفوذ السياسي الذي أوصله الى سدة الحكم من جهة أخرى. لذلك يحاول السوداني تفنيد ممارسة سياسة التجويع، وتحميل جماعة صغيرة عبء تنفيذ الهجمات التي تشن على كوردستان، دون الذهاب بعيداً معها ودون تحديدها علناً، لآنه على يقين بوجود مصاعب جدية وكبيرة تواجهه وتواجه فريقه الوزاري منذ تشكيل حكومته .