تحررت الفلوجة بسواعد العراقيين الأبطال من قواتنا المسلحة والحشد الشعبي، وعادت إلى حضن العراق بعد سنوات من وقوعها تحت سطوة الإرهاب، الذي حولها إلى خنجر في خارطة العراق الجديد، مستغلا عدة معطيات فرضت نفسها على الواقعين السياسي والاجتماعي في العراق بعد التاسع من نيسان 2003، واستثمار الجماعات المتطرفة من القاعدة وداعش حالتي الإحباط والتذمر اللتان اجتاحتا الوسط السني العراقي نتيجة التغير في المعادلة السياسية ووصول العرب الشيعة على رأس هرم السلطة في العراق، والذي ساهم في تكريس هاتين الحالتين وبشكل كبير الإعلام العربي ، الذي صور لسنة العراق إن ما جرى هو ضياع للإرث التاريخي لهم في حكم العراق، وان نمطية سياسية واثنية واجتماعية ستهيمن على الواقع العراقي الجديد ليس للسنة مكان فيها، من هذه المخاوف والعقد التاريخية، نشأ التطرف في العراق الجديد، وفتح حمام الدم الذي مازال مستمر إلى وقتنا الحاضر، واحدث شرخا مجتمعيا كبيرا في نسيج امتنا العراقية المتعددة الأعراق والطوائف والقوميات، وأنتج نوعا من التناحر الطائفي ظهر جليا بعد تفجير قبة الإمامين العسكريين في سامراء، وأصبحت الفلوجة رأس الرمح في هذا التناحر ألاثني، وتحولت إلى عقدة سياسية وعسكرية فشلت الحكومات المتعاقبة على حكم العراق ولمدة ثلاثة عشر عام على حلها أو احتوائها، ولأسباب كثيرة، منها ضعف هذه الحكومات وعدم قدرتها على التعاطي مع مثل هكذا أزمات، والنفس الطائفي الذي كان يتعاطى به السياسيين العراقيين سنة وشيعة مع هذه الأزمة، إضافة إلى وجود العامل الخارجي المؤثر بقوة في الشأن الداخلي العراقي ، لكن السبب الرئيسي في تحول الفلوجة وغيرها من مدن العراق السنية إلى بؤر للإرهاب ووقوع معظم أهلها من الأبرياء تحت سطوته ، هو السياسة الخاطئة التي انتهجتها الولايات المتحدة الأمريكية بعد احتلالها للعراق ، وخلقها لحالة الفوضى التي اجتاحته في ظل إدارتها له لأكثر من ثمانية سنوات، وتأسيسها لواقع سياسي هزيل كان الإسلام السياسي عنوانه العريض ، في محاولة منها لإثارة النعرات الطائفية ، وقد نجحت إلى حد بعيد في ذلك.
تحررت الفلوجة الآن ، وهذه المرة الثانية التي تشهد فيها هذه المدينة حربا ضروس، الأولى كانت في عام 2004 وبالتحديد في ظل حكومة السيد اياد علاوي ، وحينها لم يكن العراق يمتلك جيشا بالمعنى الحقيقي وقد تولى مهمة تحريها من سطوة الإرهاب الجيش الأمريكي، الذي دمر بقوته النارية الهائلة نصف هذه المدينة، لكنها سرعان ما وقعت بيد الإرهاب مرة ثانية بسبب الترتيبات الأمنية التي شهدتها بعد تحريرها ، وتبني الحكومة العراقية آنذاك وبضغط أمريكي واضح سياسة أمنية فاشلة سمحت للكثير من الإرهابيين بالعودة مرة أخرى إلى هذه المدينة تحت عناوين أخرى ، من خلال إنشاء لواء الفلوجة الذي ضم في ثناياه الكثير من الإرهابيين أو ممن تعاطفوا مع الإرهاب ، وبعد اثنا عشر عام تحررت الفلوجة مرة أخرى ، في ظل ظروف هي في جميع الأحوال أفضل بكثير من وضع العراق في عام 2004، بعد أن تخلص القرار السياسي العراقي ولو نسبيا من الهيمنة الأمريكية ، لكن هل سيعي السياسيون العراقيون الدرس ، ويفوتوا الفرصة على الإرهاب ومن يقف خلفه والداعمين له داخليا وخارجيا ، ويضعوا خطة شاملة تحيط بكل الجوانب السياسية والأمنية التي تحول دون عودة الجماعات المتطرفة إلى هذه المدينة الواقعة في الخاصرة الغربية للعاصمة بغداد ، وان تعمل هذه الخطة وفق آلية تتيح للشرفاء من أبناء هذه المدينة ومحافظة الانبار بان يكون جزء رئيسيا من الحل، وفق رؤى جديدة تساهم في عودة أهل هذه المدينة إلى اللحمة الوطنية العراقية، واستئصال الفكر المتطرف الذي زرعه في ذهنية الكثير من أبنائها الإعلام العربي الشوفيني ، والخطابات الطائفية المتشنجة لبعض رجال الدين والسياسيين العراقيين .
يجب أن يكون ما حصل هو نهاية المطاف للإرهاب فيها ، وخاتمة لمحنتها ، وان التضحيات التي قدمها أبناء القوات المسلحة والحشد الشعبي ودمائهم الزكية التي سالت على أرضها ، لابد من استثمارها وتحويلها إلى منارات خير وسلام تفتح للعراق بوابة جديدة نحو غد أفضل ، ليس للإرهاب ولكراهية مكانا فيه .