18 ديسمبر، 2024 8:57 م

ماذا بعد الموصل؟

ماذا بعد الموصل؟

منذ ثمانية أشهر أطلقت معارك أستعادت الموصل التي جاءت بعد عامين على أحتلال المدينة من قبل “داعش”، والذي أعلن المدينة عاصمة لدولة مفترضة أطلق عليها “الدولة الأسلامية في العراق والشام”،راسما لها خارطة وهمية على أرض مفترضة لم يستطع التواجد على أقل في خمس مساحتها في أعلى صور أقتداره إلا أنه وظف هذا الأعلان ضمن “بروباغاندا” جاذبة أستطاعت أستقطاب الآلاف من المجندين المحليين والأجانب للمقاتلة في صفوف التنظيم.
خلال أيام عيد الفطر المبارك أعلنت قيادة القوات التي تدير المعركة فضلا عن القائد العام للقوات المسلحة السيطرة على العقدة التي كانت مصدر إزعاج في المعركة والمتمثلة بجامع النوري وما حوله من مناطق فضلا عن أحياء المدينة القديمة الأخرى، بعد أن فجر “داعش” المسجد ومأذنته الحدباء ،وبهذا تكون العاصمة الرمزية له قد سقطت أعتباريا وواقعيا ،ومعها سقط مشروع الدولة الذي هو بالأساس أكذوبة مختلقة أستهدفت تحقيق مآرب ساسية وعسكرية ومعنوية دون أن يكون ورائها وجودا ملموسا.
على الرغم من أن تجاوز عقدة المدينة القديمة في الموصل يعني تجاوز المعركة الأعقد مع داعش وذلك للطبيعة الجغرافية والسكانية للمدينة ،فضلا عن الملابسات السياسية والتكتيكية الميدانية التي تحيط تلك المعركة إلا أن أهدافا صعبة وربما معقدة لازالت تنتظر قواتنا.
سؤال ما بعد الموصل يتصل بكلا طرفي المعادلة “العراق” من جهة و”داعش” من جهة أخرى ،لذلك نستعرض الأجابة لكلا طرفيها لتكوين صورة يمكن أن تساعد في أستشراف المستقبل وإعداد الخيارات المناسبة.
“عراقيا” ،هناك ثلاثة حزم لا بد من إنجازها ،الأولى عسكرية ،وتتمثل في إستكمال عمليات التحرير على كافة الأرض العراقية.
في هذه الحزمة ينتظرنا تحدي تلعفر القضاء الأكبر في الموصل والمتصل بالحدود السورية والذي ينتمي له عتات التنظيم والذي مازال الجدل السياسي حول عملية تحريره قائمة ،كما أن هناك المناطق المتصلة بالبعاج، وبعض الجيوب في الجانب الأيمن ،ومعركة تحرير كركوك التي تتضمن الحويجة والرياض ومناطق أخرى ،والتي تعني قبل كل شيء الوصول إلى تنسيق فيما يتعلق بدخول ومشاركة القوات العراقية والحشد ،وكذك خارطة توزيع المسؤوليات ،ومن الذي يمسك الأرض عند أستكمال التحرير ،وفي صلاح الدين لازالت بعض المناطق غير المحررة أو الهشة، وهو الحال نفسه في ديالى ،كما أن عقدة ما تبقى من الأنبار في مناطق القائم وراوة وعنة وعموم الشريط الممتد مع الحدود السورية ،فضلا عن وجود مناطق غرب الفلوجة وفي الصحراء المتاخمة للسعودية والتي يدور حولها لغطا كبيرا فيما يتعلق بطبيعة التواجد العسكري والفعاليات التي تقام في تلك المنطقة وملابسات تتصل بالجهات الراعية لهذا التواجد ،ولا يقل أهمية من تلك الأستحقاقات ما يتصل بالمسك المستقر والراسخ للحدود العراقية- السورية ،والذي يعني الوصول إلى قرارات أمنية وعسكرية وسياسية تتصل بالمديات والحدود التي ينبغي أن تتواجد فيها قواتنا أو تؤمنها ضمن الأراضي السورية من أجل التأكد وضمان حالة الأستقرار الأمني.
وأما الحزمة الثانية فهي أمنية بأمتياز وتتضمن: التدقيق العالي والفرز الذكي لما تسلل من بقايا داعش ضمن المدنيين مع العوائل النازحة ،وكذك ضمان عدم عودة البعض ضمن حملات العودة إلى المناطق المحررة ،و التحفظ وأستكمال كافة الدلائل والمبرزات والشواهد التي تتعلق بالدور الأجرامي لعناصر داعش وتمثل عنصر إدانة لهم أمام القضاء،ووضع اليد على مصادر التمويل وكشف خطوطه ،والتنبه للبدلائل التي يمكن أن يقوم بها التنظيم من أجل المراوغة والتفلت من القبضة العسكرية ،كما أن الأهم يتمثل في إدامة زخم المعلومات العميقة والذكية المتعلقة بالعدو ومناطق تواجده ونشاطاته وتكتيكاته القريبة والمتوسطة والبعيدة ،وأهدافه ونواياه ،ولا يقل عن ذلك أهمية تحري نشاطات العدو في المناطق الآمنة والبعيدة التي يمكن أن ينقل معاركه الفردية إليها خصوصا في العاصمة بغداد والمدن التي تحوي رموزا مقدسة وذات بعد أعتباري،وكذلك رصد ومتابعة حركة الجماعات من وإلى داخل العراق متسللة عبر مختلف الحدود العراقية وخصوصا الحدود العراقية-السورية.
وأما سياسيا ،فإن الأمر أكثر صعوبة وتعقيدا ،فهناك ملفات تتعلق بإدارة المدن التي تم تحريرها وضمان عدم تكرار ما حدث في الفترة السابقة ،وحسم مصير بعض المناطق في الموصل وكركوك والتي بسطت البيشمركة سيطرتها الكاملة عليها ،والتي يتحدث عنها مسعود البرزاني على أنها غير قابلة للأستعادة ،كما أن هناك ملف الأنتخابات المحلية وموعد أنجازها وخصوصا في المناطق التي كانت تحت سيطرة داعش ،وموقف القوى السياسية الواضح والنهائي من كل النشاطات الأرهابية وعلى رأسها داعش ،وطبيعة المرحلة السياسية القادمة بعد التحرير وما هي الضوابط والسياقات الجديدة التي غيرتها أو أضافتها تلك المرحلة والتي يمكن أن تغير من طبيعة ومسار العملية السياسية ،كما أننا بحاجة إلى “عصف ذهني سياسي” يجري في (البرلمان،الحكومة التنفيذية ،الكتل البرلمانية ،التجمعات السياسية المختلفة ،المعارضة السياسية السلمية) يسبق الحديث عن اي مشاريع للتقارب او التسوية والمصالحة يتضمن مصارحة ومصالحة عاليتين مع الذات قبل الآخر ،ولابد من توجيه أسئلة المسؤولية العميقة والدقيقية والتفصيلية ،وإعادة قراءة الفعل السياسي المحلي والدولي العراقي بكل تفاصيله ،والتساؤول بصدق عن حجم الانجازات الواقعية التي تم تحقيقها وانعكست فعليا على حياة العراقيين بعد عام 2003 ،وماهو الخلل والتحديات التي حالت وتحول دون تحقيق الأهداف الإيجابية،على أن يتم ذلك كله في أطار واضح وشفاف من الشعور بالمسؤولية والشجاعة والصدق والأعتراف بالأخطاء والأستعداد لتحمل عواقبها وتبعاتها.
وأما جواب السؤال المتصل بداعش ،فإن السيناريوهات المستقبلية لهذا التنظيم تعتمد على ثلاثة عوامل أحدها عراقي محلي والآخران خارجيان ،فأما العراقي فيتقوف على طبيعة وطريقة إنجاز الحزم الثلاث المشار إليها أعلاه،وأهمها الحزمة السياسية والمتضمنة طبيعة الموقف الواضح والصريح والدقيق لكل القوى والفعاليات والمكونات العراقية من داعش بكل تمظهراته العسكرية والامنية والفكرية والمالية و… ،وأما الخارجيان ،فالأول يتعلق بحقيقة نظر القوى الدولية الكبرى وخصوصا الولايات المتحدة لمكافحة الأرهاب،وماهو الدور المنظور واقعا لهذا التنظيم ،وهل أن هناك دورا وظيفيا مرصودا له سواء كان ذلك بـ “الأتفاق” أو “الوفاق” يخدم مصالح تلك الدول يقوم به التنظيم من خلال نشاطاته الأرهابية ،وإلى أي مدى هناك جدية في إستئصاله وإنهاء وجوده أو أن أن الخيار هو الأحتواء وإعادة الترويض من أجل أستخدامات أخرى ،والعامل الخارجي الثاني يتعلق بنتائج الوضع في سوريا ،وما هي الصورة التي ينتهي عندها المشهد السياسي والعسكري السوري في مقاتلته للتنظيم وعلى الأخص في المناطق المتاخمة للحدود العراقية.
وبغض النظر عن هذه العوامل الثلاثة فإن هناك صورة لمستقبل داعش القريب في العراق يمكن تلمسها من مؤشرات متعددة تتمثل في :(أختفاء البغدادي وبعض قيادات التنظيم على طريقة إسامة بن لادن في أحد المناطق غير المثيرة للشك وقد تكون الصحراء الأردنية المتاخمة للحدود السورية أحد المحتملات فضلا عن مدن في دول قد لا تكون محل نظر وتدقيق عمليات المتابعة وذلك من خلال عملية أنقطاع مشوشة تبقى خفية حتى على معظم قيادات التنظيم فضلا عن الأفراد ،القيام بأعمال إرهابية في أي منطقة متاحة من خلال توظيف الخلايا النائمة والذئاب المنفردة والمتسللين عبر بعض القنوات الرخوة إلى العمق العراقي، إعادة تكوين تحالفات مع مجموعات إرهابية سابقة كانت معها قطيعة أو خلاف وربما يشمل ذلك القاعدة القديمة ،التسلل عبر الحدود للألتحاق بجبهات مفتوحة أخرى وخصوصا في سوريا وشمال لبنان وربما اليمن وليبيا ، إعادة إنتاج خطاب تبريري يوظف بعض النكسات في تاريخ المسلمين يستهدف المحافظة على زخم المعنويات لدى ما تبقى من التنظيم ويضمن بقاء حالة الأستقطاب ،البحث عن تحالفات سياسية براغماتية تتناغم مع مصالح المرحلة وقد يكون ذلك مع الوجوه الصاعدة التي لها زخم في بعض الساحات المحررة،تغليب الاجراءات الامنية التحوطية على المنجازات العسكرية مما يعني الذهاب إلى منهج التخفي والتضليل،العمل الجاد لأنتاج نسخة آيديلوجية جاذبة تتجاوز سقوط صورة الآيدلوجية الموهومة التي تعكزت على مقولة إعادة تأسيس الدولة الأسلامية).
إن هذا التحليل يتفهم بعمق طبيعة التغيرات الحادة والسريعة التي يمكن أن تخلق ظروفا إيجابية أو سلبية تبدل كل التوجهات وتطيح بكل السيناريوهات ،كمأ أنه يتحرك وهو مشبوح العين لتدبير رباني قادر نافذ يتصرف بالأمور كما يشاء ،إلا أنه مع كل هذا يضع بين يدي صاحب القرار أولا والرأي العام ثانيا مائدة غنية من التصورات والأفكار التي تحتاج مزيدا من التفكير والتأمل فضلا عن العمل والتدبير.