23 ديسمبر، 2024 3:40 ص

ماذا بعد التظاهرات

ماذا بعد التظاهرات

مع انطلاق التظاهرات السلمية في البصرة الفيحاء في تموز 2018 وامتدادها سريعا الى المحافظات الجنوبية و بغداد نجد ان صفة العفوية واضحة
في سلوك المتظاهرين الشباب الباحثين عن فرص التطلع للحياة والعيش الكريم وكان التزامهم بسلمية التظاهر دليل وعي وثقافة الشباب بدليل
شعاراتهم وهتافاتهم المؤدبة وسلوكهم الملتزم ، و مؤكد ان ذلك دل على ان تظاهرات العراقيين شعبية للنخاع ولا توجد خلفها اي محركات خارجية ولا
حتى داخلية .. وان هذا الحراك الشعبي نابع من المعاناة التي يعيشها ابناء الشعب وخصوصا الشباب المتطلع لمستقبل افضل ، و العراقيين وحدهم
يعلمون ما هي معاناة الشعب والمرار وحجم الذل و الهوان والاحزان التي اصابتهم والبطالة وصعوبات الحياة ليصلو الى حد نفاذ صبرهم وعدم
الاقتناع بوعود و اكاذيب الحكومة واجهزة الدولة التي تفتري بها على الشعب ، حتى فقد الشعب الامل بالاصلاح و التغيير بعد ان مر عقد ونصف
على سقوط النظام السابق .

تفائل العراقيين كثيرا شيب و شباب وخصوصا البسطاء بعد سقوط النظام السابق وكان الامل في ان يكون للعراق الجديد فرصة لمستقبل مشرق
بانتهاء عهد الدكتاتورية و وعود دول الاحتلال باعادة تسليم السلطة للشعب ، و انقضاء زمن الحروب و التوقف عن تسخير استهلاك الثروة في
الصناعات الحربية ، وكان الأمل معقود في ان ينعكس ذلك بالتقدم و التطور في القطاع المدني لكي ينعم الشعب بثروات البلاد التي هدرت في
السابق على التسليح و الالة العسكرية . لقد كان سقوط النظام السابق (وكما توقعها اغلب العراقيين) إيذانا ببدء مرحلة جديدة بأن يقود الشعب نفسه
وفق النظم الديمقراطية برعاية امريكية و تشكيل مجلس نواب و مجالس محافظات يتبوأ فيها الشرفاء من ذوي العلم و المعرفة والخبرة في الحياة و
المتفانين في خدمة الوطن و الشعب باخلاص … لكن يبدو انها كانت احلام و اماني ضلت طريقها مع بروز الفاسدين من المعممين و مدعي
الدين وذوي الولاءات الخارجية والسياسيين ذوي الجنسيات المزدوجة ليركبو ويتسلطو العراق من اجل ان يملأو كروشهم و يشبعو رغباتهم المريضة و
يحولو اموال الوطن الى حساباتهم الشخصية داخل و خارج العراق ، لقد عمل الفاسدين بكل جد و اجتهاد من اجل اوليائهم و لتحقيق مصالحهم
الشخصية ، و يعلم العراقيين مدى الدناءة التي ظهرت بها الاحزاب الدينية والسياسيين و اتباعهم ومليشياتهم المسلحة المنفلتة وسلسلة الجرائم التي
قامو بها وحجم الدماء و الارواح البريئة التي زهقت على ايديهم ، حتى اخذ العراقيين يقارنون ما آل اليه حال العراق اليوم مع الحال في النظام
السابق ، حتى حق القول ان المحتل كان ارحم بالشعب العراقي من المجرمين السفلة و مليشياتهم القذرة .

بعد هذه المقدمة التي لا بد منها علينا ان نفكر قليلا وبجدية عن الجدوى و النتائج المتوخاة من هذه التظاهرات والى اين المصير .. بدايةً علينا ان
نقول ان المتظاهرين يصرون في شعاراتهم انهم لن يتراجعو او يستسلمو هذه المرة مثل المرات السابقة فقد طفح الكيل و بلغ السيل الزبى ولا مجال
للصبر و الاقتناع بالوعود الكاذبة للحكومة و سياسييها الفاسدين . وعلى الرغم من ان التظاهرات بشعاراتها السلمية لا تدعو الى المواجهة مع
السياسيين والمتنفذين بل تدعو الى تحقيق عدد من المطالب الشبابية في البحث عن الوظائف والخدمات الاساسية للمجتمع ، لكن لا بد من الاجابة
على السؤال التالي ، ما هي نتيجة التظاهر والى متى وماهو المطلوب من الحكومة و من المتنفذين وهل هناك خطط بديلة للنظام الحالي ، كثيرون
يعلمون ان لا توجد خطط بديلة و لا برنامج اصلاح وطني شعبي حكومي ، ولا توجد جهة تمتلك خاتم سليمان لتقلب وتغير الاوضاع السيئة في
ليلة وضحاها. علما ان مطالب المتظاهرين لا تتعدى مطالب الشباب الشخصية البسيطة إزاء المليارات التي ضاعت هباءا خلال 15 عام ، ولم
تتضمن دعوات المتظاهرين اي شعارات تشكل اعتراضا على النهج السياسي او العقائدي للاحزاب الحاكمة ، ولا الى التطرف الديني و الطائفي و
الفكري الذي قاد العراق الى موقع متخلف بين دول و حضارات العالم . علما ان هناك من تكلم من المثقفين عن تشكيل حكومة انقاذ وطني دون
الاشارة الى المشاكل و الكوارث السياسية الدستورية التي يعيشها العراق بعد الانتخابات الاخيرة في حزيران 2018 المتهمة بالتزوير ، وحتى لو
استمرت الدعوات الى تشكيل حكومة الانقاذ الوطني ، يبقى السؤال من اين تأتي هذه الحكومة ومن الذي سيمثل الشعب فيها واين الجهاز التنفيذي
الذي ستعتمد عليه في الادارة والتنفيذ … علما ان الجهاز الاداري التنفيذي للدولة الان هو طوع امر السياسيين و الاحزاب الحاكمة بالكامل ، بدءا
من منصب مدير صعودا الى اعلى المناصب (وهذا الاسلوب الذي حرصت على تنفيذه الاحزاب و التكتلات السياسية منذ 2003 لحد الان وذلك
على غرار النهج الايراني في التفرقة العنصرية الدينية) ، لذلك يجب تشكيل مجلس شعبي لحكومة الانقاذ الوطني يتم اختيار اعضاءه بعناية
وباستفتاء شعبي عاجل ونزيه ودقيق ، واول خطوة تتخذها هو ان تنحصر بيدها قيادة الجيش وقوى الامن واللغاء كافة الصلاحيات ابتداءا من رئاسة
الجمهورية الى ابسط دوائر الدولة . ولا بد ان يكون في الحسبان ان هذه المهمة صعبة التنفيذ وبحاجة الى وقت غير قصير ومساندة ودعم دولي (
امريكي) لتقليم اظافر دول الجوار ومنعها من التدخل في الشأن العراقي واول اجراء تتخذه حكومة الانقاذ هو اعتقال ومحاكمة كل من شارك في ان
يصل الوطن الى التدهور الذي وصل اليه اليوم وخصوصا الاحزاب الدينية و موروثاتها المقيتة .

من جانب اخر لا بد ان نذكر وجود من يرى ان هناك لون وطعم اخر لهذه التظاهرات ، حيث وضع بعض المحللين في حساباتهم ان التظاهرات
والحماس الشعبي و التفاؤل والافكار قد لا تتعدى مجرد حلقة مضافة في سلسلة الاحلام الميتة التي يحلم بها الشعب العراقي منذ 2003 وما زال
يعيش الاحباط واليأس بعدما لمس الخراب على يد الوجوه السياسية الجديدة. والمتوقع هو ان يتراجع المتظاهرين نتيجة قسوة الاجهزة الامنية ووقوع
ضحايا ، او ان تتغير الهمة بحلول فصل الخريف واعتدال الاجواء الحارة فيفاجئنا المتظاهرين بعودتهم الى بيوتهم ليعيشو السبات الجديد في انتظار
الصيف القادم ، وتعود حليمة لعادتها القديمة ويستمر مسلسل الفساد و نهب الاموال وانعدام الخدمات وتستمر البطالة ، وهذا ما لا احد يأمل
حصوله ، ومع كل الاسف و الاسى سيبقى حينها العراق المتخلف حبيسا (بيد السياسيين القذرين) ليكون افسد وطن واخطر مكان للعيش في هذا
العالم .