نظرية الدولة الشيعية تحولت إلى مفهوم متخلف للطائفية السياسية المقترنة بالولاء الأعمى لدولة الولي الفقيه في طهران والابتعاد عن هموم أبناء العراق وإلى تنفيذ بشع لسياسات الثأر والكراهية والاستبداد.
جميع أوراق الأحزاب الشيعية احترقت دفعة واحدة
لم تعد هناك صلة بين الأحزاب الشيعية في العراق والأفكار التأسيسية لنظرية الإسلام الشيعي منذ أن حكمت هذه الأحزاب العراق عام 2004، العلاقة الوحيدة هي تنفيذ متطلبات حكم الولي الفقيه الإيراني. تاريخياً أقرب صلة فكرية شيعية بالأحزاب الحالية هي تبني محمد باقر الحكيم لنظرية الخميني بولاية الفقيه، ثم تراجعه عنها بعد عودته للعراق عام 2003، ثم مقتله الغامض بعد أسابيع. لكن شقيقه عبدالعزيز الحكيم عبّر عن ولاء متطرف لا مبرر له لنظام طهران وتفوق على رفاقه في الحكم حين طالب العراق بدفع تعويضات الحرب العراقية – الإيرانية لطهران.
الضغوط التي فرضتها ثورة تشرين (أكتوبر) 2019 جعلت من عمار بن عبدالعزيز الحكيم، وريث والده في المجلس الإسلامي الأعلى، يوحي بأنه قد خرج من العباءة الإيرانية عبر مسلسل طروحاته السياسية المعتدلة، وقد يساعده ذلك على حجز مكان له في عربة القطار الشيعي الحاكم في الانتخابات المقبلة. أما قادة حزب الدعوة فقد فضلوا التشبّث بالسلطة على حساب الطروحات الأولى للمؤسسين حول مفهوم الدولة الإسلامية التي نظّر لها المؤسس محمد باقر الصدر، وبسبب غرق قادته وكوادره في شبكات الفساد والفشل والتطّرف الطائفي انتهى تاريخياً في العراق عام 2014 بعد تسليم الموصل لتنظيم داعش الإرهابي.
أصحاب ورقة التآمر الخارجي أنفسهم ادعوا أسبقية اكتشافهم عمالة ثوار تشرين (أكتوبر) بالسفارات الأميركية والإماراتية، لهذا سعوا إلى سحق هذه الثورة اليتيمة النظيفة السلمية
تحولت نظرية الدولة الشيعية إلى مفهوم متخلف للطائفية السياسية المقترنة بالولاء الأعمى لدولة الولي الفقيه في طهران، والابتعاد عن هموم أبناء العراق، وإلى تنفيذ بشع لسياسات الثأر والكراهية والاستبداد. كانت أولى الأوراق اكتشاف هذه الأحزاب قيمة الوصايا الإيرانية في المبالغة بمظاهر الشعائر والطقوس الشيعية، واستثمار عنوان مرجعية السيستاني فنفذتها ونجحت في صرف أنظار المواطنين عن المطالبات الأولى بحقوقهم.
ورقة الأحزاب الشيعية في العقد الأول من حكمها نجحت في أهدافها عبر شعاراتها الخادعة للأوساط الشعبية بعودة الطائفة الشيعية للحكم، وبإفراغ الجهاز الحكومي من الكوادر العلمية والخبرات العراقية الطويلة في ميادين التنمية الصناعية والزراعية وملئها بالأميين أصحاب الولاءات الُمبالِغة الكاذبة للمذهب الشيعي ورموزه. تم بناء أعمدة وجدران القطيعة أمام أي فرصة لبناء دولة وطنية مدنية. الأحزاب “الشيعية” ومنظماتها الدعوية والإعلامية وضعت إيران في مكانة الإلهام والتوجيه الفكري والسياسي والتنظيمي وتحريم الرأي العراقي الآخر باعتباره إرهابياً وبعثياً وعميلاً لدول الخليج العربي. نُفذت هذه البرامج تحت أنظار ومباركة قيادة الاحتلال الأميركي والإدارة السياسية في واشنطن التي ادّعت تخليص البلد من الدكتاتورية والاستبداد.
الانتقال الأخطر في لعب الورقة الطائفية حصل عام 2010 حين استشعرت هذه الأحزاب مخاطر نمو وعي وطني عراقي عابر للطائفية قد يسقط هذه الأحزاب سلمياً في انتخابات ذلك العام، فتم تدبير لعبة الكتلة الأكبر داخل مجلس النواب وليس بفوز الصوت الانتخابي.
النقمة الشعبية داخل البيئة الشيعية تحولت إلى ثورة شاملة
أصبحت شعارات المعركة الطائفية واضحة، بين أنصار يزيد وأنصار الحسين، ومن يقف بوجه سلطة هذه الأحزاب هو عميل وإرهابي. دُبّر إدخال عناصر متطرّفة ذات علاقات بداعش الوليد الجديد للقاعدة إلى صفوف منصات الاعتصام في الأنبار عام 2012 لتبرير الهجمة الطائفية المسلحة الظالمة، رافقتها لعبة استخدام أنصاف السياسيين من السنة في البرلمان كغطاء لحماية الأحزاب الشيعية، تم اختيارهم بعناية من قبل طهران وبمشاورات مع الحليف الحزب الإسلامي العراقي من بين الجهلة والأميين وأصحاب الجوع القديم ونقص الجاه، وأغرقوا في مغانم السلطة والمال لينشغلوا بجميع الملفات ما عدا ملف كوارث أبناء ملّتهم.
قبيل اجتياح داعش للموصل عام 2014 كانت البيئة ملائمة لتصعيد الهجوم الميداني العسكري بعد السياسي الدعائي على المكون العربي السني بطريقة لم تحصل حتى في عهد هتلر النازي ضد اليهود من خلال تكثيف مسلسل القتل والاختطاف والسجن والحرمان من الحقوق المدنية، كان العربي السني متهماً بالإرهاب حتى يثبت العكس، ثم أُدخل “داعش” الوحشي المتطرف للموصل وخمس محافظات عربية سنية بعد الانهيار المدّبر لخمس فرق عسكرية حيث وجهت لجنة برلمانية أصابع الاتهام إلى رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي و35 مسؤولاً عسكريا وأمنياً.
الورقة الجديدة في لعبة الحفاظ على مرتكزات استمرار النظام السياسي هي دخول الميليشيات كقوى عسكرية في مرحلة المعركة مع داعش (2014 – 2017) بتوظيف فتوى السيستاني، ثم سياسياً في إقرار قانون الحشد الشعبي ودخول البرلمان عام 2018. أصبحت تلك الميليشيات تهدد شركاءهم شيعة السلطة، وهو الشكل الحالي لصراع هذه الأطراف الخطير الذي يصعب تعطيله عبر شعارات فضفاضة للملمة “البيت الشيعي” المتهاوي.
احترقت جميع أوراق الأحزاب الشيعية دفعة واحدة، وتحولت إلى رماد لا يصلح افتراضياً كطقوس لتأبين الموتى في بلاد العالم ممّن لا تسعهم مقابر الأرض. الصدمة كانت حين تحوّلت النقمة الشعبية داخل البيئة الشيعية إلى ثورة شاملة، كما سقطت أغطية المشروع الميليشياوي الجديد لعسكرة العراق تحت عنوان معركة وهمية مع الولايات المتحدة نَسجَها الولي الفقيه في طهران وهو يعد ترتيبات الصلح مع واشنطن على حساب مصالح العراق العليا.
الميليشيات الشيعية دخلت كقوى عسكرية في مرحلة المعركة مع داعش بتوظيف فتوى السيستاني ثم سياسيا في إقرار قانون الحشد الشعبي ودخول البرلمان
لم تتوفر لهذه الأحزاب الحدود الدنيا من معايير الوطنية وقد حكمت لثمانية عشر عاماً، فلم تقرأ أو تستمع في تجارب الحكم المعاصرة في العالم الإنساني ما يفيد كيف يُذعن الفاشل ويعترف ويتنحى عن الطريق، وكيف يُلملم السارقون ويمحون آثار جرائمهم وما نهبوه ويهربون إلى ملاذات آمنة خارج البلد. لكن قادة تلك الأحزاب لديهم شعور بالطغيان وأنهم خالدون لا لشيء سوى كونهم شيعة، أصبحت السلطة بيدهم بعد 1400 عام حسب زعمهم، ومن ورائهم نظام فوضوي في طهران يحميهم ويمدّهم بوسائل الاستمرار ابتلى به أهل العراق.
اخترعوا ورقة جديدة تحت ظل نظرية “المؤامرة” اسمها التآمر الخارجي الخليجي العربي والأميركي على تجربة الحكم الشيعي “العظيمة” في العراق. بلدان مثل السعودية والإمارات تتآمر حَسَداً على تجربة الحكم في العراق لرقي ونزاهة حكامه وسعادة شعبه، فتدس العملاء لاختراق جهاز مخابراته وقيادته الإدارية، أو الإيحاء لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي بإصدار أوامر نقل عناصره المخلصين للميليشيات إلى مواقع أخرى في المنافذ الحدودية، اعتقاداً بأن حكومة بلد مثل الإمارات لهذه الدرجة من الغباء لكي تتعاطى مع جهاز مخابرات دولة أخرى عن طريق الولاية الإدارية في ظل وجود حكومة ورئيس وزراء، أو بدعة وجود مؤامرة أميركية بالتعاون مع الكاظمي لاستهداف وإنهاء وجود فصائل الميليشيات الولائية، مع أنه لحد اللحظة لم تُمّس مرتكزاتهم الحقيقية في أجهزة الدولة.
أصحاب ورقة التآمر الخارجي أنفسهم ادعوا أسبقية اكتشافهم عمالة ثوار تشرين (أكتوبر) بالسفارات الأميركية والإماراتية، لهذا سعوا إلى سحق هذه الثورة اليتيمة النظيفة السلمية، وحققوا الجزء الأكبر من مخطط التصفية، لكنهم واهمون. حتى لو خمد لهيب الثورة اليوم بسبب ظروف كثيرة لكنها ستعود أقوى من السابق لأن عوامل ثقة الشعب بها مستمرة.
لا يوجد عاقل لا يفهم أن من بين الدوافع العرضية لهذه الحملة على السعودية والإمارات هي منع محاولة الكاظمي كسر محرّمات الانفتاح على العرب من أجل تحقيق المصالح العليا لشعب العراق المنكوب، وبتفصيلات مبرمجة، مثل إعاقة مشروع الخط الكهربائي بين العراق والسعودية ومشاريع الاستثمار الأخرى غربي العراق، وإجبار الكاظمي للتوقيع على مشروع خط الحديد الإستراتيجي الإيراني من داخل الأراضي الإيرانية بالمحمرة مروراً بالبصرة إلى الحدود العراقية – السورية وصولاً إلى ميناء بانياس.
ورقة الأحزاب الشيعية في العقد الأول من حكمها نجحت في أهدافها عبر شعاراتها الخادعة للأوساط الشعبية بعودة الطائفة الشيعية للحكم
الأحزاب الشيعية والميليشيات الولائية التي تشتغل اليوم بالورق المكشوف قد تنجح في السيطرة على البرلمان المقبل بقوة السلاح والمال المسروق. لكن معادلة الصراع مع الشعب قد تغيّرت لصالحه، والبرلمان هو واجهة رخوة لمجموعة من المنتفعين. سلاح الميليشيات عاجز عن تحقيق هدف تخلي المواطنين عن حقوقهم بالحياة الكريمة، بعد قتل أكثر من سبعمئة شاب من صفوف ثورة مستمرة شاملة في محافظات وسط وجنوب العراق.
العنصر الأهم هو المتغيرات المقبلة في محيط المنطقة والعراق، ومن ضمنها تغيرات ستّحول الميليشيات في لبنان وسوريا واليمن والعراق إلى عناوين للإرهاب والتخريب والفوضى وتعطيل مشاريع التهدئة. والفرصة متوفرة أمام العقلاء من بين قادة الميليشيات الذين يحاولون التعاطي بالسياسة عن طريق تغليب المصالح العليا للوطن والتخلّي عن العلاقات الخارجية المُغلفة بالعقيدة.