اخيرا مات نيلسون مانديلا . لم يعمر سوى 95 عاما, منها 27 خلف اسوار السجون. قد لايكون قضى هذا العمر المديد بـ “البر والتقوى” على طريقتنا نحن. لكن قضاه على درب من سبقه من عظماء التاريخ. كانت حياته حافلة بماثر “البر والتقوى” ورفض كل اشكال “الاثم والعدوان ” طبقا لما جاء به القرآن الكريم الذي يحفظه عن ظهر قلب معظم ادعياء الايمان والتدين في بلادنا. مانديلا لم يحفظ شيئا من القران ولكنه طبق مفاهيمه العظيمة سجينا وزعيما والاهم من كل ذلك انسانا هو بالحديث القدسي بناء الله “ملعون من هدمه”. لم ينتظر مانديلا بعد خروجه من السجن طويلا لكي يطبق ما امن به من مبادئ سامية. فبمجرد خروجه انهى ثنائية الضحية والجلاد.
لم “يجتث” جلاده ,علما ان هذا الجلاد لم يكتف بضرب مانديلا “راشدي” في مديرية الامن العامة لـكي “يخبص” الامة ودوائر الدولة باحثا عن “الخدمة الجهادية”, بل سامه كل الوان الذل والعذاب وفي المقدمة منه التمييز العنصري بسبب بشرته السوداء. مانديلا عفا عن جلاده ليحوله الى ضحية تاريخية وبعقاب ابدي. فالعفو عند المقدرة هو اعلى مراحل الفروسية واسمى مراتب الشرف . كان مانديلا رفيقا بجناته و”الرفق بالجاني عقاب” كما يقول المتنبي. مانديلا بلاشك هو معلم الانسانية الاول في ادب التسامح والمصالحة بمعناها الحقيقي والعميق وليس “الكلاوات” حين تلاعب عندنا من تلاعب بهذا المفهوم وحوله الى وزارات ومستشاريات ولجان ومؤتمرات كارتونية ضحكوا فيها على انفسهم. ولكن المصيبة انهم لم يملوا من الضحك بعد.قد لا يجود الزمن بمانديلا اخر. ولكن ظاهرته قد تتكرر وقد يقتدي بها آخرون ممن يرومون بلوغ المثل العليا التي هي ليست حكرا على قومية او دين او مذهب.
ربما يكون مانديلا قاسيا حين فرض على جلاده قيم التسامح والفروسية والعفو عند كل المقدرات. لانه لم يترك له فرصة للتشفي. عاش مانديلا طويلا لان الانسانية بحاجة اليه كنموذج فذ من اجل مواصلة حمل رسالته الى البشرية التي لو اقتدت بها لما حصل لكثير من الامم والشعوب ما حصل لها من دمار وخراب. مانديلا لن يتكرر لكنه اوصل رسالته الى من “به صمم”. ولعل السؤال الذي يبدو واجب الطرح هنا الى أي حد كنا ومازلنا بحاجة الى من يطبق مبادئ مانديلا؟ للاسف لم يحصل ذلك وقد فات الأوان. لم يتح احد من الضحايا لجلاديهم فرصة الشعور بالندم. للاسف تماهى الضحية مع الجلاد وتفوق عليه في كثير من المفاصل. حيث الخراب والتدمير والانتقام عنوان المرحلة حيث بات دم الضحايا النازف يمتزج بمياه الامطار التي ازهقت ارواحا وهو ما يعني ان الزمن المشكو منه اعاد انتاج نفسه. حين كان مانديلا على قيد الحياة كانت اعين جميع ممن يتحمل المسؤولية على جوهانسبرغ لان هناك من يذكرهم به يوميا. ولكن اليوم مات مانديلا.. هل ارتحتم؟ راح من “خبصناكم به”؟ ربما. لكن اذا مات مانديلا مرة واحدة فان جلاده السابق وضحية تسامحه اليوم.. يموت يوميا مرتين.