منذ فجر الدولة العراقية الحديثة، ظل التأثير فيها موزعا بين ثلاثأركان.. الدولة بمؤسساتها، وجماعات الضغط بمختلف صورها،والعشيرة بما تمثله من ثقل اجتماعي وامني..

هي معادلة لم تكن يوما جامدة، بل كانت في حركة شد وجذب، بحسبالمتغيرات السياسية والأمنية للبلاد، ما أن يضعف جزء حتى يقوىالآخر، لتصبح الأطراف الثلاثة مكملة لبعضها..

ثورة العشرين كانت المثال الأوضح، حينما تمددت العشيرة لتصبح قوةمساندة داخل الدولة.. فشعلان أبو الجون لم يكن مجرد شيخ عشيرة،بل تحوّل لرمز وطني يعلن النفير العام ضد الاحتلال البريطاني،والرصاصة التي أطلقها تحولت، لصدى جمع القبائل من الفرات إلىدجلة، ليثبت أنّ العشيرة ليست كيانا انغلاقيا كما يُصوَّر أحيانا، بلمؤسسة اجتماعية وطنية تتحرك حين تعجز السلطة أو تتواطأ.

الحكم الملكي أعاد للعشائر مكانتها لكن بوسائل سياسية، إذ دخلالشيوخ إلى قبة البرلمان، وأصبح صوتهم جزءًا من التشريع، ولم تكنسنوات الثلاثينيات مجرد سنوات عابرة، بل زمنا يمكن وصفه بـعصرالعشائرحيث تحوّل الشيخ من قائد اجتماعي إلى فاعل سياسيرسمي، ولم يكن الشيخ آنذاك متكاثرا بالعدد ولا مبعثرا بالولاءات، بلمحددا ومُهابا، فأسمه كان بطاقة مرور، وصوته أقوى من أصواتالبنادق، وهيبته كافية لوقف نزيف الدماء.

الصورة لم تتغيّر كثيرا حتى في العقود القريبة، وتجربة الحرب ضدداعش برهنت، أنّ العشائر ما زالت تحمل ذلك الرصيد من القدرة علىالحشد والتضحية، فحين أُطلقت فتوى الجهاد الكفائي، توحّدتالصفوف بسرعة، وتحوّلت مضائف العشائر لمعسكرات تدريب،ورجالها لمقاتلين يسابقون الزمن نحو الجبهات.. تلك اللحظة أثبتت أنّالعشيرة إذا اخلصت نواياها، فإنها تبقى خط الدفاع الأول عن الدولةوالوطن.

لكن المشهد بعد 2017 حمل انعطافه خطيرة، فضعف الدولة وهيبتهافتح الأبواب أمام تضخم ظاهرةمدّعي المشيخةولم تعد العشيرةبحاجة إلى شيخ يُجمع أمرها، بل صار كل من يجمع بضعة بيوت يعلننفسه شيخا، يوزع المناصب في الولائم، ويتاجر بكرامة الناس تحتمسمىالفصل العشائريفالهدف لم يعد الصلح، بل المكاسبالمالية، والنزاع الذي كان يُحل بكلمة ومصافحة، صار يُثمن بمليارات.

وسائل التواصل الاجتماعي حولت هذه الفصول إلى مسرح علني،وعبارةإحنا فصلنا مليارينلم تبقَ في حدود العشيرة، بل صارتترنديتداوله الشباب بسخرية، ولك ان تتخيل أن مئة عام كانتكفيلة، بأن تنتج لنا شعلان لكن بصورة مختلفة؟!

حيث يقف شعلان أبو الجون على ضفة التاريخ، ممسكا بندقيته بوجهالإمبراطورية البريطانية، بينما يقفشعلان المعاصرعلى الضفةالأخرى ممسكا بدفتر وصولات، يطالب بمليارين من أجل نزاع تافه!

الفارق بين الأمس واليوم، ليس في اسم الشيخ، بل في طبيعة الدور.. فشيخ الأمس كان مظلة اجتماعية، يحفظ السلم الأهلي ويقي الناسمن الفوضى، أما شيخ اليوم أو لنقل بعض مدّعي المشيخة، حوّلواالفوضى لرصيد مالي، والصلح إلى صفقة، والكرامة إلى وصولاتصرف، لذلك لم تعد المشكلة في وجود العشيرة، بل في كيفية إدارتهاومن يتحدث باسمها.

المجتمع العراقي اليوم يقف أمام مفترق طرق، فإمّا أن تستعيدالعشيرة دورها التاريخي، كركيزة للسلم الأهلي وامتدادا للهويةالوطنية، أو تكون رهينة بيد من حوّلها لدكّان مفتوح، وإعادة الاعتبارللعشيرة لا يعني إلغاء الدولة بل العكس، فالعشيرة حين تعمل بتناغممع الدولة، تتحوّل إلى عامل استقرار لا إلى منافس للسلطة.

الخطورة تكمن في أنّ استمرار هذه الظاهرة، سيعمّق الفجوة بينالأجيال، شباب اليوم الذين يسخرون منفصل المليارينقد ينظرونغدا إلى العشيرة كعبء لا كحاضنة، وحينها نخسر مكوّنا اجتماعيا،ظل لقرون صمام أمان في وجه الاحتلالات والأزمات.