شهدت العاصمة العراقية بغداد ومدنا اخرى خلال الاسابيع القلائل الماضية احتفالات ومهرجانات رسمية وغير رسمية وبمستويات مختلفة بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس الدولة العراقية الحديثة.
وبقدر ما يشكل استذكار تأسيس الدولة العراقية فرصة مناسبة للتقييم العلمي والقراءة الموضوعية لظروف التأسيس، والمراحل اللاحقة له، فقد بدا واضحا انه فتح بابا اخر للجدل والسجال المحتدم على طول الخط في عموم المشهد العراقي، لاسيما مع الفضاءات الواسعة والفسيحة للحرية، التي وفرتها التجربة السياسية الجديدة بعد الاطاحة بنظام حزب البعث في ربيع عام 2003، ومع تعدد وتنوع الاجندات والمشاريع والولاءات والانتماءات في منظومة سياسية ومجتمعية لم يعرف الاستقرار الحقيقي طريقا اليها طيلة مائة عام، وربما قبل ذلك ايضا.
تأسست الدولة العراقية الحديثة على خلفية وقائع واحداث كبيرة وصغيرة تراكمت خلال فترة زمنية امتدت لبضعة اعوام، لعل من بينها الاحتلال البريطاني للعراق عام 1914، وضعف قبضة الدولة العثمانية عليه، وتوالي الانتفاضات والثورات الشعبية، من قبيل ثورة النجف في عام 1918، وثورة العشرين في عام 1920، وكل ذلك لم يكن بعيدا عن اجواء وظروف ومخرجات الحرب العالمية الاولى(1914-1918).
وقد لايختلف اثنان على ان تلك الحركات الثورية، مهدت لارغام بريطانيا في ذلك الحين على منح العراق نوعا من الاستقلال، دون ان ترفع يدها عنه، حيث ارتبط تأريخ تأسيس الدولة العراقية بتتويج فيصل الاول ملكا على العراق في الثالث والعشرين من شهر اب-اغسطس 1921 في ساحة القشلة وسط بغداد بحضور جمع من كبار الشخصيات السياسية والعسكرية والاجتماعية العراقية والبريطانية، بموجب مؤتمر القاهرة الذي عقدته وزارة المستعمرات البريطانية في شهر اذار-مارس 1921 لبحث مأ اسمتة بشؤون الشرق الأوسط، في اشارة الى الولايات العربية التي كانت متحدة تحت حكم الخلافة العثمانية، وذلك بعد أحداث ثورة العشرين.
وكما يقول بعض الباحثين والمؤرخين، “معظم القرارات المتعلقة بمستقبل العراق قد اتخذت بالفعل في لندن. يجب أن يصبح فيصل ملكًا لمملكة العراق الجديدة، لتتم الموافقة عليه من خلال استفتاء شعبي للسكان، على ان يوقع الملك على معاهدة صداقة أو تحالف مع بريطانيا العظمى”. وكل ذلك من اجل توظيف الادوات والوسائل السياسية لتخفيف الضغط الشعبي المسلح ضد الجيش البريطاني في العراق، وبالتالي تقليص الخسائر الى اقصى قدر ممكن، ان لم يكن ممكنا تحقيق مكاسب وانتصارات واضحة وملموسة، وكان وزير المستعمرات البريطاني في ذلك الحين ونستون تشرشل، الذي اصبح فيما بعد رئيس وزراء بريطانيا، العقل الرئيسي المدبر والمخطط لتحديد مسارات مستقبل العراق وكيفية ابقائه تحت هيمنة ونفوذ وسطوة حكومة بلاده.
ولعله لم يكن من المتصور ان بريطانيا العظمى التي كانت تتحكم بجزء كبير من مقدرات العالم، لاسيما المتخلف والنامي منه، مع قوى دولية اخرى مثل فرنسا، يمكن ان تتنازل وتتراجع وتخلي الساحة للعراقيين، وما اقدمت عليه من خطوات لم يتعد منطق الانحناء للعاصفة، في سياق مايعرف بالدهاء البريطاني، وما جاء من خطوات لاحقة، اثبت ذلك الامر، فتنصيب فيصل الذي فشل في حكم سوريا، ملكا على العراق، ونفي واقصاء الشخصيات السياسية والدينية الوطنية المناهضة للاحتلال البريطاني، وصياغة منظومة الحكم الجديدة وفق معادلات هشة وقلقة، وعبر ولاءات ضيقة، واقلية حاكمة مقابل اكثرية محكومة، وترسيخ الطبقية الاجتماعية، واشاعة ثقافة التأمر والخداع والتضليل السياسي. ليس الا مصاديق وبراهين على ذلك، والذي برز واضحا منذ وضع اللبنات الاولى للنظام السياسي المؤسساتي في العراق مرورا بالحقبة الملكية (1921-1958)، وصولا الى انقلاب الرابع عشر من تموز-يوليو 1958، وبدايات انحسار النفوذ البريطاني في العراق والمنطقة والعالم، لصالح النفوذ الاميركي، كجزء من استحقاقات ومعطيات الحرب العالمية الثانية(1939-1945)، وتبلور خرائط ومعادلات عالمية جديدة تصدرت وتقدمت فيها قوى، وتراجعت وانكفأت اخرى.
الاسس والمرتكزات الخاطئة التي وضعتها لندن للدولة العراقية الحديثة، كان لها اثارا مدمرة على امتداد قرن كامل من الزمن، ومازالت تلك الاثار شاخصة بصور ومظاهر واشكال مختلفة، جعلت من العراق دولة مسلوبة الارادة، وفاقدة للسيادة، ومنهوبة الثروة، وطاردة للكفاءة والخبرة.
انتحار عبد المحسن السعدون، ثاني رئيس وزراء للعراق بعد تأسيسه، في الثالث عشر من شهر تشرين الثاني-نوفمبر 1929، بظروف واسباب غامضة، ومن ثم مقتل الملك غازي في حادث سير مريب، في الرابع من نيسان-ابريل 1939، وكذلك منهج الانقلابات العسكرية التي استهل بأنقلاب الفريق بكر صدقي عام 1936، وانعدام الاستقرار السياسي، الذي عكسته ظاهرة التشكل والسقوط السريع للحكومات المتعاقبة، اذ ان عدد الحكومات خلال سبعة وثلاثين عاما، بلغ 59 حكومة، اي ان معدل عمر كل حكومة حوالي سبعة شهور ونصف فقط. كل ذلك وغيره لم يكن بعيدا عن ايادي واذرعالسفارة البريطانية في بغداد، والعقول “الخبيثة” في لندن.
ولاشك ان تكريس الطبقية والفئوية السياسية والاجتماعية، واستئثار فئات وشرائح معينة، بحكم علاقاتها وارتباطاتها وولاءاتها، على مواقع السلطة والنفوذ، والامتيازات والامكانيات المالية، افرز مظاهر فقر وحرمان وظلم وتفاوت كبير في المستوى الحياتي-المعيشي والثقافي والتعليمي، لم تفلح مشاريع البناء والاعمار النسبية في اخفائها. ولعل ذلك التفاوت بأشكاله ومظاهره المختلفة، كان من بين ابرز العوامل التي افضت الى انقلاب-او ثورة- تموز 1958، دون ان يعني ان الاخيرة صححت المسارات الخاطئة والمناهج المنحرفة، بل ان مساحة الحريات راحت تنحسر وتتقلص، والانقلابات والمؤامرات تستحفل وتتسع، وعسكرة المجتمع واقحامه في الصراعات السياسية على السلطة والنفوذ تطغي على عموم المشهد السياسي والاجتماعي العام في البلاد، واذا كان الطابع المؤسساتي بقي قائما خلال الحقبة الملكية والمرحلة الاولى من العهد الجمهوري، فأنه اخذ بعد انقلاب السابع عشر من تموز-يوليو 1968 ينحسر ويتلاشى شيئا فشيئا لصالح سلطة الحزب ثم العشيرة ثم العائلة، مترافقا مع تنامي المؤسسات والمنظومات الامنية والحزبية والمخابراتية القمعية، والدخول في معمعة الحروب والمعارك العسكرية الداخلية والخارجية العبثية.
ولم تكن كل تلك التحولات والتداعيات والارهاصات عفوية وارتجالية، بل ان التخطيط العميق من قبل الدوائر الغربية -البريطانية والاميركية بالتحديد-كان قائما على قدم وساق، ولعل القيادي الراحل في حزب البعث العربي الاشتراكي علي صالح السعدي، عبر عن ذلك بصراحة بعد وصول الحزب للسلطة في شباط-فبراير 1963، بقوله(جئنا للحكم بقطار انكلو-اميركي).
والدوائر الغربية هي التي كانت ترسم وتحدد المسارات، وتضع الاولويات لمنظومة الحكم في العراق، بحيث جعلت منها اداة طيعة لتنفيذ مخططاتها ومشاريعها الكبرى، والحرب مع ايران (1980-1988)، وغزو دولة الكويت في صيف عام 1990، وما ترتب عليه من اوضاع وظروف مربكة وقلقة، ليس للعراق فحسب، وانما لعموم دول وشعوب المنطقة، لم يأت من فراغ، بل كان محسوبا بدقة، وحالة التفكك والتشضي والانقسامات السياسية والمجتمعية، وهرولة بعض الانظمة العربية نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني، ما هي الا مخرجات عملية لتلك السياسات.
ورغم دوي صفحة الديكتاتورية والتسلط والاستبداد بسقوط وزوال نظام صدام في ربيع عام 2003، الا ان الديمقراطية الهشة القريبة جدا من الفوضى، اضعفت الى حد كبير الدولة العراقية، بينما كان المأمول والمتوقع ان تستعيد جزءا مما فقدته من هيبة ورمزية ومكانة وحضور وتأثير.
واذا كانت المشكلة في السابق تكمن في ديكتاتورية ودموية النظام السياسي الحاكم، وابتلاعه الدولة لصالح العشيرة والعائلة والحزب، فأنها اليوم تتمثل بضعف النظام امام قوة وسطوة العناصر السياسية والمجتمعية المختلفة، التي ابتلعت الدولة سياسيا واقتصاديا وامنيا.
والمفارقة هنا تكمن في انه بينما وضعت بريطانيا قبل مائة عام اسسا هشة وخاطئة ومغلوطة للدولة العراقية، جاءت الولايات المتحدة الاميركية بعد ان تصدرت المشهد العالمي وتركت بريطانيا تلهث ورائها، لتقوض ما بقي من اسسس ومرتكزات الدولة العراقية، وبالتالي لانجد اليوم الا معالم رمادية لكيان تتجاذبه اجندات ومشاريع التقسيم، وتصارع الخصوم والاعداء الاقليميين والدوليين، وثقافة النهب والسلب، وتقدم الولاءات الحزبية والقبلية والعشائرية والقومية والمذهبية على الولاء للدولة والوطن.
ربما يكون الكثير مما قيل في مئوية الدولة العراقية على لسان قادة وزعماء وساسة واصحاب رأي، كلام طغت عليه لغة الدبلوماسية والتمنيات والطموحات والتغني بالماضي، ولم يلامس جوهر ولب المشكلات والازمات العميقة القديمة-الجديدة، وهذه اشكالية خطيرة، تعكس هروبا وتهربا وتنصلا عن تحمل المسؤولية اكثر منه تقديرا وتقييما صائبا وسليما للواقع، وابتعاد عن نقطة الشروع المطلوب للتصحيح والاصلاح وترميم البناء.
————————-
*كاتب وصحافي عراقي