18 ديسمبر، 2024 8:04 م

مؤسسات الدولة بين الماضي والحاضر

مؤسسات الدولة بين الماضي والحاضر

السنين الخوالي ومن وصفها انها قد خلت ، غير انها تبقى حاضرة في الاذهان ، وتبقى تذكرنا بأداء مؤسسات الماضي غير البعيد ، وكيف كانت ترسم الأبعاد الطبيعية والأخلاقية لمؤسسات الدولة التي كانت سائدة في حينه ، على بساطتها ، وتعرض ان لا خيار اخر لنا ، ان كنا نريد ان نعيش بأمن وسلام ورخاء منصف وشامل ، ما عدا ان نعيش في حدود تلك الأبعاد.

ففي مطلع التسعينيات ، ومع بدأ سنين الحصار الجائر ، حضرت تجمع كبير لخليط من الناس ، في حي الجامعة ببغداد ، نسيت المناسبة ، وجلس الى جواري في التجمع مفوض شرطة متقاعد ، لقبه البرزنجي ، لا اتذكر اسمه الاول ، وكان شخصية مشهورة ومعروفة في بغداد لاسيما في المناطق او الأحياء القديمة واولها منطقة الفضل ، وهمس في أذني صديقي وزميلي الاستاذ صباح جميل عُمْران ، كان هو الاخر حاضر في المناسبة ، ويجلس الى جواري ، انه شقي ، في تعبير مختصر لوصف شجاعة المفوض المتقاعد. وكان البرزنجي يتحدث بخجل للقريبين منه عن الوضع المعاشي الصعب الذي يعيشه الناس بسبب الحصار وانعكاس ذلك على الأوضاع الاجتماعية ، ثم انتقل ليتحدث عن المهام الصعبة التي كان يكلف بها في الماضي عندما كان مازال منتسب في الشرطة الوطنية ، وكيف انه كان ينجزها على أتم وجه وبشغف من غير اي تردد ، ثم روى كيف انه ذات يوم كلّف بأمر إلقاء القبض على شخص شرس مطلوب للعدالة ويسكن مدينة الثورة في منتصف الستينيات واسمه شتيوي ، فقال أخذت معي مفرزة وبقينا عند منعطف الشارع الذي كان يسلكه ننتظر خروجه من الدار ، وقال عندما خرج استطعت ان أمسك به بينما كان شتيوي عصيا على المفارز الاخرى. وبدأ يعدد القضايا الجنائية المطلوب اليها ، ثم أنهى حديثه ان قال سلمته الى العدالة ولا اعلم ماذا حل به بعد ذلك.

ان دور البرزنجي انتهى بألقاء القبض على شتيوي وتسلميه الى القضاء. والقضاء او المحاكم هي المسئولة لوحدها عن تدقيق التهم المنسوبة لاشتيوي وغيره ممن يمثلون أمامها ، لا احد يشكك بعدالة ونزاهة القضاء ولا احد ايضا يتجاوز الواجب او المهمة المكلف بها ، ليتدخل في اختصاصات دوائر اخرى ، وهذا ما وضحه تماما رجل المهمات الصعبة البرزنجي.

صيغة الدولة ومؤسساتها القائمة في حينه رسمت العلاقة ما بين المواطن والدولة ورسمت العلاقة ما بين مؤسسات الدولة المتعددة والمتنوعة. فلم يكن شائع في حينه او حتى متداول استقلال السلطة القضائية ، وربما يكون قد نسى الناس السلطة التشريعية لان منذ انقلاب ١٩٥٨ لم يأت على بال اي واحد ممن حكموا العراق ان يذكر الانتخابات البرلمانية المتوقفة. ولكن مع ذلك أبقوا جميعا على التشريعات القائمة وأبقوا ايضا وعلى قدر مناسب من الاحترام لإستقلالية القضاء.

ولكن وللاسف اليوم نرى النقيض. نرى ونسمع حديث كثير عن السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية ، وعن استقلالها عن بعضها البعض ، ولكن من غير ان نلمس صدى لتلك الاستقلالية. الكل يتحدث عن البرلمان الحالي ويصفه كونه برلمان فئات وكتل سياسية وليس برلمان للشعب. ينتخب بصورة ديمقراطية ولكن مخرجاته ليست في صالح الشعب ، وانما في صالح أعضاء البرلمان والكتل السياسية التي ينتمون اليها. والسلطة التنفيذية هي الاخرى ملتهية بنظرات ووجهات نظر مريضة وفاسدة ، تفقدها الرغبة في تحقيق العدالة بين المواطنين ، وتفقدها ايضا الإمكانية على فرض سلطة القانون بصورة عادلة وشفافة. بينما يبقى الحديث عن السلطة القضائية تملئه المرارة التي لا تبقي مكان ولو قليل للشهد.

اي نجاح يمكن ان يتحقق في الحملة التي بصددها حكومة د. حيدر العبادي لمحاربة الفساد ، ونحن على هذه الحالة المحزنة؟ الرسم القائم لهيكلية الدولة والسلطات فيه هي غير التي كانت قائمة في الماضي ، لاسيما إبان العهد الملكي. وبدون اي شك ، من غير اعادة الاعتبار والهيبة لمؤسسات الدولة المتنوعة وإعادة الشفافية لأدائها ، فإنها تبقى كلها عاجزة عن الإحاطة بالمهام والواجبات المناطة بها ، ويبقى المواطن العراقي في شك منها.

اذن الخطوة الاولى التي ينبغي ان نتخذها ، ان كنا فعلا نريد محاربة الفساد والفاسدين ، ان نعيد النظر بهيكلية الدولة والمؤسسات القائمة فيها ، من اليفها الى يائها ، وإعادة الكفاءة والاخلاص والروح الوطنية المجردة لتلك المؤسسات. وهذه الخطوة هي الأهم في محاربة الفساد والأسهل بنفس الوقت.