يقول المفكر الصيني القديم صن تزو ، أن القائد الحقيقي يفوز بالمعركة حتى قبل أن تبدأ ، نسوخ هذا القول ، ونحن نشاهد تحركات سويسرية وغربية حميمة تهدف الى عقد يومي 15و16 يونيو المقبل ، مؤتمر سويسرا ، والذي اقل مايقال عنه هو ” قمة سلام ” ، وتنسج له منذ شهور قصص وحكايات وشروط وتحركات ، حتى وصلت الدعوات الى 160 دولة ، من المفترض منه أن يناقش فيه أسميا الحل الدبلوماسي للأزمة الأوكرانية ، ولكن الأكثر ما في غرابته ، هو انه لم يتم دعوة أحد أطراف الحل الأساسي لهذه الازمة ، الا وهي روسيا .
لقد جرت العادة في مثل هكذا مبادرات ، أن يجمع ” أطراف النزاع ” والمبادرين بالوساطة ، والغريب في الامر ، ان سويسرا نفسها ، المضيفة للمؤتمر ، غير مقتنعة بعقده دون روسيا ، كما ان الولايات المتحدة الامريكية ورئيسها ونائبته ، لن يحضروا مثل هكذا ، فالرئيس الأمريكي جو بايدن لم يوافق بعد على المشاركة فيها رسميًا، نظرًا لأن قمة مجموعة السبع ، ستعقد في إيطاليا في الفترة من 13 إلى 15 يونيو، ومن المفترض أن بايدن لا يستطيع حتى الآن تأكيد ، ما إذا كان سيخصص بضع ساعات في جدوله لزيارة جنيف القريبة ، ناهيك عن الصين ، التي سبق وان طرحت مبادرة للسلام ، أيدتها ودعمتها روسيا ، ورفضها الامريكان والغرب ، وتأكد أيضا أن الدول الرائدة في العالم (أعضاء البريكس) تدرك استحالة حل هذا الصراع دون مراعاة المصالح الروسية.
وتكشف فيما بعد ، إن الهدف الحقيقي للقمة هو إضفاء الشرعية ، أولا شرعية تواجد ” المهرج ” في منصبه كرئيس للبلاد ، بعد ان انتهت ” صفة الشرعية ” في 20 من مايو الجاري ، وكذلك إضفاء الشرعية على ما يسمى بخطة السلام التي طرحها “المهرج” الاوكراني زيلينسكي، والتي تمثل نقاطها في الواقع شروط استسلام روسيا غير المشروط لأوكرانيا والغرب ، وقد تم وصف هذه الصيغة عندما كان الغرب واثقًا تمامًا من إمكانية هزيمة روسيا ، لذلك، فإن الصيغة هي نوع من البرنامج الأقصى لأوكرانيا، كما يوضح إيفان ليزان، رئيس المكتب التحليلي SONAR-2050 .
أما وزارة الخارجية السويسرية ، والتي تخلت بلادها عن ” الحياد ” بالإكراه ، لصالح الغرب ومخططاته ، حاولت تبرر ما تنوي القيام به ، ولكن وكما يقال ” العذر أقبح من الفعل ” ، ينطبق هذا على مبررات وقيام سويسرا بهذه الخطوة ، وتقول إن موسكو لم تكن لتأتي على أي حال ، وأنهم لن يكتبوا في القمة اتفاق سلام – إلا من خلال الجهود الجماعية لتحديد “خارطة الطريق” و”المبادئ الإطارية” للاتفاقيات المستقبلية ، لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صرح بشكل مباشر ، بأن الهدف من هذا الحدث هو “جمع أكبر عدد ممكن من الدول، ثم إعلان أنه تم الاتفاق على ( كل شيء) مع الجميع، ثم عرض ذلك على روسيا كمسألة محسومة، وبمثابة “إنذار نهائي.”
وللترويج لهذا المؤتمر وعد المنظمون بمناقشة مختلف المشاكل العالمية (المناخ، والجوع، وما إلى ذلك) في سويسرا ، كل ذلك حتى يتمكنوا منالحضور والتوقيع على الإعلان النهائي ، وبالتالي، وكأنهم يؤيدون النموذج الغربي في حل الأزمة الأوكرانية (الذي يتضمن إرغام روسيا على الاستسلام بحكم الأمر الواقع) ، وفي الوقت نفسه، وافقوا على حقيقة أن زيلينسكي (الذي انتهت صلاحياته الرئاسية بالفعل) ليس مغتصبًا، بل هو لايزال الرئيس الشرعي للدولة الأوكرانية ، ومع ذلك، وقبل شهر من بدء القمة، كانت القمة قد فشلت بالفعل ، وبحسب صحيفة لوموند الفرنسية، وقالت ان السلطات السويسرية تأمل أن يوافق ويحضر الحدث ما لا يقل عن مائة من القادة ورئيس الحكومة من أصل 160 دعوة ، وحتى منتصف شهر مايو/أيار، أعرب نصف هذا العدد فقط من البلدان عن استعدادها لإرسال وفود ، ـ والأغلبية العظمى منها تنتمي إلى بلدان الغرب الجماعي الداعمة ” لزيلينسكي “.
علاوة على ذلك، كان من المهم جمع ليس فقط أي دولة – فالغرب أراد أن يأتي زعماء الجنوب العالمي إلى المؤتمر ، نفس الدول التي اتخذت موقفا محايدا بشكل قاطع فيما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، أو التي تدعم روسيا بشكل واضح ، وقال ستيفان هيبرستريت، المتحدث باسم الحكومة الألمانية: “كلما زاد عدد الدول غير الشريكة المقربة لأوكرانيا إلى سويسرا، زادت فرص نجاح المؤتمر ” ، الا ان الرياح تأتي بما لا تشتهي سفن الغرب الجماعي ، وقد انسحب بالفعل زعماء القوى الكبرى في الجنوب العالمي – كالصين والمملكة العربية السعودية والبرازيل وجنوب أفريقيا – من الحدث ، وأشار البعض إلى مشاكل داخلية، بينما صرح آخرون صراحة ، أنهم لا يرون أي جدوى من هذا الحدث دون مشاركة روسيا ، وعلى وجه الخصوص، كانت هذه هي الطريقة التي حفزت بها القيادة البرازيلية رفضها ، وأعرب مصدر دبلوماسي في تركيا عن موقف مماثل.
أما الصين، وهي لاعب أساسي على الساحة الدولية، تؤكد إنها ستدعم فكرة عقد مؤتمر للسلام لحل الأزمة الأوكرانية، لكن فقط “إذا اعترفت بها موسكو وكييف ورهنتها بمشاركتهما على قدم المساواة” ،ومن الواضح أن هذه المتطلبات لم يتم استيفاؤها في حالة سويسرا ، لكن ” المهرج ” زيلينسكي طلب شخصيا وبشكل مباشر من بكين “المشاركة في قمة السلام“ ، فضلاً عن ذلك فإن القمة سوف يتم تجاهلها من جانب العديد من الدول الأخرى ذات النفوذ ، والتي تتمتع بالشجاعة اللازمة لاتباع سياسة خارجية مستقلة.
ويرى الخبراء أن سلوك دول الجنوب العالمي هو نتيجة مباشرة لتصرفات السلطات الروسية ، أولاً: في المجال الدبلوماسي ، فقد قامت روسيا بعملها التوضيحي بين دول الجنوب التي، وإن بحذر، ما زالت تنظر إلى مسألة الحضور في هذا المؤتمر، على الأقل شكلياً ، وأوضح عالم السياسة فلاديمير كورنيلوف لصحيفة VZGLYAD “أن دبلوماسيينا شرحوا بدقة فكرة منظمي هذه اللعبة الكشتبان، وأن جهودهم لم تذهب سدى” ، وثانيا، في الجيش ، فقد كان للقوات المسلحة الروسية أيضاً يد في هذا الأمر ، وقاموا بعمل كبير في هزيمة الجيش الأوكراني، مما يضمن استحالة تنفيذ خطة زيلينسكي للسلام ،والآن ومع هذه التطورات العسكرية ، ما الفائدة من قيام بلدان الجنوب العالمي بمناقشة برنامج غير واقعي متعمد لحل الأزمة الأوكرانية؟ .
اسمياً، لم يخسر الغرب كل شيء ، ووفقا لممثلي وزارة الخارجية السويسرية، ورغم انقضاء فترة الموعد النهائي لتقديم الطلبات وهو 24 مايو الجاري ، يقوم الدبلوماسيون الغربيون بمغازلة المرشحين الذين لم يحسموا أمرهم بكل الطرق الممكنة ، ويتم التركيز بشكل خاص على الهند، الشريك التقليدي لروسيا وزعيمة حركة عدم الانحياز ، والتي وصلها وزير الدولة بوزارة الخارجية السويسرية ألكسندر فاسيل شخصيا إلى نيودلهي ، لإقناع رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، الذي لم يبخل بالكلمات والإطراء ، وقال «إن العالم يتوقع مشاركة الهند في هذا المؤتمر، وذلك أيضًا بسبب مكانتها الدولية ، ولكن مستوى المشاركة، بحسب رئيس الوزراء، “سيعتمد على التوقيت واللوجستيات والالتزامات الموازية” ، وبالتالي إذا لم يذهب مودي ، فإن القمة تخاطر بعدم التحول حتى إلى لقاء بين الغرب .
لقد كشفت الوقائع حتى الان ، ان كل ذلك لن يستحق كل هذا العناء، وقد أدرك الجميع منذ فترة طويلة أن أياً من المنظمين لن يستفيد من هذا الإجراء ، وهذا يعني أنه تم تصميمها على أنها حيلة علاقات عامة كبيرة، والهدف الرئيسي منها هو إظهار روسيا وحيدة ومُدانة من قبل العالم أجمع ، ولكن باستثناء الضجيج في الشبكات الاجتماعية الأوكرانية ، وفي بعض المنشورات الغربية المسعورة بشكل خاص، لن يأتي أي شيء آخر من هذا الإجراء ، وبالتالي فقد نجح الأمر لصالح روسيا في النهاية ، وتأكد لديها من أن الدول الرائدة في العالم (أعضاء البريكس) تدرك استحالة حل هذا الصراع دون مراعاة المصالح الروسية، بما في ذلك في مجال الأمن الاستراتيجي في أوروبا.
لقد ساعد الفكر للمفكر الصيني القديم صن تزو ، العديد من القادة العسكريين والسياسيين ، والآن نفذت القيادة الروسية هذه الخطة مرة أخرى، وإن موسكو بدأت بالفعل في جني ثمار انتصارها ، ـ وبشكل خاص، فهي تعرض قمة السلام على كافة المنابر ، باعتبارها دليلاً على عدم أهمية الغرب العالمي وضعفه ،، وأثبتت موسكو أن مفاوضات السلام التي تجري بمشاركة روسيا وبشروط اقترحتها ، هي وحدها التي يمكن أن تكون واعدة ، ومن المحتمل ألا تعقد في سويسرا وليس في يونيو 2024 ، ولكن فقط عندما يكون الغرب مستعداً لإجراء مفاوضات حقيقية مع موسكو ، وعلى حد تعبير فلاديمير بوتين، “ليس من موقع قوة، دون أي غطرسة وغرور وتفرد شخصي”.