وصلت أم حيدر (75 سنة) إلى هولندا قبل نحو عشرين سنة.
ومن دون الخوض في كيفية وصولها إلى الأراضي المنخفضة، ودوافع طلبها اللجوء، كون الشأن، موضوعا شخصيا، فان المهمّ الذي يتوجّب ذكره، إن هذه المرأة الطيبة، آلت حياتها إلى نعيم، وسكينة، واسترخاء.
تُودِع الحكومة راتبها الشهري في حسابها البنكي، من دون مراجعة دائرة، أو الجري وراء “معاملة” إدارية.
تعيش في شِقَّة مدعومة الإيجار، فيما التأمين الصحي يسخّر لها العلاج والأدوية بالمجان، وتتنقل في مناطق الحي بعجلة كهربائية حديثة الطراز، مخصّصة للعجزة والعاجزين، وتزورها الرعاية الاجتماعية بشكل دوري، كما خصّصت لها البلدية، عاملة، تدير شؤون بيتها، في زيارة أسبوعية.
لكن أم حيدر، وإنْ تشكر السلطات الهولندية، على الخدمة العظيمة التي لم تظفر بها في وطنها الأم، بل و حتى من أولادها، وأسرتها، غير انها وبعفوية مفرطة وغير مقصودة، تعتقد ان كل هذه التكاليف، مدفوعة الثمن من “نفط العراق”، في وهْم يقع فيه الكثير من البسطاء، ناجم عن معلومات مغلوطة.
أم حيدر، ومهما كان تفسيرها لمصدر “الترف” الذي هي فيه، فإنها تحمد هذه البلاد، وهي تجد نفسها في تساو تام مع أبناء البلد الأصليين، بل وتزيد عليهم، بحكم الاكتراث الخاص الذي تحظى به كونها لا تجيد لغة أهل البلد، فضلا عن إنها طاعنة في السن.
أم حيدر التي قضت جلّ عمرها، وهي تنوّر الأجيال، معلمة في بلدها العراق، لم تكن تتوقّع يوميا أن يكون إكرامها في بلد أجنبي، لم تخدمه يوما واحدا.
أم حيدر، مثال للآلاف من الحرفيين والكسبة والمهندسين والضباط والمعلمين والأطباء والرسامين الذين قضوا جلّ حياتهم في خدمة بلادهم، وفي الدفاع عنها، لكن مصيرهم في نهاية حيواتهم، آل إلى هوان وازدراء، ليجدوا التقاعد والرعاية الاجتماعية، والصحية في بلدان لم يخدمونها، ولا حتى يوما واحدا.
هذه اللقطات، تفسّر البواعث التي تدفع شباب العراق والعرب، ودول العالم الثالث إلى امتطاء البحار، واجتياز الغابات وتحمّل المخاطر من اجل الوصول إلى بلدان اللجوء.
العلاّت واضحة، لم تعد مخفية على أحد: إنها الكرامة، وتأمين مصادر الرزق، وفرص العمل، والتعليم، والأمن والعدالة الاجتماعية.
المواطن ثروة، وعملة صعبة، فما أن يصل النازح حتى تتلقّفه مؤسسات التعليم، والعمل، فيولِج الدورات الدراسية لإنماء النظريات والمهارات، ومعها تأمين دخل شهري كاف، حتى إذا ترشّح للعمل، انطلق إلى وظيفته بكل اقتدار.
وإما كبار السن، فحدّث ولا حرج، كأنهم الملوك، ولا تنقصهم سوى التيجان.
تعيش أم حيدر، ومعها المهاجرون، في دول، دستورها، الإنصاف الاجتماعي، ورأسمالها الإنسان، ما جعلها تتفوّق حتى على دول النفط، في تسخير الإنسان للحياة، حتى باتت الرحمة تتجسّد في سياساتها، وهو ما لم تجده في دول تغرق بالشعارات، والمثاليات النظرية.