22 فبراير، 2025 1:11 ص

مأساة الإنسان العربي: كيف تتداخل إرادة التغيير مع قوة القدر؟

مأساة الإنسان العربي: كيف تتداخل إرادة التغيير مع قوة القدر؟

إن الصراع بين الإرادة والقدر ليس مقتصرًا على الأدب والفلسفة فقط، بل يعكس أيضًا الواقع الحي للإنسان العربي في معاناته اليومية. ففي مجتمعاتنا العربية، يواجه الأفراد تحديات كبيرة على مستويات متنوعة، بين رغبتهم في تغيير واقعهم وبين قيود ومصائر يبدو أنها مكتوبة لهم منذ البداية. هذا الصراع يتجسد في قضايا سياسية، اجتماعية، وثقافية، حيث يبذل الناس جهدًا لتحقيق تطلعاتهم لكنهم يصطدمون دائمًا بعقبات تبدو حتمية. من خلال الأمثلة الواقعية، نرى كيف يتداخل القدر والإرادة في مسارات الحياة اليومية. لطالما كانت الأنظمة السياسية في العديد من الدول العربية تمثل القوة التي تتحكم في مصير الشعوب. في هذه البلدان، يصطدم المواطنون برغبتهم في التغيير والحرية مع الأنظمة الحاكمة التي تفرض قيودًا سياسية وحقوقية تُقيّد إرادتهم.
على سبيل المثال، ما سمي “الربيع العربي” في 2011 كان إحدى اللحظات الكبرى التي تجسد فيها هذا الصراع. ففي مصر، تونس، ليبيا، وسوريا، خرج الملايين في الشوارع مطالبين بالتغيير، مُعبرين عن إرادتهم في التحرر من الأنظمة الاستبدادية. كانت إرادة الشعوب في تلك اللحظة قوية، حيث حملوا أملًا كبيرًا في إحداث تغيير جذري. لكن، في العديد من الحالات، اصطدم هذا الحلم بقدر سياسي مرير تمثل في العنف والردود العسكرية أو في صعود قوى دينية أو سياسية جديدة قد تكون أكثر قمعًا.
في مصر، على سبيل المثال، رغم الإرادة الشعبية في إسقاط النظام القديم، انتهت الثورة إلى تغييرات غير مستقرة، وكان القدر السياسي الذي فرضه الواقع والمصالح الدولية يقود المسار إلى تحديات جديدة، ما جعل الشعب يقف في مواجهة قدر غير الذي حلم به.
ما يجري في العراق يمكن اعتباره مثالًا واضحًا على الصراع بين الإرادة والقدر، حيث يعيش الشعب العراقي منذ عقود في حالة من التوتر بين رغبته في بناء مستقبل مستقر وواقع مليء بالتحديات التي تبدو وكأنها مفروضة عليه قسرًا. هذا الصراع يظهر في عدة مستويات، منها السياسي، الاقتصادي، والاجتماعي، مما يجعله نموذجًا تراجيديًا لصدام الإرادة مع القدر. منذ الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، سعى العراقيون لاستعادة سيادتهم وبناء دولة ديمقراطية قوية. إلا أن الإرادة الشعبية اصطدمت بقدر سياسي معقد فرضته التدخلات الخارجية، وصراع النفوذ بين القوى الإقليمية والدولية، إضافة إلى الانقسامات الطائفية التي أعاقت الاستقرار السياسي. فرغم الانتخابات المتكررة، والمطالبات بالإصلاح، ظلت البلاد عالقة في دائرة من الأزمات السياسية التي تمنع أي تقدم حقيقي، وكأن القدر يفرض عليها أن تبقى في هذه الفوضى. شهد العراق منذ عام 2019 موجة احتجاجات واسعة، خاصة في بغداد والمحافظات الجنوبية، حيث خرج آلاف الشباب إلى الشوارع مطالبين بإصلاح النظام السياسي، وإنهاء الفساد، وتحقيق العدالة الاجتماعية. كانت هذه الاحتجاجات تعبيرًا قويًا عن إرادة التغيير، لكن الرد عليها كان عنيفًا، حيث قُتل المئات وجُرح الآلاف، دون تحقيق إصلاحات جذرية. هنا يظهر الصراع التراجيدي بين إرادة الشباب الطامح لمستقبل أفضل، والقدر الذي فرضه الفساد والقوى المسيطرة التي ترفض أي تغيير حقيقي.
يمكن اعتبار العراق ساحة كبرى لصراع الإرادة والقدر، حيث يسعى الشعب جاهدًا لتغيير واقعه وبناء دولة قوية، لكن في كل مرة يصطدم بواقع سياسي وأمني معقد يجعل التغيير أمرًا بالغ الصعوبة. ورغم ذلك، فإن استمرار الاحتجاجات، المحاولات الإصلاحية، والتصميم الشعبي على تحقيق مستقبل أفضل، كلها مؤشرات على أن الإرادة لم تمت بعد، حتى لو بدا القدر أكثر قوة في بعض اللحظات.
الحروب التي عصفت بالعديد من الدول العربية، مثل سوريا واليمن وليبيا، تمثل مثالًا واضحًا على الصراع بين الإرادة والقدر. فالأفراد في هذه الدول كانوا يسعون لتحقيق السلام والاستقرار، وكان لديهم الإرادة لبناء وطن أفضل. لكن الحرب كانت قدرًا لا مفر منه، فرضته قوى خارجية وصراعات داخلية معقدة.
في سوريا، كانت إرادة الشعب في بداية الثورة تتجه نحو التغيير والتحرر من نظام بشار الأسد، ولكن القدر الذي فرضه التدخل الأجنبي والحروب الطائفية أسفر عن مأساة إنسانية كبرى، جعلت التضحيات تبدو غير مجدية في الكثير من الأحيان. ومع استمرار الصراع، أصبح من الواضح أن الحلم بالحرية قد ضاع تحت وطأة القدر المرير.
منذ الغزو الأمريكي، عانى العراق من موجات عنف متكررة، من الصراعات الطائفية إلى ظهور تنظيم “داعش” الذي سيطر على مساحات واسعة من البلاد. رغم الانتصار العسكري على التنظيم، لا تزال البلاد تعاني من هجمات متفرقة وتهديدات أمنية مستمرة. العراقيون يريدون العيش بسلام، لكن يبدو أن القدر يفرض عليهم استمرار التوترات، وكأن الأمن والاستقرار حلم بعيد المنال.
من المظاهر الأخرى التي تبرز فيها معركة الإرادة ضد القدر هي الصراعات الاقتصادية في العديد من الدول العربية. في بلدان مثل السودان ولبنان ومصر، يواجه المواطنون أزمة اقتصادية خانقة، حيث تسهم السياسات الاقتصادية الفاشلة والفساد في تدني مستوى المعيشة، مما يقيد إرادة الفرد في تحسين وضعه المعيشي.
في لبنان، مثلًا، كانت هناك إرادة قوية من قبل الشعب لتحسين الوضع الاقتصادي بعد سنوات من الفساد والانهيار. ومع ذلك، جاء القدر ليفرض على الشعب اللبناني انهيارًا ماليًا غير مسبوق في عام 2019، حيث فقد العديد من المواطنين مدخراتهم ولم يستطيعوا مواجهة الوضع الاقتصادي. ومع تصاعد الاحتجاجات، ظل الأمل في التغيير مرتبطًا بالإرادة الشعبية، ولكن النتيجة كانت صعبة وغير مستقرة، ما يثبت صعوبة تفاعل الإرادة مع القدر في الظروف المعقدة.
يمتلك العراق واحدة من أكبر احتياطيات النفط في العالم، لكن paradoxically (بشكل متناقض)، يعيش العديد من العراقيين تحت خط الفقر. فبينما يحلم المواطن العادي بتحسين وضعه المعيشي، يواجه واقعًا من سوء الإدارة، الفساد، والبطالة. هذا الواقع يجسد صراعًا اقتصاديًا بين الإرادة في تحقيق الازدهار والقدر الذي أبقى البلاد في دائرة الأزمات المالية رغم الإمكانيات الضخمة.
في بعض الأحيان، يتجسد الصراع بين الإرادة والقدر في قضايا اجتماعية ترتبط بالهوية الفردية وحرية التعبير. في بعض المجتمعات العربية، يواجه الأفراد قيدًا ثقافيًا واجتماعيًا في سعيهم لتحقيق الذات. على سبيل المثال، قد تصطدم النساء في بعض الدول بعقبات ثقافية ودينية في سعيهن لتحقيق أهدافهن الشخصية والمهنية.
في السعودية، على سبيل المثال، كان حلم الكثير من النساء في الحصول على حقوقهن في القيادة والعمل يتصادم مع القوانين والأنظمة التي كانت تفرض قيودًا شديدة على حرية المرأة. لكن بفضل الإرادة والمقاومة الشعبية، شهدت السنوات الأخيرة تغيرات مهمة، مثل السماح للمرأة بالقيادة والعمل في مجالات عدة، وهو ما يعكس الصراع المستمر بين الإرادة الفردية والقدر الاجتماعي الذي يفرض قيودًا في بعض الأحيان.
ظاهرة الهجرة واللجوء تمثل أيضًا شكلًا من أشكال الصراع بين الإرادة والقدر في العديد من البلدان العربية. يضطر الكثيرون من الشباب إلى الهروب من أوطانهم بحثًا عن فرص حياة أفضل بعد أن أصبح قدرهم مرتبطًا بالأزمات السياسية والاقتصادية التي تجعلهم يعيشون في ظروف غير قابلة للتحمل.
في سوريا والعراق، على سبيل المثال، اختار العديد من الشباب الهجرة إلى أوروبا هربًا من الحرب والدمار، محاولين تحديد مسارات جديدة لحياتهم. هذا الصراع بين الإرادة في بناء حياة جديدة وواقع الحروب والتدمير يُظهر مدى تأثير القدر على مسار حياة الأفراد، وكيف يصبح الهروب إلى المجهول خيارًا أمامهم.
إن الصراع بين الإرادة والقدر في الواقع العربي ليس مجرد حالة أدبية أو فلسفية، بل هو واقع مرير يعيشه العديد من الأفراد في المنطقة. هذا الصراع يظهر في السياسة والاقتصاد والاجتماع، حيث يبذل الناس جهدًا كبيرًا في السعي نحو التغيير والتحرر، لكنهم في النهاية يقعون في مواجهة مع واقع أكبر منهم، قد يبدو أنه محكوم مسبقًا. تبقى الإرادة العربية في سعيها نحو التغيير، ولكنها تصطدم في كثير من الأحيان بقدر متمثل في ظروف خارجية أو داخلية تفرض نفسها، مما يجعل هذا الصراع تراجيديًا في جوهره، ولكنه يستمر في شكل من أشكال المقاومة والتحدي.