ليلى عبد الأمير حين تتكئ القصيدة على ريشة وتكتب قلبًا

ليلى عبد الأمير حين تتكئ القصيدة على ريشة وتكتب قلبًا

في بغداد الكرخ، حيث تختلط ضوضاء المدينة بنبض دجلة، ويمتزج العطر العتيق للبيوت بالأحلام التي تسكن العيون، وُلدت الشاعرة ليلى عبد الأمير في اليوم الأول من تموز عام 1952، وفي تلك اللحظة، ولدت أنثى مختلفة، عيناها تتبعان المدى، وأصابعها تلوّن الكلمات كما لو كانت سماءً تستعدّ لاستقبال المطر.

نشأت في بغداد وتعلّمت بين مدارسها، ثم التحقت بأكاديمية الفنون الجميلة، قسم الرسم، لتتخرج عام 1970، وهي تحمل في قلبها لوحتين: واحدة ترسمها الألوان، وأخرى تنسجها المفردات. فليلى عبد الأمير لم تكن فنانة تشكيلية فقط، بل شاعرة تنظر إلى العالم بعين مزدوجة، ترى الصورة وترى ما وراءها، تسمع الكلمة وتسمع ما لا يُقال فيها.

ما يميز تجربة ليلى الشعرية أنها جاءت من ضفة الفن البصري، لذلك فإن قصائدها لا تُقرأ فقط، بل تُرى، تُستشعر كما تُستشعر الألوان حين تتراقص على سطح اللوحة. وفي دواوينها: “ثمة عزفٌ في السماء” و”أختفي وتلاحقني المرايا”، نجد شاعرًة تكتب من مكان مختلف، تهمس لا تصرخ، تُلمّح لا تُصرّح، وتدع القارئ يعيش القصيدة كمن يدخل إلى متحفٍ لا تُفسّر لوحاته بالكلمات بل بالحدس.

نشرَت قصائدها في العديد من الصحف والمجلات العراقية والعربية والعالمية، وكانت حاضرة في المشهد الثقافي بقوة الصمت لا صخب الادعاء، تكتب كأنها تُنصت إلى نبض الأرض، وتقرأ ما تخفيه السماء.

  لم تمر تجربة ليلى عبد الأمير مرورًا عابرًا في الذاكرة النقدية. كتب عنها طالب عمران المعموري بوصفها “شاعرة تنتمي إلى جيل الوجدان النقي”، واحتفى شكر حاجم الصالحي بشفافيتها قائلاً إنها “تنسج القصيدة من ضوء وسكون”. أما عبد الحسين الشيخ علي فقد رأى في نصوصها “انسيابًا يشبه الماء حين ينحت الحجر بصبرٍ طويل”، فيما أكد سعد الساعدي على “سحر التوازن بين الفكرة والصورة في تجربتها، حيث تنجح في الإمساك بجوهر الشعر دون أن تغرق في الزخرفة اللفظية“.

ولعل أبرز ما أجمع عليه النقاد أنها شاعرة تُحسن الإصغاء إلى دواخلها، وتُخرج من صمتها جمالًا خالصًا، لا يصرخ ولا يدّعي، بل يهمس في قارئه حتى يستكين له.

  بعد زواجها، انتقلت إلى مدينة الحلة، تلك المدينة العابقة بالتراث وبالقصائد، وهناك واصلت حضورها الثقافي، شاعرةً ومعلمةً وفنانة. شاركت في العديد من المهرجانات والأمسيات داخل العراق، وكانت عضوًا فاعلًا في اتحاد أدباء وكتّاب بابل منذ عام 2020، وكذلك في جمعية الفنانين التشكيليين ونقابة الفنانين والمعلمين، مما يدل على طبيعة شخصيتها الجامعة، التي تمزج الثقافة بالتعليم، والكلمة باللون.

كما تُرجمت بعض قصائدها إلى الإنجليزية، والفرنسية، والإسبانية، وهي إشارات واضحة إلى انفتاح تجربتها الشعرية على العالم، وقابليتها على ملامسة وجدان القارئ، مهما اختلفت لغته وثقافته.

تكتب ليلى عبد الأمير بعيدًا عن ضجيج الاستعراض، لكنها حين تكتب، تضعك في مرآة لا تعكس وجهك فقط، بل تعكس ما خلفه من أحلام وألم وحنين. لا تكتب لتُدهش، بل لتُواسي، لا لتتحدى، بل لتُضيء. ولعل في عنوان ديوانها “أختفي وتلاحقني المرايا” اختزالًا لجوهر تجربتها: شاعرة لا تسعى للظهور، لكن الشعر، كالمرايا، لا يكفّ عن ملاحقتها.

ولديها اليوم مخطوطتان شعريتان تنتظران النشر، وفيهما ما يؤكد أنها لم تزل على الطريق، تواصل العزف على أوتار داخلها، وتمنح القصيدة مزيدًا من الضوء.

وهي ليست مجرد اسم شعري، بل هي تجربة ناعمة، هادئة، لكنها متينة الجذور. شاعرًة تمشي إلى القصيدة كما تمشي الريشة إلى قماشة الرسم، بلا ضجيج، بلا افتعال، ولكن ببراعة الحرف وحسّ الفنانة التي تعرف أن أجمل الألوان، تلك التي لا تُرى بالعين وحدها، بل تُلمَس بالقلب.

هي ليلى التي “تعزف في السماء”، لكنها تُطربنا نحن، السائرين في الأرض. وهي ظلّ الشجرة الذي لا يطالب بشيء، لكنه يمنح الراحة للمُتعبين.

أحدث المقالات

أحدث المقالات