امس وصلنا انا وعائلتي الى مخيم النازحين، هي المرة الاولى التي ندخل فيها المخيم، فلم نكن نعلم اننا في يوم من الايام سنمضي الشتاء في خيمة تجلدها الامطار من كل صوب، وتهدد الرياح بقائها على الارض..
استلمت الخيمة من رجل الاغاثة بعد الظهر، كان اطفالي قد تجمدوا من البرد علما ان درجات الحرارة لم تصل الى ذروة بردوتها فالشمس ساطعة ولم يجن الليل بعد، لكن البرد قد نال منهم فهم لم يتعودوا على هذه الاجواء القطبية القاسية.اضطررت لنصب الخيمة وحدي، والمكان الذي تم تخصيصه لي كان متعرجا وموحلا.. حاولت معالجته بالمعول دون جدوى فيبدو ان السنين قد عملت عملها ونهبت من جلدي وقواي الكثير، فقد كنت في مطلع شبابي عاملا قويا وجلدا قبل ان ندخل حياة الراحة والترف والجلوس على المكاتب..
نظرت الى عمال الاغاثة نظرة انكسار لعلهم يبدون نوعا من المساعدة في نصب الخيمة، لكن يبدوا ان المواقف المماثلة التي صادفتهم خلال فترة تواجدهم في المخيم قد جعلتهم اكثر قسوة ومكنتهم من تجاهل نظراتي المتوسلة بطلب العون..ثم اتى احدهم الي جالبا بعض المواد الغذائية وبطانيتين فقط، فاخبرته اننا اربعة افراد واليوم هو الاول لنا في المخيم ونحن بحاجة لاغطية اكثر..
نظر الي وهو يرمي الاغراض بحدة ولسان حاله يقول “انت بطران”..!!
اكملت نصب الخيمة بشكل غير متقن، فسقفها كان يصدر صوتا يتناغم مع هبوب الريح الجافة والتي لها القدرة على سرقة ومضات الدفء من ادنى نقطة في جوف الانسان.
كنا جوعى ونعاني البرد، وعلى الرغم من نصب الخيمة الا ان ارضيتها كانت لا تختلف كثيرا عن الشارع الطيني القريب منا..فتشنا في المواد التي جلبها رجل الاغاثة، كانت عبارة عن حفنات من رز وبعض الزيت وكيس من الفاصوليا اضافة الى كيس سكر وآخر للشاي وكيس صغير من الملح.
نظرت الى وجوه الاطفال وهم يرتجفون كالفئران فداهمتني عبر بكاء خنقتها بما تبقى لي من صبر كي لا تتفجر ؛ وخنقتني حتى تجمد الدمع في مقلتي، فلو اطلقت تلك الصرخة لاسمعت كل من في المخيم، مع علمي ان ثمة مليون صرخة اطلقت قبلي لازالت آثارها ماكثة في اذن المكان..!!
ذهبت الى عمال الاغاثة علهم يغيثونا بمدفأة للطبخ وأملا في تنشيف المكان الموحل، لكنه فاجأني بانهم لم يعد لديهم شيئا لي فقد تم توزيع كل المدافئ، ثم ان المدفأة لا تنفعني على حد قوله لان النفط قد نفد ايضا.
اغلقت الابواب في وجهي؛ وانا افكر كيف سنواجه الليلة ببطانيتين دون اي فرش؟ وحتى لو توفر الفرش كيف سنضعه فوق الوحل..؟!
فجأة..وانا اعبث بحواف الخيمة هربا من رؤية منظر الاطفال المبكي، مر مجموعة من الشبان يتكلمون لهجة اهل الموصل التي كانت ترن في أذني كموسيقى حزينة، نظروا الى حالتي المزرية وحال الخيمة التي اختلف نظامها وطريقة نصبها عن باقي الخيام فمالوا نحوي.
– هل انت بحاجة لمساعدة؟
-نظرت اليهم وانا احاول حبس بعض الدموع التي هربت من مقلتي على حين غفلة وقلت:
– لقد وصلنا الان، كنا نسكن في المدينة لكن لا ادري كيف الظروف ساقتنا الى هنا ولا يوجد لدينا شيئ.نظر احدهم نحوي وقال هل يمكننا دخول الخيمة؟
-نعم ممكن فهي مشرعة الابواب طمعا في ان يسهم الهواء في تنشيف ارضيتها..-ألم يعطوكم بطانيات وفرش؟
-اثنين فقط..
-ومدفأة؟
-لا لم يعطونا قالوا انها نفدت..
خرج الشاب وهمس لزملائه وانطلقوا مسرعين، لحظات واذا بجيش من الشبان الاشداء يغطون رؤوسهم ووجهوههم ويلبسون ملابس كالتي يرتديها متسلقي الجبال المكتظة بالثلوج، وكان بايديهم معاول، ثم خرج الجيران من الخيم المجاورة على صوت الجلبة، وطلبوا مني اخراج العائلة من (الثلاجة) عفوا اقصد من الخيمة، وهرعت زوجة جارنا باخذهم الى خيمتهم المحصنة بالتراب على جانبيها بعد ان اوشكوا على التجمد من البرد، وبدأ بعض الشبان بالحفر داخل الخيمة واخراج الوحل منها، بينما دعاني جاري الذي كان يلف نفسه ببطانية -ظهر منها رأس النمر شاهرا انيابه الحادة نحوي وكانه يهددني- الى خيمته وقد اعدوا لنا شايا وبعض الطعام، وحين دخولي وجدت عائلتي قد اضمحلوا من البرد والخجل، حاولت ان ابث فيهم الامل فقلت مخاطبا جاري الجديد ربما معاناتنا ستكون في اليوم الاول فقط، وبعد ذلك ستكون الامور على ما يرام..!!
قال: اطمئن فالشباب يعرفون كيف يصلحون خيمتكم فهم يجوبون المخيم يقدمون المساعدة للجميع وهم على هذا الحال منذ اتينا الى هنا..!!
شعرت بالراحة فما اجمل ان يكون للمرأ عزوة في وقت الشدة..
خرجت من الخيمة واذا بخيمتنا قد تغيرت تماما فارضيتها صارت من التراب الجاف بعد ان ازال الشباب كل الاوحال واعادو نصبها بطريقة انيقة، ثم تفاجأت من كثرة المواد والاغراض الضرورية تملأ جانب الخيمة، فقد قام الشباب بجولة في المخيم وجمعوا ما هو فائض عن الحاجة وجلبوا مدفأة جديدة ونفطا ومواد غذائية وفرش لارضية الخيمة وثلاث بطانيات اخرى، وراح بعظهم يعزز جوانب الخيمة بالتراب كي تقاوم الريح العاتية..
شكرتهم على ذلك وقبل ان ندخل خيمتنا الجديدة …صحوت على آذان الفجر فنهضت واذا انا بفراشي الوفير والغرفة مليئة بالدفئ والهدوء حمدت الله كثيرا، ثم نهضت ومررت على الاطفال واذا بهم نائمون بعمق، عندها علمت ان ما يقاسيه النازحون هو اكبر بكثير مما نعتقد ونشاهد على التلفاز..
صليت الفجر والدموع تملأ عيني فلم اعد بحاجة لحبسها فانطلقت مدرارا وسط دعائي لكل من ترك منزله بالعودة الميمونة قريبا ان شاء الله..