23 ديسمبر، 2024 4:26 ص

ليلة القبض على الديمقراطية ونهار الاستنصار بالقيَم

ليلة القبض على الديمقراطية ونهار الاستنصار بالقيَم

أن أهم الحقائق التي لا تحتمل المقدّمّات فيما يخص ايصال حيدر العبادي الى سدة رئاسة الوزراء في العراق، هي الحقيقة التي يعُد تجاهلها إساءة لا تغتفر وطعنة نجلاء في صميم القيم الديمقراطية وعلى امتداد ما مرّ من التاريخ وما هو آت ، بل وبما يجعل من العبادي (الحاكم المدني لايران في العراق هذه المرة).. والمتمثلة في أنه رجلُ لم ينل ثقة أهالي حي من أحياء بغداد في انتخابات عام 2014 ناهيك عن عدم نيله ثقة بغداد بجانبيها الكرخ والرصافة أو بقية مدن العراق. حيث لم يحصل على ما يؤهله لنيل عضوية مجلس النواب العراقي، ولم تكن هناك من وسيلة أخرى سوى أصوات السيد المالكي التي زحف بها (على أربع) نحو المقعد البرلماني الذي حظي به. فالرجل ورغم وجوده الطويل في مراكز المسؤولية ومعارفه وأصدقائه وقبيلته المنتشرة في عموم محافظة بغداد والبوسترات التي تحمل ملامح هيئته السمجة المعلقة في كل حدب وصوب لم يتمكن من احراز سوى 5,151 صوت فقط (خمسة آلاف صوت ومائة وإحدى وخمسون) من مجموع أكثر من خمسة ملايين ناخب هم المؤهلون للإدلاء بأصواتهم في بغداد طبقا لما أعلنت عنه المفوضية العليا للإنتخابات.

لم ينظر العبادي حينها الى نصف الكأس الملآن، بل رأى في الوصول الى البرلمان بهذه الطريقة وحصول السيد المالكي على أكثر من 721,782 صوتاً (سبعمائة وإحدى وعشرون ألفاً، وسبع مائة وإثنان وثمانون)، رأى فيه إهانة تستوجب رد الاعتبار لنفسه من المالكي، وفرصة لتداول الأمر مع أحد نظرائه المكلفين في تقييم الأمور ورعاية مصالح الجمهورية الاسلامية في ايران، (السيد هادي العامري) وبالفعل لم يرى الأخير اختلافا كبيرا في وجهات النظر حول الموضوع بما يدعو الى تنسيق النقاط الرئيسية في التقارير المرفوعة الى المكاتب ذات الشأن في كل من الجمهورية الاسلامية والنجف الأشرف.

ومن وجهة نظر هؤلاء، فقد كان المالكي قد اقترف ومن خلال سياسته المعتمدة وطريقته في ادارة امور البلد، والتي أشرنا اليها في مقالنا السابق (الديمقراطية ما بين الإقرار أو الإحتضار وانهيار الدولة) والمتمثلة في ” انتهاج سياسة رجل الدولة الذي يقيم الاعتبار لإستحقاقات الأغلبية”.. كان قد اقترف بهذه الطريقة جرائم مُخلة بمصالح الدولة (الأم/ الجمهورية الاسلامية) وبما يدعو الى المعالجات السريعة والفعّلة لإعادة الأمور الى نصابها والإنطلاق مجددا نحو الهدف.

 لذا جاء تقييم هؤلاء بما يؤكد ان النتائج الأولية للإنتخابات تشير الى تراجع كبير لمكانة الاسلام السياسي في الشارع الشيعي العراقي لصالح القوى المستقلة والعلمانيين ، ويستدل أصحاب التقارير المرفوعة بما  حصل عليه المستقلون في دولة القانون من نسبة أصوات لا تكاد تقارن مع ما حصل عليه حزب الدعوة وفي الوقت عينه، تشكل أضعافا اذا ما قورنت بما حصلت عليه منظمة بدر برئاسة هادي العامري، وهي حالة لا يمكن الإطمئنان لها، فلا يوجد ما يلزم هؤلاء المستقلين لإسناد المالكي على طول الخط وبما يحتمل وقوع انتكاسة مفاجئة، أما في حال التزامهم المالكي سينتهي الأمر الى رفع سقف تطلعاته وتعزيز موقعه التفاوضي مع السلطة الدينية، والنتيجة (من وجهة نظرهم) سلبية في الحالتين!.

وتوحي نتائج الانتخابات (وحسبما يرى المكلفون برعاية المصالح) بما هو أعظم، فإن ما حصل عليه المالكي في بغداد (التي تعبّر بالضرورة بشكل ما، وبمستوى وآخر عن النبض العراقي العام)، من تأييد شعبي تجسّد في الرقم الهائل الذي قارب ثلاثة أرباع المليون من الناخبين من مختلف المكونات ومعظمهم من الشيعة والسُنة، يشير الى تنام سريع في شعبية ورمزية المالكي ومن المتوقع ان تؤدي الولاية الثالثة الى تعاظم قد يفوق رمزية المرجعية الدينية في الشارع الشيعي وهو أمر اضافة لما يحمل من تهديد للوجود الاسلامي الشيعي، سيتسبب بلا شك في خلق بيئة طاردة سوف يجابهها المرجع الأعلى القادم السيد محمد سعيد الحكيم بعد عمر طويل للسيد علي الحسيني السيستاني (أدام الله ظلّه الوارف).

لذلك كانت ليلة اعلان نتائج الانتخابات بشكل رسمي، ليلة التهاني الممتزجة بالسم توجه بها هؤلاء الى المالكي والذين كانوا سعداء مرّتين، الأولى لضمانهم المقاعد البرلمانية بالتسلق على أكتاف المالكي، والثانية لصدور قرار القاء القبض على الديمقراطية بإتخاذ القرار النهائي بتنحية المالكي والمستقلين في دولة القانون، ولا أشك بأن السيد المالكي ومنذ ليلة القبض على الديمقراطية وطوال هذه الفترة كان يتزود على الدوام وفي كل محطة يمر بها مزيدا من الحيطة والحذر من كل الأطراف ولو لم يكن كذلك لما وصلنا وإياه الى النهار الذي أشرقت فيه الشمس على قراصنة الدستور والمالكي في كامل الاستعداد القانوني والدستوري حاملا لشمعة الاستحقاق التي لن يستطيع كل ظلام العالم اخفاء نورها المتقد بإرادة الشعب العراقي، الشعب الذي لن يرضى بمصادرة خياراته وتنصيب من لم يحظى بأدنى مستويات الثقة الوطنية.

ولم يكن ما ورد من معلومات تحليلا شخصيا ، أو تجنياً على أحد، كلا بل هي حقائق مستقاة من تقرير كتبه أحدهم بأسم مستعار على شكل رؤى تحليلية في مواقع ألكترونية معروفة في ولائها للجمهورية الاسلامية الايرانية التي نكُن لها ككل دول جوار العراق بل وكل دول العالم، كل التقدير والاحترام مالم تزاحم أي من هذه الدول إرادة العراقيين أو تنصّب نفسها قيّما على خيارتهم المصيرية، لأن مثل هذا الحال لن يُكتب له النجاح، فالشعوب بشكل عام لم تعد على استعداد للتفريط بحريتها واستقلالها سواء على صعيد الأفراد أو صعيد المجتمعات، والشعب العراقي في مقدمة هذه الشعوب. وما حصل من دفع ومباركة لشخص فاشل لم ينل سوى 5 الاف صوت فقط، ولا يملك من المؤهلات سوى ما دفع من ضريبة التقارب مع كافة الأطراف تجسدت في الخيانة العلنية لكتلته وحزبه وأمين الحزب والمسؤول الوظيفي له، والتوقيع على قضية مصيرية منتحلاً شخصية الحزب دون تخويل مسبق تنفيذا لإرادات خارجية مفضوحة وواضحة. فما جرى هو بلا شك استفزاز لكل عراقي أصيل حتى وان لم يكن على وفاق مع المالكي واستخفاف بإرادته الحرة من قبل الدول والأطراف التي سارعت بالتهنئة والتبريك لشخص لا يمت في فعله وانتهازيته الى الخُلق والغيرة العراقية وروح المسؤولية والأمانة الوظيفية بأدنى صلة.

ومع هول الصدمة لنا جميعا جراء ما حدث والذي يؤكد ما ذكرنا في مقالات سابقة من أن المسألة لا تستهدف المالكي وحسب، بل عناصر القوة أينما وجدت في دولة العراق، لذلك نخشى ان يحقق العبادي مالم تحققه داعش التي تحطمت قرونها على صخرة الحكومة العراقية وصلابة وحدة المكون الشيعي العراقي عندما همّ الدواعش بتمزيق وحدة العراق، خشيتنا أن ينجح العبادي في تحويل الصراع الى عمق الساحة الشيعية العراقية.. وفي الحقيقة لو كنا نعتقد من قريب أو بعيد بأن في تنازل المالكي ضمانة لهذه الوحدة المجتمعية ، لكان لنا موقف مختلف آخر، لكننا نعتقد جازمين بأن التنازل هو اقرار بتمزيق الوحدتين الوطنية والمجتمعية معاً لمصلحة القيمومة السياسية لدول الجوار على هذا المكون الأصيل ، لذلك نرى بأن السيد المالكي اليوم في موقف يغبطه عليه كل أحرار العالم ، فما هو مأمول منه البقاء الى النهاية قابضاُ على الجمر، مبحرا في سفينة الدستور نحو شواطئ الاستحقاق، شاء من شاء وأبى من أبى ، خاصة وان الجميع يُدرك، وعلى المالكي أيضا أن يكون موقنا هو الآخر، بأن الارادة الشعبية التي يستند اليها والمتمثلة في بنود الدستور الذي تم التصويت عليه في ظروف حالكة بذل فيها الشعب العراقي أغلى ما يملك وأرخص في سبيل اقراره الدماء،  ستجعل من المالكي الذي يقف على الحق وحيدا اليوم، يجعل من وجوده المنفرد غدا أمة.. فإن الموقف الذي هو عليه، دحضَ ويدحض وفنّد ويفنّد كل النظريات الموبوءة والاتهامات المفبركة التي حاولوا الصاقها به سواءً الذين قالوا بأنه رجل الشرق أو من رأى العكس في أنه رجل الغرب أو من حاول الترويج بأن نتائج الانتخابات قد شابها التزوير على يد المالكي أو من اتهم المالكي بميول طائفية، كل هذه الذرائع والتهم الفارغة سقطت الى غير رجعة بما يضفي على علاقته بكافة العراقيين على اختلاف مكوناتهم مزيدا من الثقة المرتبطة بمدى ثقة المالكي بنفسه وعمق ايمانه باستحقاقه الانتخابي.. وليس نحن من نقول بل هي السُنن الكونية التي أقرّت لمن يتخذ الثبات نهجاً الى النهاية في مثل هذه المواقف الحقة، له أن يكون أمة أو أن يكون جديرا بإستحقاق قيادة الأمة.. وفي الحالتين يكون قد صان وحدة الوطن والمجتمع معا في نصرته للقيم واستنصاره بها أيضاً.

ولا نقول ما قلنا أو سنقول لاحقاً، إلا انطلاقا مما يمليه علينا الضمير الانساني ويحثنا اليه الوازع الوطني ندور مع الحق حيثما دار، لا نستوحش الطريق لقلة سالكيه ولا نخشى من قول ما يفضي اليه لومة لائم.

مقال سابق ذو علاقة وثيقة بالموضوع /
الديمقراطية ما بين الإقرار أو الإحتضار وانهيار الدولة
http://www.kurdistanpost.com/view.asp?id=95aedf2f