لو طلب مني أن أقدم ملخصا مسجوعا وإن كنت لا أحبذ ، ولا أجيد سجع الكهان، عن مجمل ما يجري في السودان ، لقلت بأن الحرب بين حميدتي والبرهان، ما هي إلا حرب بالوكالة ، وامتداد طبيعي لحرب الروس والاوكران ، وهزات ارتدادية للتحريض المتواصل والتحريش والاستفزاز الدائم بين واشنطن وبكين بشأن تايوان ،وتعبير عن غضب اميركا من الاتفاق المفاجئ بين السعودية وإيران ، ومن التحرك السريع والصادم للفرنسيين والالمان للخروج من عباءة الاميركان، فضلا على التحركات الجديدة ولأول مرة لدول (منظمة شنغهاي )، واتفاقية (بريكست) وبقية خصوم الكاوبوي الذي يقوده الحمار الديمقراطي حاليا برئاسة بايدن الزهايمري التعبان ، لاستبدال الدولار في الصفقات التجارية الكبرى ، إما بالعملات المحلية ، أو باليورو الاوربي، أو بالروبل والريال واليوان !
فما يجري في السودان حاليا لاعلاقة له بحميدتي والبرهان كـ قره قوزين سياسيين، وكبيدقي شطرنج متنافسين على السلطة وكرسي الحكم والنفوذ والسلطان بزعم ارسائهم لمرحلة انتقالية عسكرية تمهد لدولة مدنية لاحقة – بالمشمش – وما صعودهما ولا نزولهما من – طق طق الى سلام عليكم – الا بيد قوى خارجية اقليمية ودولية كبرى ، وإنما هي حرب دولية بالوكالة كما أن الصراع في السودان حاليا قد يطول ، ويطول كثيرا وقد يتمدد أكثر لأنه صراع عالمي وإن بدا محليا للناظرين وبواجهات ووجوه سودانية ، وهو جزء من الصراع الدولي المحتدم اضافة الى التحرك بين الفرقاء لبسط النفوذ على كل أفريقيا والشرق الأوسط .
فهذا الـ “حميدتي ” الذي أشعل فتيل الحرب الدائرة هناك هو الرجل الذي تنطبق عليه كل مواصفات (الميليشياوي ) وبإمتياز …أما البرهان فيمثل دور الجندي المطيع وذراع اميركا وبقية أذنابها في شمال وشرق أفريقيا ، وعندما أقول افريقيا فأعني بها أغنى قارة على سطح الكوكب في كل شيء بينما تعيش في أرجائها أفقر شعوب الأرض قاطبة ، وعلى ما يبدو فإن روسيا قد تريثت قليلا قبل تحريك بيدقها (حميدتي) على رقعة الشطرنج السودانية لحين الانتهاء من الملف السوري واليمني قبلها وقد أغلقا وأعتقد مؤقتا !
واذا أردت أن تفهم يوما من هو الشخص الميليشياوي وما هي صفاته فحسبك الاطلاع على سيرة – حميدتي – فهذا الرجل لم يخدم يوما في صفوف القوات المسلحة السودانية على الاطلاق وانما كان راعي ابل في دارفور ليتطور به الحال فصار حامي قوافل تجارية ” وربما مبتز لها وهذا ما أرجحه” على رأس ميليشيات مسلحة صحراوية قبل أن يقربه ” البشير ” ويمنحه – رتبة عسكرية – خارج نطاق الأعراف والتقاليد العسكرية ،بل وخارج اطار صلاحيات الرئيس ايضا – فصار حميدتي – وكما كان عليه الحال سابقا في العراق مع عبد حمود ، وحسين كامل ، وعلي كيماوي ، لتصبح سنة سيئة من بعدهم والى يومنا هذا – يرتقي بالرتب على أساس الرتبة – اللزك والكلك – الأولى حتى وصل الى رتبة فريق أول وهو لم يخدم في الجيش يوما = ضابط دمج !
وعندما طلب البشير دعم حميدتي وقواته ” الدعم السريع ” واسمها الحقيقي ما قبل التلميع الإعلامي هو ” ميليشيا الجنجويد ” لمواجهة الثورة ضده وإجهاضها دخل – محمد حمدان دقلو – وهذا هو اسمه الحقيقي – اما حميدتي – فهذا إسم الدلع – الى الخرطوم ليبسط نفوذه فيها ولأول مرة ، فيما غدر بولي نعمته – البشير – ولم يقدم له يد المساعدة بل وشارك في الانقلاب ضده لأن المصالح الشخصية والتوجيهات الخارجية تقتضي ذلك وهذه هي طبيعة الانتهازيين في كل زمان ومكان وكلهم يتبع أجندات وتوجيهات أسياده الخارجية ولا علاقة لهم بتطلعات شعوبهم ولا بالبرامج الوطنية إلا اذا اتفقت مع الخارجية منها ، ومع معايير الجواز والجنسية والتبعية والولاء المزدوج وسارت معها بسلاسة وعلى طول الخط !
فضلا على ذلك فإن “دقلو” هذا ملياردير يسيطر على مناجم الذهب في السودان وهو ثالث أكبر بلد باحتياطي الذهب في العالم ، كما يتقاضى حميدتي ملايين الدولارات من الاتحاد الاوربي مقابل الحد من الهجرة غير الشرعية الأفريقية تجاه اوروبا ،اضافة الى سيطرته على طرق القوافل التجارية .
– دقلو – أو حميدتي هو جزء من مشروع سابق أجهضته ثورة السودان – ياجماعة إن ثورة السودان ضد البشير قامت بعد أشهر على توقيع البشير اتفاقية مع الروس تسمح للكرملين ولأول مرة باقامة قاعدة بحرية على البحر الاحمر اضافة الى اتفاقية لاستثمار الذهب والتعدين في السودان ، ولهذا السبب فأنا لا أثق بكثير من الثورات الشعبية التي تندلع بعيد ابرام وتوقيع اتفاق اقتصادي وعسكري كبير مع دولة كبرى ، بما يغيض دول منافسة كبرى أخرى فالثورة ضد القذافي اندلعت بعد قراره سك الدينار الافريقي الذهبي الموحد والتخلص من ربقة الدولار ، زيادة على منح الرّوس قاعدة عسكرية في بنغازي ، و منح شركة ” غازبروم”، الروسية رخصة إقامة خط أنابيب جديد لنقل الغاز الليبي إلى أوروبا ، وقس على ذلك العديد من الثورات الشعبية في العراق والعالم ، ومازال حميدتي يعد جزءا من اتفاقية اقامة قاعدة روسية حربية على البحر الأحمر ، وله ارتباط بمنظمة فاغنر الروسية ما يؤشر إلى أن الصراع في السودان ليس بين – دقلو والبرهان – بحسب المعلن بقدر ما هو بين روسيا الزاحفة على افريقيا كلها وبقوة ، وبين بقايا نفوذ اميركا وأوربا المتراجع فيها ، وتأسيسا على ذلك فلن تنتهي الحرب الا بالقضاء على أحدهما ، أما البرهان وأما حميدتي ولايفوتنك بأن اميركا تتحين الفرصة للتدخل عسكريا في السودان بذريعة حماية مصالحها ومواطنيها العالقين في السفارة هناك وللحد من الامتداد والتغول الروسي في السودان !
– حميدتي – له ارتباط بالرئيس الاثيوبي – آبي احمد – ما يفسر حركته على أنها جزء من لعبة السيطرة على منابع النيل ومشروع سد النهضة ، كما أنه شخص قبلي وبذهنية عشائرية بحتة أكثر منه شخص عسكري أو وطني ولطالما رفض حميدتي وماطل بدمج قوات الدعم السريع بالجيش السوداني ، مطالبا وفي حال دمجها بأن تكون قيادتها منفصلة عن قيادة الجيش وأن تكون إدارة القوات الموحدة والمدمجة بإمرته فقط !
أما عن القوة المصرية التي تم احتجازها في مطار مروي فهذه وبحسب الرواية ” البرهانية ” موجودة لاجراء مناورات عسكرية مشتركة بين الجيشين السوداني والمصري ، أما بحسب الرواية المصرية فهي لمراقبة تحركات بناء سد النهضة ..وأما وفق الرواية “الحميدتية ” فهذه قوات منتشرة للمشاركة مع الجيش السوداني للقضاء على “قوات الدعم السريع ” الجنجويد سابقا متى ما صدرت الأوامر لها بذلك لأنهاء وقطع (اصابع فاغنر الروسية ) وذراع الكرملين في السودان !!
ولكي نفهم ما يدور في السودان ، ونستوعب بعضا من جوانب وخلفيات الصراع وخفاياه لابد لنا من أن نلج من أبواب موصدة أو أنها لا تبدو مشرعة إلا لمن يطرقها ثلاثا و بإلحاح ، أولهما الصراع القبلي في السودان ، وثانيهما وثالثهما على التوالي التغول الصيني أسوة بالامتداد الروسي في القارة السمراء .
فخطورة استمرار القتال بين “أنصار البرهان ” واتباع ” حميدتي ” وبينهما ” بقايا اتباع وفلول نظام عمر البشير وحزبه المنحل ، تارة مع هذا الطرف ، وأخرى مع ذاك إنما يكمن بدخول القبائل السودانية طرفا في النزاع الدامي حيث أن السودان الذي يحتضن (570) قبيلة تنتمي الى (57) مجموعة عرقية يعاني من صراعات قبلية دامية لم تتوقف قط بوجود ترسانات من الاسلحة وقد شهد السودان (25) صراعاً قبليا دموياً بين عامي 2000 و 2010 فضلا على (30) صراعا قبليا دمويا بين 2010 و2014 علاوة على الأحداث الدامية التي تشهدها دارفور والنيل الازرق على مر عقود ..
وكلما طال أمد النزاع بالتزامن مع فشل الوساطات ومن دون توقف ،كلما أغرى القبائل للتدخل طرفا في القتال الدامي ولاسيما مع دعوة كل من البرهان وحميدتي وبقايا فلول نظام (البشير) لقبائلهم للتدخل وتقديم الدعم والاسناد ، اضافة الى تشجيع القبائل ذات النزعات الانفصالية بتجديد دعوات الانفصال عن السودان ليتحقق بذلك مشروع الباحث البريطاني – الأمريكي بشؤون الشرق الاوسط ، الصهيوني “برنارد لويس”والذي وافق على مشروعه التقسيمي وخارطته الانشطارية الكونغرس الأمريكي وبالإجماع عام 1983م والقاضي من جملة خططه الجهنمية بتقسيم السودان الى (دويلة النوبة ) وعاصمتها أسوان، ودويلة شمال السودان وعاصمتها الخرطوم، اضافة الى (دويلة دارفور) وعاصمتها الفاشر، زيادة على دويلة جنوب السودان المسيحية وهذه قد انفصلت واقعا عام 2011 بعد عقود من المعارك الدامية والحروب الاهلية .
بالمقابل لايمكن للصين الماضية في استراتيجية (الحزام والطريق) وفتح أسواق جديدة أمام الصادرات الصينية، من خلال إشراك الأسواق والموانيء الافريقية في استراتيجيتها الدولية علاوة على زيادة حجم الاستثمارات هناك، أن تذهل عن السودان أسوة بالقارة السمراء وهي بالنسبة للتنين الصيني بمثابة الدجاجة التي تبيض ماسا وذها ، حيث تمتلك إفريقيا ملايين الدونمات من الأراضي الزراعية الخصبة ، و10% من مصادر المياه العذبة ، و 40% من احتياطي الذهب ، و 90% من الكروم والبلاتين فضلا على احتياطات ضخمة من النفط العالمي ، والغاز الطبيعي حتى أصبح العدد الإجمالي للبلدان الأفريقية المرتبطة بمبادرة (الحزام والطريق) ما يقرب من (42) دولة افريقية تسيطر الصين حاليا على العشرات من موانئها بحسب المراقبين والخبراء ، فيما تستعد الصين لبيع سيارتها الكهربائية ( ولينغ هونغ غوانغ ميني) منخفضة الثمن في الأسواق الافريقية .
بدوره يسعى الدب الروسي للبحث عن أطواق نجاة وعن مخارج آمنة لمأزقه الأوكراني الخانق للنفاذ مع قبضة العقوبات – الاور اميركية – المفروضة عليه وتعويض نقص الإمدادات في أفريقيا التي ترفض معظم دولها التصويت على فرض مزيد من العقوبات على الكرملين ، ولايفتأ رئيسه بوتين ، وكذلك وزير خارجيته المحنك (لافروف ) من تذكير الافارقة في كل شاردة وواردة و لاسيما بالقمم الافريقية – الروسية بحضور 43 رئيس دولة أفريقية بسجل أميركا وفرنسا والدول الأوروبية الاستعماري وتاريخهم الامبريالي الغارق بالدماء والدخان وعلى مدار قرون في القارة السمراء ، مقابل الدور الروسي الداعم والمساند للشعوب الافريقية للتحرر من ربقة الاستعمار الذي ساق مئات الالوف من الأفارقة عبيدا الى أوروبا و الأميركيتين .
المفارقة العجيبة بأن افريقيا العذراء الغنية بالموارد الطبيعية والاراضي الخصبة والمعادن النفيسة تعد موطنا لأكثر من 60٪ من فقراء العالم بحسب البنك الدولي بوجود توقعات تكشف عن ارتفاع النسبة عام 2030 لتصل الى 90 % ، فيما ارتفعت نسبة الفقر في دولة السودان وحدها إلى أكثر من 60% مصحوبة بإنعدام الأمن الغذائي وحاجة أكثر من 13 مليون من الشعب السوداني إلى مساعدات غذائية عاجلة وفقا للأمم المتحدة .
وحري بالافارقة عامة، وبالسودانيين خاصة والكل يتحرك اليوم وبقوة لإعادة استعمارهم واستعبادهم مجددا، استدعاء أبيات تفيض عزة وكرامة وعذوبة ووطنية لشحذ الهمم ، ونبذ الفرقة ، وتوحيد الصفوف، بدلا من الاستعداء والتحريش بين الاعراق والقوميات والمذاهب والاديان ،نظمها الشاعر السوداني محمد الفيتوري،يوما ويقول فيها :
إن نكن سرنا على الشوك سنينا
ولقينا من أذاه ما لقينا
إن نكن بتنا عراةً جائعينا
أو نكن عشنا حفاةً بائسينا
إن تكن قد أوهت الفأس قوانا
فوقفنا نتحدى الساقطينا
كيف يستعبدُ أرضي أبيضٌ
كيف يستعبدُ أمسي وغدي؟
كيف يخبو عمري في سجنه
وجدارُ السجن من صنع يدي !
الى هنا يمكنني القول وباللهجة الدارجة ” كافي حبايبي ..تره تعبت من الكتابة والثرثرة والتصديع ، ولاسيما ونحن نعيش أجواء العيد ، والجو بديع، قفلي على كل المواضيع على قول السندريلا ” على أمل اللقاء بكم في مقال قريب جدا بإذنه تعالى عن آخر التطورات والأحداث على الساحة – الافريقية – ولا أقول السودانية لتتماهى معها بإطراد ، وبما يلائمها ، لأن الصراع في حال استمراره سيمتد إلى دول أفريقية قريبة ومجاورة بدءا بإثيوبيا وإريتريا ، مرورا بمصر وليبيا،وليس انتهاءا بتشاد وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان .اودعناكم اغاتي