19 ديسمبر، 2024 5:02 ص

ليس بالخبز وحده تنهض الأمم

ليس بالخبز وحده تنهض الأمم

كم هو مؤلم أن ترى العالم كلّه يبني ويتقدّم ويزيّن مدنه وبلداته وقراه، بعد أن انتهى من بناها التحتية وكلّ بناها الفوقية، بينما مدننا التي لا تضارعها مدينة في تاريخها واسمها وشهرتها آيلة إلى الخراب والانكماش والفوضى. الهوة الحضارية والعمرانية والثقافية صارت أكبر من أن تردم، وصار حالنا مع العالم حال المتسابق التعبان غير المدرّب الذي يجاري العدّائين فيلفون عليه ساحة السباق مرات ومرات ومرات وهو لمّ يتمّ بعد لفته الأولى. لستُ هنا إلا في صدد بث الوجع والحسرة والألم. لا أستغرب ولا أستفهم ولا أدين. فكل شيء واضح وكل الأسباب معروفة وكلّ العلّة بادية لكلّ ذي عين.
لا شكّ أنّ أيّا منا يزور بين حين وحين هذا البلد أو ذاك. تلك العاصمة أو هذه.
ولا شكّ أنّه يستغرب ويتألم وهو يلاحظ القفزات والطفرات التي يقفزون ويطفرون بمدنهم وبلدياتهم وخدماتهم بين سفرة وسفرة.تركتُ غرناطة الإسبانية عام 1989 في حال وعدتُ إليها عام 1998 وهي في حال أخرى مختلفة تماما. أمّا في عام 2004 فلم أعرف حين نزلت من القطار في محطة غرناطة أين أنا. ولم أمسك برأس الخيط إلا بعد مسيرة كيلومترات بالتكسي.لقد قلبوا المدينة رأسا على عقب. نحو الأحسن طبعا. ونحو الأجمل. ونحو الأهدأ. ونحو الأصح.
مزيد من المساحات الخضراء
مزيد من طرق السابلة
مزيد من الطرق المخصصة للدراجات
مزيد من التشدد مع وسائل النقل الخاصة والتضييق على وصولها إلى قلب المدينة.
رأيت أرصفة المارة وقد أصبحت أعرض. والشوارع المخصصة للسيارات وقد انكمشت وتقلصت.
أصص الأزهار على أعمدة النور. تسقى بالمطر إن سقط المطر، أو بآلية ابتدعوها هم إن حلّ قحط أو جفاف.
حافلات النقل العام تعمل وفق نظام التحويل من منطقة إلى منطقة باستعمال البطاقة ذاتها. فضلا عن فرشة من الوسائل والطرق في شراء البطاقات. بطاقات شهرية وأخرى يومية وأخرى مرجعة وأخرى لا أعرف ماذا.
سيارات تكسي للعجزة. وحافلات واطئة في منطقة الصعود. مقاعد محجوزة للمقعدين وذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن.

قد لا أنتهي من سرد هذه التفاصيل وغيرها الكثير الكثير. فالأدمغة هناك تشتغل. والبال هناك موجه للربح وللخدمة أيضا. لتسهيل الأمور ولكسب المال. فالتجارة لا تعني الغش ولا تعني ” الشفط ” مقابل لا شيء. ناس يعملون بضمير مادي وضمير روحي. ربّما لا يمحّصون كما نمحّص في الحلال والحرام. ربّما لا يهتدون بخطى رسول أو إمام أو شيخ كما نزعم نحن. لكنّهم يهتدون بما هو أهمّ وما هو أصدق بالنسبة إليهم: النزاهة ومراقبة النفس واحترام الذات.
كنتُ أقرأ قبل أيام عن مدينة إسبانية أخرى. هي مدينة (فيتوريا) عاصمة إقليم الباسك الصناعي. يقول التقرير إنّها تبلغ 276 كيلومترا مربعا مساحة وكان عدد نفوسها عام 1950 خمسين ألفا. أمّا الآن فهي مدينة يبلغ عدد سكانها ربع مليون نسمة. لقد اختيرت هذه المدينة عام 2012 عاصمة خضراء لأوربا، كما نختار نحن ” عواصم الثقافة العربية “. فالمدينة تحتفظ بـ 45 مترا مربعا من المناطق الخضراء للفرد الواحد، وتضمّ أكثر من 33 كيلومترا من الشوارع المخصصة للسابلة، و90 كيلومترا من الطرق المخصصة للدراجات الهوائية وسورا أخضر من 60 هكتارا من الحدائق المحيطة بها. ولن نتكلم عن مظاهر الحركة الثقافية والفنية والاجتماعية والسياحية والعلمية في هذه المدينة وأيّة مدينة سواء أكانت إسبانية أم بولونية أم برتغالية أم ألمانية أم ماليزية أو هندية حتى. وما أحكيه عن غرناطة وفيتوريا يستطيع أيّ منكم أن يحكيه عن البلدة أو القرية أو المدينة التي يسكن فيها وعن التطوّر الذي شهدته بين يوم وصوله إليها ويومنا هذا.
هم يتحركون في اتجاه غير الذي نتحرك صوبه.
لذلك فهم ينعمون برفاهية في العيش وبحبوحة في الاقتصاد وسعة في الموارد واتساع في أفق التقدم والمناورة صوبه، بينما انحشرنا نحن في زاوية صارت غاية أملنا فيها أن نسلم على ريشنا وأن نطيل في أعمار الموجودين. أمّا القادمون. أمّا الأولاد والأحفاد فقد تركنا مصيرهم للسماء. ألا يقال إنّ الطفل يولد وخبزته تحت إبطيه؟ 
أخشى أن يكون الخبز قد نفد
هذا إذا كان بالخبز وحدة تعيش الشعوب وبالخبز وحده تنهض الأمم وتبنى الحضارات. 

أحدث المقالات

أحدث المقالات